المقصد الأوّل فی الأوامر

الأمر الثانی فی تفسیر الکلمات المأخوذة فی عنوان المسألة

الأمر الثانی فی تفسیر الکلمات المأخوذة فی عنوان المسألة

‏ ‏

منها : کلمة الاقتضاء

‏قد ظهر لک ممّا ذکرنا فی الأمر الأوّل : أنّ الاقتضاء بمعنیٰ دلالة الأمر بمادّته أو‏‎ ‎‏هیئته دلالة لفظیة ـ حتّیٰ دلالة التزامیة ـ لا تدلّ علی الإجزاء ؛ بأیّ معنیٰ فرض ،‏‎ ‎‏فالمراد به الاقتضاء بنحو العلّیة والتأثیر أو غیر ذلک .‏

ذهب المحقّق الخراسانـی ‏قدس سره‏‏ إلـی أنّ المـراد بالاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحـو‏‎ ‎‏العلّیـة والتأثیـر ، لا بنحـو الکشف والدلالـة ؛ ولـذا نسب إلـی الإتیان لا إلـی‏‎ ‎‏الصیغة‏‎[1]‎‏ .‏

‏وقال ‏‏قدس سره‏‏ فی تفسیر الإجزاء : إنّ الإجزاء هنا بمعناه لغة ؛ وهو الکفایة ، وإن کان‏‎ ‎‏یختلف ما یکفی عنه ؛ فإنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یکفی فیسقط به التعبّد به‏‎ ‎‏ثانیاً ، وبالأمر الاضطراری أو الظاهری الجعلی یکفی فیسقط به القضاء أو الإعادة ،‏‎ ‎‏وذلک لا یوجب اختلافاً فی معنی الإجزاء‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه ‏‏قدس سره‏‏ إن أراد بالعلّیة والتأثیر ما هـو المعروف بین أرباب المعقول ،‏‎ ‎‏ففیه : أنّ العلّیة والمعلولیة عبارة عن کـون موجـود مبدأ تأثیر لموجـود آخـر‏‎ ‎‏بوجـه ، کالنار أو الشمس ـ مثلاً ـ بالنسبـة إلی الإحـراق والإشراق ، وواضـح أنّ‏‎ ‎‏الإجـزاء ـ سواء فُسّر بالکفایـة ، أو اُرید منـه سقـوط الإعادة أو القضاء ـ فلا‏‎ ‎‏معنـی للعلّیة والتأثیر .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 282
‏وذلک لأنّه إن اُرید به : الکفایة ـ کما صرّح ‏‏قدس سره‏‏ بأنّها معنی الإجزاء هنا ـ‏‎ ‎‏فواضح أنّ الکفایة لم یکن أمراً موجوداً فی الخارج لیتأثّر عن إتیان المأمور به ، ولم‏‎ ‎‏یکن إتیان المأمـور به فی الخارج بحـدوده مؤثّراً فیها ، بل هـی أمـر اعتباری بمعنیٰ‏‎ ‎‏سقـوط الإعادة فـی الوقت والقضاء فـی خارجـه . بل الکفایة عنوان انتزاعی بحکم‏‎ ‎‏العقل والعقلاء منتزعـة من إتیان المأمـور تمام ما اُمـر به ، وواضـح أنّ العلّیة‏‎ ‎‏والمعلولیة لم تکونا فی الاُمور الاعتباریة ، فضلاً عن کونهما فی الانتزاعیات . ولعلّه ‏‏قدس سره‏‎ ‎‏لم یرد بالعلّیة والتأثیر ما هو الظاهر من کلامه ، بل أراد بهما المعنی المقابل للکشف‏‎ ‎‏والدلالة ، فتدبّر .‏

‏وإن اُرید بالإجزاء : سقوط الإعادة فی الوقت والقضاء خارجه ـ وواضح أنّ‏‎ ‎‏التعبیر بالسقوط مسامحی ؛ لأنّ المراد عدم التکلیف بالإعادة أو القضاء ، کما لا یخفیٰ ـ‏‎ ‎‏فالمحذور أفحش ؛ لأنّه مضافاً إلی أنّه لا معنی للتأثیر والتأثّر اللذین یکونا فی الاُمور‏‎ ‎‏التکوینیة بالنسبة إلی إتیان المأمور به بلحاظ سقوط الإعادة أو القضاء ، یلزم أن‏‎ ‎‏یکون الأمر الوجودی ـ وهو الإتیان ـ علّة للأمر العدمی ، وهو محال فی التکوینیات ،‏‎ ‎‏فما ظنّک هنا ؟ ! فلم یکن الباب باب التأثیر والتأثّر .‏

‏وبالجملة : لا یصحّ أن یراد بالاقتضاء العلّیة والتأثیر علیٰ ما هو المعروف بین‏‎ ‎‏أرباب المعقول ؛ لعدم کون إتیان المأمور به فی الخارج بحدوده وقیوده مؤثّراً فی‏‎ ‎‏الإجزاء ؛ سواء کان الإجزاء بمعنی الکفایة کما علیه المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ وقد عرفت‏‎ ‎‏ضعفه . أو اُرید منه سقوط الأمر بالإعادة أو القضاء ؛ لما أشرنا من عدم کون الإتیان‏‎ ‎‏علّة مؤثّرة فی سقوط الأمر ، کما أنّ السقوط والإسقاط لیستا من الاُمور القابلة للتأثیر‏‎ ‎‏والتأثّر .‏

‏أو اُرید منه سقوط الإرادة ، فکذلک بل الأمر فیه أوضح ؛ ضرورة أنّه لا یصیر‏‎ ‎‏إتیان المأمور به علّة لانعدام الإرادة وارتفاعها ؛ لأنّ تصوّر المراد بما أنّه الغایة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 283
‏والمقصود والتصدیق بفائدته مع مبادٍ آخر علّة لانقداح الإرادة فی لوح النفس ،‏‎ ‎‏والمأمور به بوجوده الخارجی معلول للإرادة ، فلا یعقل أن یکون المعلول بوجوده‏‎ ‎‏الخارجی طارداً لوجود علّته .‏

‏وغایة ما یمکن أن یقال فی سقوط الإرادة والأمر عند حصول المراد والإتیان‏‎ ‎‏بالمأمور به ، هو الذی اختاره سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فی الدورة السابقة ،‏‎ ‎‏وحاصله : هو انتهاء أمد الإرادة والأمر بإتیان المأمور به ، لا أنّ لهما بقاء والإتیان رافع‏‎ ‎‏لهما ومُعدم لهما کما هو قضیة العلّیة .‏

‏وذلک لأنّ الأمر بشیءٍ لابدّ وأن یکون للوصلة إلی غرض وجهة منظورة وإلاّ‏‎ ‎‏لم یصحّ منه الأمر ، والأمر طریق ووُصلة یتوصّل به المولیٰ إلیٰ نجاح غرضه ، وواضح‏‎ ‎‏أنّ غرضه کان محدوداً بحدّ خاصّ ، فإذا أتی العبد المأمور به بتمامه فیحصل به الغرض ،‏‎ ‎‏وبعد حصوله یسقط الإرادة ویسقط الأمر بانتهاء أمد الغرض .‏

‏وبعبارة اُخریٰ : لا اقتضائیة للبقاء ؛ لا أنّ له بقاء والإتیان بالمأمور به قد رفعها‏‎ ‎‏وأعدمها کما هو الشأن فی العلّیة والمعلولیة ، هذا .‏

‏ولکن عـدل عنه ـ دام ظلّه ـ فی هـذه الدورة ، وقال : إنّه أیضاً لا یخلو عـن‏‎ ‎‏نظـر ؛ وذلک لأنّ الأمـر کما لا یدعـو إلاّ إلیٰ متعلّقـه فکذلک لا یدعـو إلیٰ قید زائـد‏‎ ‎‏غیـر ما اُخـذ فی متعلّقـه .‏

‏فإذا أتی العبد بتمام ما اُمـر به فیحصل الغـرض ، فتنفد الإرادة ، ولا یوجب‏‎ ‎‏الإتیان شیئاً لا فـی الأمر اللفظـی ولا الکتبـی ؛ بأن یسقطهما ، وهـو واضح :‏

‏أمّا فی الأمر اللفظی : فلوضوح أنّه تدریجی الوجود ، ولا یوجد حرف منه إلاّ‏‎ ‎‏بعد انعدام الحرف السابق ، فقبل الإتیان به معدوم ، فما ظنّک بإتیان المأمور إیّاه ؟ !‏

‏وأمّا الکتبی : فالبداهة قاضیة بأنّ الإتیان بالمتعلّق لا یسقط المکتوب ، فهل‏‎ ‎‏تریٰ أنّ الإتیان بالحجّ ـ مثلاً ـ یسقط قوله تعالی : ‏‏«‏وَلِلّٰهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 284
اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاً‏»‏‎[3]‎‏ ، بل ولا یوجب الإتیان شیئاً فی الإرادة ؛ بداهة أنّ الإتیان‏‎ ‎‏فعل المکلّف ـ بالفتح ـ والإرادة فعل الآمر والمکلّف ـ بالکسر ـ ، فکیف یسقط فعل‏‎ ‎‏العبد إرادة مولاه ؟ !‏

‏فتحصّل : أنّ التعبیر بالإسقاط ـ بأیّ معنیً فرض ـ لا وجه له ، والمراد نفاد‏‎ ‎‏اقتضاء الإرادة بحصول الغرض بمجرّد إتیان المأمور به .‏

‏وبعبارة اُخریٰ : قصور اقتضاء الأمر والإرادة أزید من إتیان المأمور به ، من‏‎ ‎‏دون أن یکون للإرادة والأمر اقتضاء حتّیٰ یسقطه الإتیان .‏

‏فعلیٰ ما ذکرنا : فالأولیٰ ـ دفعاً لهذه التشکیکات والتوهّمات ـ حذف کلمة‏‎ ‎‏«الاقتضاء» من البین ، وعنوان البحث بأنّه «هل الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه مجزٍ أم‏‎ ‎‏لا ؟» ، فتدبّر .‏

‏ ‏

ومنها : کلمة الإجزاء

‏قال صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ : إنّ الإجـزاء له معنیان ؛ لأنّه قـد یطلق ویراد بـه‏‎ ‎‏إسقاط القضاء ، والمـراد إسقاطـه علیٰ تقدیر ثبوتـه ، وقـد یطلق ویراد به إفادة‏‎ ‎‏حصـول الامتثال .‏

‏ثمّ قال : إنّ الکلام هنا یقع فی مقامین : الأوّل أنّ موافقة الأمر الظاهری هل‏‎ ‎‏یوجب سقوط القضاء بالنسبة إلی الأمر الواقعی أم لا ؟ والثانی فی أنّ موافقة کلّ من‏‎ ‎‏الأمرین هل یقتضی سقوط القضاء بالنسبة إلیه أم لا‏‎[4]‎‏ ؟‏

‏وقد تقدّم آنفاً کلاماً عن المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ فی معنی الإجزاء عند التعرّض‏‎ ‎‏لکلمة الاقتضاء، فلاحظ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 285
وفیه :‏ أنّ تفسیر الإجـزاء بإسقاط القضاء فقط ـ کما عـن العلمین ـ وجعل‏‎ ‎‏محطّ البحث فـی خصوص الإتیان بالمأمـور به فـی الوقت کأنّه فـی غیـر محلّه ،‏‎ ‎‏وربّما أوجب ذلک اشتباه بعض وخلط هـذه المسألـة بمسألة المـرّة والتکـرار ، کما‏‎ ‎‏سنشیر إلیه قریباً ، فارتقب .‏

‏وذلک لأنّه لا إشکال فی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری‏‎ ‎‏أعمّ من إسقاط القضاء خارج الوقت والإعادة فی الوقت ، وقد عنون فی الفقه : أنّ من‏‎ ‎‏کان فی أوّل الوقت فاقداً للماء ـ مثلاً ـ فتیمّم وصلّیٰ ، ثمّ بعد الصلاة فی الوقت ظفر‏‎ ‎‏بالماء فهل یجزی بالصلاة التی صلاّها بالطهارة الترابیة ، أو یجب إعادتها فی الوقت مع‏‎ ‎‏الطهارة المائیة ؟‏

‏فظهر : أنّه لا وجـه لاختصاص الإجـزاء بسقوط القضاء خارج الوقت فقط ،‏‎ ‎‏کما هـو ظاهـر «الکفایـة»‏‎[5]‎‏ وصریـح «الفصول»‏‎[6]‎‏ ، بل یعمّ إسقاط الإعادة فـی‏‎ ‎‏الوقت ؛ خصوصاً فـی الأمر الظاهری والاضطراری بالنسبة إلی الأمر الواقعی لو‏‎ ‎‏تبدّل حاله فی الوقت ، فتدبّر .‏

‏ ‏

ومنها : کلمة «علیٰ وجهه»

‏یظهر من المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ : أنّ قید «علیٰ وجهه» لإدخال القیود التی‏‎ ‎‏یعتبرها العقل ، ولا یمکن أخذها شرعاً ، کقصد القربة علیٰ مذهبه ، حیث ذهب إلیٰ‏‎ ‎‏عدم إمکان أخذه فی المأمور به ، ولکنّه معتبر عقلاً‏‎[7]‎‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 286
وفیه :‏ أنّ مسألة عدم إمکان أخذ ما یأتی من قبل الأمر فی متعلّقه حدثت من‏‎ ‎‏زمن شیخنا الأعظم الأنصاری  ‏‏قدس سره‏‏ ، وزیادة کلمة «علیٰ وجهه» فی عنوان المسألة‏‎ ‎‏سابقة علیه ؛ فلم تکن ازدیاده فی العنوان لشمول قصد القربة ونحوها ممّا لا یمکن‏‎ ‎‏أخذها فی المأمور به ، بل المراد کلّ ما یعتبر فی المأمور به وله دخل فی حصول‏‎ ‎‏الغرض ؛ سواء دلّ علیه دلیل من العقل أو من الشرع‏‎[8]‎‏ .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 287

  • )) کفایة الاُصول : 104 .
  • )) کفایة الاُصول : 106 .
  • )) آل عمران (3) : 97 .
  • )) الفصول الغرویة : 116 / السطر 10 و 32 .
  • )) کفایة الاُصول : 106 .
  • )) قلت : لاحظ «الفصول الغرویة» ، لعلّک تجد غیر ما استظهره سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ ولعلّ ما استظهره مقتبس من خلاصة «الفصول» ، فتدبّر [المقرّر حفظه الله ] .
  • )) کفایة الاُصول : 105 .
  • )) قلت : قد سبق الاُستاذ قدس سره سماحة اُستاذنا الأعظم البروجردی قدس سره إلیٰ قدمة اعتبار قید «علیٰ وجهه» فی عنوان المسألة ، وقال علیٰ ما فی تقریر بحثه : ولعلّ ازدیاده إنّما هو لردّ عبد الجبّار قاضی القضاة فی الری من قبل الدیالمة ، حیث استشکل علی الإجزاء بما إذا صلّیٰ مع الطهارة المستصحبة ثمّ انکشف کونه محدثاً ، بأنّ صلاته باطلة غیر مجزیة مع امتثال الأمر الاستصحابی .     ووجه ردّه بذلک : أنّ المأمور به فی المفروض لم یؤت به علیٰ وجهه من جهة أنّ الطهارة الحدثیة بوجودها الواقعی شرط(أ) .     قلت : والإنصاف أنّ إشکال العلمین ـ دام ظلّهما ـ غیر وارد علی المحقّق الخراسانی قدس سره ، وما أفاداه مناقشة فی المثال .     وإلیک نصّ ما فی «الکفایة» : الظاهر أنّ المراد من «وجهه» فی العنوان هو النهج الذی ینبغی أن یؤتیٰ به علیٰ ذلک النهج شرعاً وعقلاً ، مثل أن یؤتیٰ به بقصد التقرّب فی العبادة ، لا خصوص الکیفیة المعتبرة فی المأمور به شرعاً(ب) . [المقرّر حفظه الله ] .ــــــــــــــــــــــــــأ ـ نهایة الاُصول : 125 .ب ـ کفایة الاُصول : 105 .