الأمر الثانی فی تفسیر الکلمات المأخوذة فی عنوان المسألة
منها : کلمة الاقتضاء
قد ظهر لک ممّا ذکرنا فی الأمر الأوّل : أنّ الاقتضاء بمعنیٰ دلالة الأمر بمادّته أو هیئته دلالة لفظیة ـ حتّیٰ دلالة التزامیة ـ لا تدلّ علی الإجزاء ؛ بأیّ معنیٰ فرض ، فالمراد به الاقتضاء بنحو العلّیة والتأثیر أو غیر ذلک .
ذهب المحقّق الخراسانـی قدس سره إلـی أنّ المـراد بالاقتضاء هاهنا الاقتضاء بنحـو العلّیـة والتأثیـر ، لا بنحـو الکشف والدلالـة ؛ ولـذا نسب إلـی الإتیان لا إلـی الصیغة .
وقال قدس سره فی تفسیر الإجزاء : إنّ الإجزاء هنا بمعناه لغة ؛ وهو الکفایة ، وإن کان یختلف ما یکفی عنه ؛ فإنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یکفی فیسقط به التعبّد به ثانیاً ، وبالأمر الاضطراری أو الظاهری الجعلی یکفی فیسقط به القضاء أو الإعادة ، وذلک لا یوجب اختلافاً فی معنی الإجزاء .
وفیه : أنّه قدس سره إن أراد بالعلّیة والتأثیر ما هـو المعروف بین أرباب المعقول ، ففیه : أنّ العلّیة والمعلولیة عبارة عن کـون موجـود مبدأ تأثیر لموجـود آخـر بوجـه ، کالنار أو الشمس ـ مثلاً ـ بالنسبـة إلی الإحـراق والإشراق ، وواضـح أنّ الإجـزاء ـ سواء فُسّر بالکفایـة ، أو اُرید منـه سقـوط الإعادة أو القضاء ـ فلا معنـی للعلّیة والتأثیر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 282
وذلک لأنّه إن اُرید به : الکفایة ـ کما صرّح قدس سره بأنّها معنی الإجزاء هنا ـ فواضح أنّ الکفایة لم یکن أمراً موجوداً فی الخارج لیتأثّر عن إتیان المأمور به ، ولم یکن إتیان المأمـور به فی الخارج بحـدوده مؤثّراً فیها ، بل هـی أمـر اعتباری بمعنیٰ سقـوط الإعادة فـی الوقت والقضاء فـی خارجـه . بل الکفایة عنوان انتزاعی بحکم العقل والعقلاء منتزعـة من إتیان المأمـور تمام ما اُمـر به ، وواضـح أنّ العلّیة والمعلولیة لم تکونا فی الاُمور الاعتباریة ، فضلاً عن کونهما فی الانتزاعیات . ولعلّه قدس سره لم یرد بالعلّیة والتأثیر ما هو الظاهر من کلامه ، بل أراد بهما المعنی المقابل للکشف والدلالة ، فتدبّر .
وإن اُرید بالإجزاء : سقوط الإعادة فی الوقت والقضاء خارجه ـ وواضح أنّ التعبیر بالسقوط مسامحی ؛ لأنّ المراد عدم التکلیف بالإعادة أو القضاء ، کما لا یخفیٰ ـ فالمحذور أفحش ؛ لأنّه مضافاً إلی أنّه لا معنی للتأثیر والتأثّر اللذین یکونا فی الاُمور التکوینیة بالنسبة إلی إتیان المأمور به بلحاظ سقوط الإعادة أو القضاء ، یلزم أن یکون الأمر الوجودی ـ وهو الإتیان ـ علّة للأمر العدمی ، وهو محال فی التکوینیات ، فما ظنّک هنا ؟ ! فلم یکن الباب باب التأثیر والتأثّر .
وبالجملة : لا یصحّ أن یراد بالاقتضاء العلّیة والتأثیر علیٰ ما هو المعروف بین أرباب المعقول ؛ لعدم کون إتیان المأمور به فی الخارج بحدوده وقیوده مؤثّراً فی الإجزاء ؛ سواء کان الإجزاء بمعنی الکفایة کما علیه المحقّق الخراسانی قدس سره وقد عرفت ضعفه . أو اُرید منه سقوط الأمر بالإعادة أو القضاء ؛ لما أشرنا من عدم کون الإتیان علّة مؤثّرة فی سقوط الأمر ، کما أنّ السقوط والإسقاط لیستا من الاُمور القابلة للتأثیر والتأثّر .
أو اُرید منه سقوط الإرادة ، فکذلک بل الأمر فیه أوضح ؛ ضرورة أنّه لا یصیر إتیان المأمور به علّة لانعدام الإرادة وارتفاعها ؛ لأنّ تصوّر المراد بما أنّه الغایة
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 283
والمقصود والتصدیق بفائدته مع مبادٍ آخر علّة لانقداح الإرادة فی لوح النفس ، والمأمور به بوجوده الخارجی معلول للإرادة ، فلا یعقل أن یکون المعلول بوجوده الخارجی طارداً لوجود علّته .
وغایة ما یمکن أن یقال فی سقوط الإرادة والأمر عند حصول المراد والإتیان بالمأمور به ، هو الذی اختاره سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فی الدورة السابقة ، وحاصله : هو انتهاء أمد الإرادة والأمر بإتیان المأمور به ، لا أنّ لهما بقاء والإتیان رافع لهما ومُعدم لهما کما هو قضیة العلّیة .
وذلک لأنّ الأمر بشیءٍ لابدّ وأن یکون للوصلة إلی غرض وجهة منظورة وإلاّ لم یصحّ منه الأمر ، والأمر طریق ووُصلة یتوصّل به المولیٰ إلیٰ نجاح غرضه ، وواضح أنّ غرضه کان محدوداً بحدّ خاصّ ، فإذا أتی العبد المأمور به بتمامه فیحصل به الغرض ، وبعد حصوله یسقط الإرادة ویسقط الأمر بانتهاء أمد الغرض .
وبعبارة اُخریٰ : لا اقتضائیة للبقاء ؛ لا أنّ له بقاء والإتیان بالمأمور به قد رفعها وأعدمها کما هو الشأن فی العلّیة والمعلولیة ، هذا .
ولکن عـدل عنه ـ دام ظلّه ـ فی هـذه الدورة ، وقال : إنّه أیضاً لا یخلو عـن نظـر ؛ وذلک لأنّ الأمـر کما لا یدعـو إلاّ إلیٰ متعلّقـه فکذلک لا یدعـو إلیٰ قید زائـد غیـر ما اُخـذ فی متعلّقـه .
فإذا أتی العبد بتمام ما اُمـر به فیحصل الغـرض ، فتنفد الإرادة ، ولا یوجب الإتیان شیئاً لا فـی الأمر اللفظـی ولا الکتبـی ؛ بأن یسقطهما ، وهـو واضح :
أمّا فی الأمر اللفظی : فلوضوح أنّه تدریجی الوجود ، ولا یوجد حرف منه إلاّ بعد انعدام الحرف السابق ، فقبل الإتیان به معدوم ، فما ظنّک بإتیان المأمور إیّاه ؟ !
وأمّا الکتبی : فالبداهة قاضیة بأنّ الإتیان بالمتعلّق لا یسقط المکتوب ، فهل تریٰ أنّ الإتیان بالحجّ ـ مثلاً ـ یسقط قوله تعالی : «وَلِلّٰهِ عَلَی النَّاسِ حِجُّ الْبَیْتِ مَنِ
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 284
اسْتَطَاعَ إلَیْهِ سَبِیلاً» ، بل ولا یوجب الإتیان شیئاً فی الإرادة ؛ بداهة أنّ الإتیان فعل المکلّف ـ بالفتح ـ والإرادة فعل الآمر والمکلّف ـ بالکسر ـ ، فکیف یسقط فعل العبد إرادة مولاه ؟ !
فتحصّل : أنّ التعبیر بالإسقاط ـ بأیّ معنیً فرض ـ لا وجه له ، والمراد نفاد اقتضاء الإرادة بحصول الغرض بمجرّد إتیان المأمور به .
وبعبارة اُخریٰ : قصور اقتضاء الأمر والإرادة أزید من إتیان المأمور به ، من دون أن یکون للإرادة والأمر اقتضاء حتّیٰ یسقطه الإتیان .
فعلیٰ ما ذکرنا : فالأولیٰ ـ دفعاً لهذه التشکیکات والتوهّمات ـ حذف کلمة «الاقتضاء» من البین ، وعنوان البحث بأنّه «هل الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه مجزٍ أم لا ؟» ، فتدبّر .
ومنها : کلمة الإجزاء
قال صاحب «الفصول» قدس سره : إنّ الإجـزاء له معنیان ؛ لأنّه قـد یطلق ویراد بـه إسقاط القضاء ، والمـراد إسقاطـه علیٰ تقدیر ثبوتـه ، وقـد یطلق ویراد به إفادة حصـول الامتثال .
ثمّ قال : إنّ الکلام هنا یقع فی مقامین : الأوّل أنّ موافقة الأمر الظاهری هل یوجب سقوط القضاء بالنسبة إلی الأمر الواقعی أم لا ؟ والثانی فی أنّ موافقة کلّ من الأمرین هل یقتضی سقوط القضاء بالنسبة إلیه أم لا ؟
وقد تقدّم آنفاً کلاماً عن المحقّق الخراسانی قدس سره فی معنی الإجزاء عند التعرّض لکلمة الاقتضاء، فلاحظ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 285
وفیه : أنّ تفسیر الإجـزاء بإسقاط القضاء فقط ـ کما عـن العلمین ـ وجعل محطّ البحث فـی خصوص الإتیان بالمأمـور به فـی الوقت کأنّه فـی غیـر محلّه ، وربّما أوجب ذلک اشتباه بعض وخلط هـذه المسألـة بمسألة المـرّة والتکـرار ، کما سنشیر إلیه قریباً ، فارتقب .
وذلک لأنّه لا إشکال فی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری أعمّ من إسقاط القضاء خارج الوقت والإعادة فی الوقت ، وقد عنون فی الفقه : أنّ من کان فی أوّل الوقت فاقداً للماء ـ مثلاً ـ فتیمّم وصلّیٰ ، ثمّ بعد الصلاة فی الوقت ظفر بالماء فهل یجزی بالصلاة التی صلاّها بالطهارة الترابیة ، أو یجب إعادتها فی الوقت مع الطهارة المائیة ؟
فظهر : أنّه لا وجـه لاختصاص الإجـزاء بسقوط القضاء خارج الوقت فقط ، کما هـو ظاهـر «الکفایـة» وصریـح «الفصول» ، بل یعمّ إسقاط الإعادة فـی الوقت ؛ خصوصاً فـی الأمر الظاهری والاضطراری بالنسبة إلی الأمر الواقعی لو تبدّل حاله فی الوقت ، فتدبّر .
ومنها : کلمة «علیٰ وجهه»
یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره : أنّ قید «علیٰ وجهه» لإدخال القیود التی یعتبرها العقل ، ولا یمکن أخذها شرعاً ، کقصد القربة علیٰ مذهبه ، حیث ذهب إلیٰ عدم إمکان أخذه فی المأمور به ، ولکنّه معتبر عقلاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 286
وفیه : أنّ مسألة عدم إمکان أخذ ما یأتی من قبل الأمر فی متعلّقه حدثت من زمن شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره ، وزیادة کلمة «علیٰ وجهه» فی عنوان المسألة سابقة علیه ؛ فلم تکن ازدیاده فی العنوان لشمول قصد القربة ونحوها ممّا لا یمکن أخذها فی المأمور به ، بل المراد کلّ ما یعتبر فی المأمور به وله دخل فی حصول الغرض ؛ سواء دلّ علیه دلیل من العقل أو من الشرع .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 287