المقصد الأوّل فی الأوامر

الأمر الأوّل‏: فی عقد عنوان المسألة

الأمر الأوّل : فی عقد عنوان المسألة

‏ ‏

‏اختلفت کلماتهم فی تحریر عنوان المسألة :‏

‏فقد یُعنون ـ کما فی «الفصول» ـ بأنّ الأمر بالشیء هل یقتضی الإجزاء إذا أتیٰ‏‎ ‎‏به المأمور علی وجهه ، أو لا‏‎[1]‎‏ ؟‏

‏وقد یعنون ـ کما هو المعروف بین المشایخ المتأخّرین ـ أنّ الإتیان بالمأمور به‏‎ ‎‏علیٰ وجهه هل یقتضی الإجزاء ، أم لا ؟‏

ویظهر من بعضهم :‏ أنّه إن عبّر عـن عنوان المسألـة بالعبارة الاُولیٰ یکـون‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275
‏البحث عـن مسألة الإجـزاء لفظیة وفی دلالـة لفظ الأمر علی الإجـزاء ـ إمّا‏‎ ‎‏بالمطابقـة أو التضمّن أو الالتزام ـ أو لا ؟ وربّما یؤیّد لفظیـة البحث عقد مسألة‏‎ ‎‏الإجزاء فی مباحث الألفاظ .‏

‏وأمّا إن عبّر عن عنوان المسألة بالعبارة الثانیة تکون مسألة الإجزاء من‏‎ ‎‏المسائل العقلیة ، وأنّ إتیان المأمور به هل یکون مقتضیاً وعلّةً للإجزاء وسقوط‏‎ ‎‏التکلیف ، أم لا‏‎[2]‎‏ ؟‏

وفیه :‏ أنّه لا وجه لعدّ البحث من مباحث الألفاظ ، ومن دلالة اللفظ بمجرّد‏‎ ‎‏التعبیر عنه بالعبارة الاُولیٰ ، ولا أظنّ أن یتوهّمه أحد ؛ وذلک لأنّ دلالة اللفظ لابدّ‏‎ ‎‏وأن تکون إمّا بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام ، ولم یدلّ بشیء من ذلک :‏

‏أمّا عـدم دلالته بالمطابقـة أو التضمّن فواضحـة ؛ لعدم دلالة الأمـر بمادّته‏‎ ‎‏أو هیئته علیٰ ما ذکر فـی عنوان البحث بطوله بحیث یکون هـذا المعنیٰ عین مـدلولها‏‎ ‎‏أو جزئها .‏

‏وأمّا عدم دلالته بالالتزام فکذلک ؛ لأنّ عَدّ دلالة اللفظ علیٰ لازمه من دلالة‏‎ ‎‏اللفظ کما تری مع أنّها بحکم العقل ومن دلالة المعنیٰ علی المعنیٰ بلحاظ أنّه مهما تصوّر‏‎ ‎‏اللفظ ینقدح لازمه فی الذهن بلا مهلة ولا تراخی فی ذلک فکأنّ اللفظ دلّ علیه ؛‏‎ ‎‏ولذلک اشترطوا فی دلالة الالتزام کون اللازم بیّناً بالمعنی الأخصّ ، ومعناه هو الجزم‏‎ ‎‏باللزوم بمجرّد تصوّر الملزوم .‏

‏وهل تریٰ من نفسک أنّ لفظ الأمر یدلّ علی أنّ الإتیان به علیٰ وجهه یقتضی‏‎ ‎‏الإجزاء باللزوم البیّن بالمعنی الذی ذکروه ؟ ! ولو کان لزوماً کذلک لما کان محلاًّ للنزاع .‏‎ ‎‏وهل یرضیٰ أحد أن ینسب إلی أکابر الفنّ وعُظمائهم القائلین بالإجزاء أنّهم یقولون :‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 276
‏إنّ لفظ الأمر یدلّ ـ دلالة التزامیة بیّنة ـ علی أنّه لو أتیٰ بمتعلّقه علیٰ وجهه یقتضی‏‎ ‎‏الإجزاء ؟ ! حاشاک !‏

‏نعم ، لو کان القائل بالإجزاء فرداً أو أفراداً ، أو کان الإجزاء وجهاً فی المسألة‏‎ ‎‏فلعلّه یمکن أن یقال ذلک ، وقد ذهب جمع غفیر من الأعاظم إلی الإجزاء ، بل قیل إنّه‏‎ ‎‏المشهور بینهم‏‎[3]‎‏ ، هذا .‏

‏مضافاً إلی أنّ صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ ـ الذی عبّر عن عنوان البحث بـ «أنّ‏‎ ‎‏الأمر بالشیء إذا أتیٰ به علیٰ وجهه . . .» إلی آخره ـ لم یذکر شیئاً یستفاد منه أنّ ذلک‏‎ ‎‏بالدلالة اللفظیة ، بل ذکر وجهین عقلیین فی المسألة :‏

‏الأوّل : أنّ الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه یستلزم عدم فوات المصلحة المقصودة‏‎ ‎‏بإتیانه ، فاستدراکها بالقضاء تحصیل للحاصل .‏

‏والثانی : أنّه لـو لم یستلزم سقوطـه لم یعلم امتثال أبـداً ، والثانـی باطل‏‎ ‎‏بالضـرورة والاتّفاق‏‎[4]‎‏ .‏

‏ ‏

نقل وتعقیب

‏ ‏

‏قال المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ : الإنصاف أنّ مسألة الإجزاء لیست من المسائل‏‎ ‎‏الاُصولیة العقلیة ؛ ضرورة أنّه لا مجال للنزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر‏‎ ‎‏الواقعی عن إعادته ؛ لأنّ الإجزاء المزبور وإن کان عقلیاً إلاّ أنّه من ضروریات‏‎ ‎‏العقلاء ثبوتاً تقریباً ، ومعه لا یبقیٰ مجال للنزاع .‏

‏وأمّا النزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری عن المأمور به‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 277
‏بالأمر الواقعی الاختیاری فهو بحث ؛ إمّا فی حکومة بعض الأدلّة علیٰ بعض ، أو فی‏‎ ‎‏تقیید بعض الأدلّة لبعضها الآخر ، أو فی غیر ذلک من أنحاء التصرّف فی الأدلّة‏‎ ‎‏الاجتهادیة . وإمّا فی دلالة أدلّة الأحکام الاضطراریة علیٰ کون مصالحها تفی عن‏‎ ‎‏مصالح الأحکام الواقعیة الاختیاریة أو لا تفی ، ومع دلالتها علیٰ وفاء مصالح الأحکام‏‎ ‎‏الاضطراریة بمصالح الأحکام الاختیاریة ینتهی الأمر إلی القضیة المسلّمة التی لا نزاع‏‎ ‎‏فیها ؛ وهی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی أو بما یقوم مقامه ، یکون مجزیاً .‏

‏وأمّا النزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری عن المأمور به بالأمر‏‎ ‎‏الواقعی ، فهو فی الحقیقة نزاع فی دلالة دلیل الحکم الظاهری ـ سواء کان أصلاً أم‏‎ ‎‏أمارة ـ علی اشتمال ذلک الحکم علیٰ مصلحة تفی بمصلحة الحکم الواقعی ، أو لا تبقیٰ‏‎ ‎‏مجالاً لاستیفاء ما بقی من مصلحة الحکم الواقعی لو لم تفِ بها .‏

‏وعلیٰ کلّ من أنحاء النزاع المزبورة لا تکون مسألة الإجزاء مسألة عقلیة ، بل‏‎ ‎‏اُصولیة لفظیة ، وإن کانت فی الأوامر الاضطراریة ـ علیٰ ما بیّنا ـ أشبه شیء بالمسألة‏‎ ‎‏الفقهیة ، انتهیٰ‏‎[5]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه علی مقاله ‏‏قدس سره‏‏ یکون النزاع فی مسألة الإجزاء لفظیة لابدّ وأن یکون‏‎ ‎‏لبیان أحد أمرین : إمّا بیان ما هو محلّ النزاع بین القوم ، أو بیان ما ینبغی البحث فیه ،‏‎ ‎‏وإن لم یبحثوا فیه .‏

فإن أراد بقوله الإنصاف . . . :‏ أنّ نزاع القوم فی مسألة الإجزاء یرجع إلی‏‎ ‎‏البحث اللفظی .‏

ففیه :‏ أنّ مَن لاحظ «الفصول» یریٰ أنّ صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ حکیٰ عن‏‎ ‎‏الأکثرین أنّهم تمسّکوا لإجزاء الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه عن الأمر الواقعی‏‎ ‎‏بوجهین عقلیین ؛ وهما اللذان أشرنا إلیهما آنفاً ، ولم یکن فی ذلک من دلالة اللفظ عین‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 278
‏ولا أثر . فنزاعهم فی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یجزی عن إعادته وإتیانه‏‎ ‎‏ثانیاً ، أم لا ؟‏

‏هذا بالنسبة إلی الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی . وأمّا إجزاء الإتیان بالمأمور‏‎ ‎‏به بالأمر الاضطراری أو الظاهری عن المأمور به بالأمر الواقعی الاختیاری ، فکلام‏‎ ‎‏حادث بین المتأخّرین بعدما لم یکن له فی کلمات القدماء عین ولا أثر ، فکیف یصحّ‏‎ ‎‏أن یقال : إنّ محلّ نزاعهم فی أمر لفظی ؟ !‏

‏فعلیٰ هذا : لا یمکن استناد کون البحث فی مسألة الإجزاء بحثاً لفظیاً إلی القوم ،‏‎ ‎‏بل الذی یصحّ استناده إلیهم کون نزاعهم فی أمر عقلی کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .‏

وإن أراد بقوله الإنصاف :‏ أنّ الذی ینبغی أن یقع النزاع فیه هو ذلک ، ففی مقاله‏‎ ‎‏مواقع للنظر :‏

منها :‏ فی التفرقة التی ذکـرها فی الإجـزاء بالمأمور بـه بالأمر الاضطراری‏‎ ‎‏والمأمـور به بالأمر الظاهـری ، حیث ذکـر وجهین لإجـزاء المأمـور به بالأمر‏‎ ‎‏الاضطـراری : أحـدهما التصرّف فی الـدلیل الاجتهادی والأمر الواقعی الاختیاری ،‏‎ ‎‏والثانی فـی دلالـة الدلیل الاضطراری علیٰ وفائه لمصلحة الحکم الواقعی‏‎ ‎‏الاختیاری . ولم یذکـر فی إجزاء المأمور به بالأمر الظاهـری إلاّ الوجـه الثانی ، مع أنّه‏‎ ‎‏یجـری فیه الوجهان ، فیمکن أن یقال : إنّ الدلیل الظاهـری منقِّح لموضـوع دلیل‏‎ ‎‏الاجتهادی ومقیّدٌ له .‏

‏وبالجملة : لا وجه لذکر وجهین للإجزاء فی المأمور به بالأمر الاضطراری‏‎ ‎‏وذکر وجه واحد لإجزاء المأمور به بالأمر الظاهری ، فتدبّر .‏

ومنها :‏ أنّ دلالة الدلیل علیٰ کون متعلّقه مشتملاً علیٰ تمام المصلحة أو جُلّها‏‎ ‎‏لاتکون بدلالة لفظیة ـ حتّی الالتزامی منها ـ بداهة أنّه لو کان کذلک لما کان وجه‏‎ ‎‏لنزاع الأشاعرة والمعتزلة فی ذلک ـ أی فی اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ ـ وهل یعقل‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 279
‏أن یکون نزاع الطائفتین فی أمر بدیهی ، وفی دلالة الأمر ـ دلالةً التزامیة ـ علیٰ وجود‏‎ ‎‏المصلحة فی متعلّقه وعدمه ؟ ! بل نزاعهم فی ذلک إنّما هو فی مسألة عقلیة کلامیة‏‎ ‎‏حسب ما قرّر فی محلّه‏‎[6]‎‏ ، فراجع .‏

‏فعلیٰ هذا : لابدّ وأن یکون النزاع فی اشتمال المأمور به بالأمر الاضطراری أو‏‎ ‎‏الظاهری علیٰ مصلحة متعلّق الحکم الواقعی فی أمرین : أحدهما أصل اشتمال متعلّقهما‏‎ ‎‏علی المصلحة ، وهو الذی کانت معرکة الآراء بین الأشاعرة والمعتزلة ، والآخر فی‏‎ ‎‏وفائهما بالمصلحة الواقعیة .‏

‏فمرجع البحث فی إجزاء الأحکام الاضطراریة والظاهریة وعدمه إلی البحث فی‏‎ ‎‏مسألتین عقلیتین ، فلا یکون النزاع لغویاً لفظیاً کما توهّم ، فتدبّر .‏

ومنها :‏ أنّه لو سلّم أنّ تحکیم الأدلّة الظاهریة بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیة‏‎ ‎‏الاختیاریة بلحاظ اشتمالها علی المصلحة وأنّه لمصلحة الواقع یکون من دلالة اللفظ ،‏‎ ‎‏لکن لا یوجب ذلک کون البحث فی مسألة الإجزاء بتمامه لفظیاً ، بل بعضه لفظیٌ‏‎ ‎‏وبعضه الآخر عقلی ـ وهو الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری من حیث وفائه‏‎ ‎‏بالمصلحة الواقعیة ـ فإذن لم یکن البحث فی مسألة الإجزاء لفظیاً محضاً کما زعم ،‏‎ ‎‏ولاعقلیاً صرفاً ، فتدبّر .‏

ومنها :‏ أنّ البحث فی حکومة الأدلّة الاضطراریة بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیة ،‏‎ ‎‏وتقییدها إیّاها لم تکن من دلالة اللفظ ، بل هو حکم عرفی عقلائی مقتضی الجمع‏‎ ‎‏العرفی بینهما .‏

‏وذلک لأنّ من قال : «أعتق رقبة» ثمّ قال : «أعتق رقبة مؤمنة» ، فکلّ من‏‎ ‎‏المطلق والمقیّد لا یدلّ إلاّ علیٰ مفاده دلالة لفظیة . وأمّا الدلالة علی التقیید فلم تکن‏‎ ‎‏من دلالة اللفظ علی المعنی ، بل هی مقتضی الجمع العرفی بینهما .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 280
‏وبالجملة : إنّما یصیر البحث لفظیاً إذا کان البحث فی دلالة اللفظ علیٰ معناه ،‏‎ ‎‏وواضح أنّ مسألة الإجزاء لم تکن کذلک ، کما أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهی لم تکن‏‎ ‎‏مسألة لفظیة ـ وإن ذکرت فی مباحث الألفاظ ـ بل من المسائل العقلیة الصرفة ؛ ولذا‏‎ ‎‏یصحّ النزاع فی ذلک ، وإن کان کلّ من الأمر أو النهی بغیر اللفظ ، کالإشارة . وکذلک‏‎ ‎‏البحث فی مقدّمة الواجب لم یکن لفظیاً ، وإن کان قریباً منه ، کما سیجیء فارتقب .‏

فتحصّل ممّا ذکرنا :‏ أنّ مسألة الإجزاء لم تکن مسألة لفظیة محضة ، بل إمّا‏‎ ‎‏عقلیة محضة أو من مباحث الألفاظ علیٰ بعض الوجوه ، فتدبّر .‏

‏فالأولیٰ فی عقد عنوان مسألة الإجزاء بنحو جامع بین الأقوال أن یقال : «إنّ‏‎ ‎‏الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه مجزٍ ، أم لا ؟» یحدف کلمة الاقتضاء ، وإطلاق العنوان‏‎ ‎‏یشمل إجزاءه عن أمره أو عن أمر غیره . ثمّ یذکر أدلّة القائلین بالإجزاء ـ من حکم‏‎ ‎‏العقل والعقلاء ودلالة الألفاظ ـ فیکون هذا نظیر ما یقال فی مسألة حجّیة خبر‏‎ ‎‏الواحد بعد عنوان المسألة : بأنّه یدلّ علیها الأدلّة الأربعة من الکتاب والسنّة والعقل‏‎ ‎‏والإجماع .‏

‏فعلیٰ هذا : تکون مسألة الإجزاء أمراً جامعاً بین اللفظیة والعقلیة ، ویحتمل‏‎ ‎‏کلیهما ، کما کانت مسألة الخبر الواحد محتملة إیّاها ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 281

  • )) الفصول الغرویّة : 116 / السطر 9 .
  • )) لاحظ بدائع الأفکار 1 : 261 .
  • )) مفاتیح الاُصول : 126 / السطر 6 ، الفصول الغرویّة : 116 / السطر22 .
  • )) الفصول الغرویة : 117 / السطر 15 و 36 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 261 .
  • )) کشف المراد : 302 و 307 و 358 ، شرح المواقف 8 : 261 .