الأمر الرابع محطّ البحث فی الإجزاء
هل هو فیما إذا تعدّد أمرین تعلّق أحدهما بالطبیعة حال الاختیار والعلم ، والآخر بها حال الاضطرار أو الجهل ، أو فیما إذا کان هناک أمر واحد ومأمور واحد ، والاختلاف إنّما هو فی الفرد بلحاظ الحالات الطارئة ؟
ولیعلم : أنّ معرفة هذا الأمر لها أهمّیة فی مبحث الإجزاء ، بل یمکن أن یقال : إنّها مفتاح باب الإجزاء .
یظهر من بعضهم : أنّ محطّ البحث فی الإجزاء فیما إذا کان هناک أمرین مستقلّین تعلّق أحدهما بنفس الطبیعة بلحاظ حال الاختیار والعلم ، والآخر بتلک الطبیعة بملاحظة حالتی الاضطرار والجهل ، فیبحث فی أنّ إتیان متعلّق الأمر الاضطراری أو الظاهری یجزی عن المأمور به بالأمر الواقعی أم لا ؟ أی یبحث فی کفایة امتثال أحد الأمرین الاضطراری أو الظاهری عن امتثال الأمر الواقعی .
کما أنّه یظهر من بعض آخر : أنّ محطّ البحث فیما إذا کان هناک أمر واحد تعلّق بنفس الطبیعة ، ولکن الأدلّة دلّت علی اختلاف أفراد هذه الطبیعة واختلاف الحالات الطارئة علی المکلّفین ، وأنّ کلّ واحد منهم یجب علیه إیجاد الطبیعة فی ضمن ما هو فرد لها بحسب حاله .
مثلاً قوله تعالیٰ : «أقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلیٰ غَسَقِ اللّیْلِ» یدلّ علیٰ وجوب الصلوات الیومیة فی أوقاتها المقرّرة علیٰ جمیع آحاد المکلّفین ؛ من القادر
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 290
والعاجز ، والصحیح والسقیم ، وواجد الماء وفاقده ، إلیٰ غیر ذلک من الحالات الطارئة . فالواجب علیٰ جمیع المکلّفین إیجاد طبیعة الصلاة لا غیر .
نعم ، القادر والصحیح یأتیانها بنحـو والعاجـز والسقیم یأتیانها بنحـو آخـر ، کما أنّ واجـد الماء یأتیها مـع الطهارة المائیة وفاقـده یأتیها مـع الطهارة الترابیـة ، فمرجعها إلـیٰ قیود المأمـور به ، فکأنّه یصیر المأمـور به علـی أصناف ویبحث فـی أنّ الإتیان بأحـد مصادیق المأمور به هل یوجب سقوط الأمـر المتعلّق بنفس الطبیعـة أم لا ؟
وبالجملة : یظهر من بعضهم ـ ولعلّه الظاهر من کلمات أکثر المتأخّرین ؛ ومنهم المحقّق الخراسانی قدس سره ـ أنّ محطّ البحث فیما إذا کان هناک أمران تعلّقا بشیئین ؛ حیث قالوا : إنّ المأمور به بالأمر الاضطراری ـ مثلاً ـ یجزی عن المأمور به بالأمر الواقعی ، وهذا بظاهره یدلّ علیٰ تعدّد الأمر ، کما لا یخفیٰ .
کما أنّ صریح بعض آخرین : أنّ محطّ البحث فی أمر واحد تعلّق بنفس الطبیعة ، والاختلاف فی القیود والمشخّصات الفردیة یرجع إلی المأمور به ویجعله أصنافاً متعدّدة ، فیبحث فی أنّ الإتیان بفرد الاضطراری من الطبیعة أو الظاهری منها هل یوجب سقوط الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة ، أم لا ؟
وذهب القائل بتعدّد الأمر بأنّه لو شکّ فی الإجزاء ولم یکن إطلاق فی البین فالأصل البراءة . ومراده بذلک هو أنّ الأمر المتعلّق بإتیان الصلاة مع الطهارة المائیة ـ مثلاً ـ قد سقط بالتعذّر عنها ، والأمر بالصلاة مع الطهارة الترابیة قد امتثلت . وبعد زوال العذر لو شکّ فی لزوم إتیان الصلاة مع الطهارة المائیة فمرجعه إلی الشکّ فی فعلیة أصل التکلیف بعد العلم بسقوطه ، وواضح أنّ مقتضی الأصل البراءة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 291
وأمّا لو کان الأمر واحداً فمرجع الشکّ إلی أنّ المصداق الاضطراری الذی أتیٰ به هل یوجب سقوط الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة أم لا ؟ وواضح أنّ مقتضی الأصل الاشتغال .
ولعلّ منشأ القول بوحـدة الأمر وتعـدّده هـو إمکان جعل الجزئیـة والشرطیـة والمانعیـة وعدمها ؛ فمـن قال بإمکان ذلک ـ کما ذهبنا إلیه ، ویأتـی الکـلام فیه مستـوفاة إن شاء الله فـی مبحث الاستصحاب ـ فلا مانـع لـه مـن أن یقول : إنّ الأمـر متعلّق بنفس الطبیعـة ، والأدلّة الاُخـر أثبتت قیوداً وشرائط اُخـریٰ فـی المتعلّق .
فعلیٰ هذا : لا یتصرّف فی ظواهر الأدلّة المثبتة للجزئیة والشرطیة والمانعیة ، بل یبقیها علیٰ ظاهرها .
فعلیٰ هذا لیس هنا إلاّ أمر واحد متعلّق بصیغة الصلاة ـ مثلاً ـ وإنّما القیود خصوصیات المأمور به ، فیبحث فی أنّ الإتیان بأحد مصادیق المأمور به ، هل یسقط الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة ، أم لا ؟
وأمّا من یری امتناع جعل الجزئیة والشرطیة والمانعیة مستقلاًّ فلابدّ له من التصرّف فیما ظاهره الاستقلال فی الجعل ، وجعله إرشاداً إلیٰ ما جعله جزءً أو شرطاً أو مانعاً حین الأمر بالمرکّب .
وبالجملة : یریٰ أنّه لا یعقل طروّ التقیید علی الطبیعة المأمور بها بعد لحاظها وتعلّق الأمر بها . وإذا اُرید تقییدها فلابدّ من رفع الید عن الأمر بنفس الطبیعة من دون تقیید ، والقول بتعلّق الأمر بالطبیعة المتقیّدة .
وحیث إنّه وردت أدلّة تکـون ظاهرها إثبات الشرطیـة ـ مثلاً ـ کقوله علیه السلام :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 292
«التراب أحد الطهورین» ، فیستکشف مـن ذلک عن وجـود أمـر متعلّق بالطبیعة المتقیّدة بالطهارة الترابیـة ـ مثلاً ـ فیلزم وجـود أمـرین تعلّق أحـدهما بالصلاة المتقیّدة بالطهارة المائیـة للمختار ، وتعلّق الآخـر بالصلاة المتقیّدة بالطهارة الترابیـة للمتعذّر ، هذا .
وحیث إنّ المختار ـ کما سیجیء ـ إمکان جعل الجزئیة والشرطیة والمانعیة فلاوجه للتصرّف فی أدلّة الجزئیة والشرطیة والمانعیة وصرفها عن ظاهرها .
فإذن : لیس هنا إلاّ أمر واحد تعلّق بطبیعة الصلاة ـ مثلاً ـ وإنّما القیود من خصوصیات المصادیق ؛ إذ قوله تعالیٰ : «أقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوکِ الشَّمْسِ إلیٰ غَسَقِ اللّیْلِ» یدلّ علیٰ وجوب الصلاة فی هذا الوقت المضروب لها ، ثمّ دلّ دلیل علی اشتراطها بالطهارة المائیة حال الاختیار ، وعلی اشتراطها بالطهارة الترابیة عند فقدان الماء ؛ بحیث یکون المأتی بالشرط الاضطراری نفس الصلاة التی یأتیها المکلّف بالشرط الاختیاری بلا اختلاف فی المتعلّق والصلاة والأمر .
کما هـو ظاهر قوله تعالـیٰ : «یَا أیُّهَا الَّذِینَ آمَنُوا إذَا قُمْتُمْ إلَی الصَّلاَةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَکُمْ وَأیْدِیَکُمْ إلَی الْمَرافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِکُمْ وَأرْجُلَکُمْ إلَی الکَعْبَیْنِ . . .»إلی أن قال سبحانه : «فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَیَمَّمُوا صَعِیداً طَیِّباً» .
فإنّ ظاهرها : أنّ الصلاة التی سبق ذکرها فی صدر الآیة واشترطت بالطهارة المائیة یؤتیٰ بها عند فقد الماء متیمّماً بالصعید ، وأنّها فی هذه الحالة عین ما تقدّم أمراً وطبیعة وماهیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 293
وبالجملة : أنّ الکیفیات الطارئة من خصوصیات المصادیق لا من مکثّرات موضوع الأمر ، ولا یکون للطبیعة المتقیّدة بکیفیة أمر ، وبکیفیة اُخریٰ أمر آخر . والنزاع وقع فی أنّ الإتیان بمصداق الاضطراری للطبیعة هل یوجب سقوط الأمر عنها ، أو لا ؟ وقس علیه الحال فی الأوامر الظاهریة حرفاً بحرف .
تنبیه
ولیعلم : أنّه ـ کما أشرنا إلیه غیر مرّة ـ أنّ ما ذکرناه هنا وما نشیر إلیه فی أثناء المباحث الآتیة إنّما هو ملاحظة حال الموالی العرفیة بالنسبة إلیٰ عبیدهم ومَن یکون تحت اختیارهم وسیطرتهم ؛ لأنّه لا طریق لنا إلی معرفة حال المبادئ العالیة فی کیفیة جعل الأحکام ووضع القوانین ، فلو قلنا فی هذا المضمار شیئاً فإنّما هو علیٰ سبیل المقایسة بین المولی الحقیقی والموالی العرفیة ، ولیکن هذا علی ذکر منک فلعلّه ینفعک .
إذا عرفت الاُمور التی ذکرنا فالکلام یقع فی مقامین :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 294