الأمر الأوّل : فی عقد عنوان المسألة
اختلفت کلماتهم فی تحریر عنوان المسألة :
فقد یُعنون ـ کما فی «الفصول» ـ بأنّ الأمر بالشیء هل یقتضی الإجزاء إذا أتیٰ به المأمور علی وجهه ، أو لا ؟
وقد یعنون ـ کما هو المعروف بین المشایخ المتأخّرین ـ أنّ الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه هل یقتضی الإجزاء ، أم لا ؟
ویظهر من بعضهم : أنّه إن عبّر عـن عنوان المسألـة بالعبارة الاُولیٰ یکـون
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 275
البحث عـن مسألة الإجـزاء لفظیة وفی دلالـة لفظ الأمر علی الإجـزاء ـ إمّا بالمطابقـة أو التضمّن أو الالتزام ـ أو لا ؟ وربّما یؤیّد لفظیـة البحث عقد مسألة الإجزاء فی مباحث الألفاظ .
وأمّا إن عبّر عن عنوان المسألة بالعبارة الثانیة تکون مسألة الإجزاء من المسائل العقلیة ، وأنّ إتیان المأمور به هل یکون مقتضیاً وعلّةً للإجزاء وسقوط التکلیف ، أم لا ؟
وفیه : أنّه لا وجه لعدّ البحث من مباحث الألفاظ ، ومن دلالة اللفظ بمجرّد التعبیر عنه بالعبارة الاُولیٰ ، ولا أظنّ أن یتوهّمه أحد ؛ وذلک لأنّ دلالة اللفظ لابدّ وأن تکون إمّا بالمطابقة أو التضمّن أو الالتزام ، ولم یدلّ بشیء من ذلک :
أمّا عـدم دلالته بالمطابقـة أو التضمّن فواضحـة ؛ لعدم دلالة الأمـر بمادّته أو هیئته علیٰ ما ذکر فـی عنوان البحث بطوله بحیث یکون هـذا المعنیٰ عین مـدلولها أو جزئها .
وأمّا عدم دلالته بالالتزام فکذلک ؛ لأنّ عَدّ دلالة اللفظ علیٰ لازمه من دلالة اللفظ کما تری مع أنّها بحکم العقل ومن دلالة المعنیٰ علی المعنیٰ بلحاظ أنّه مهما تصوّر اللفظ ینقدح لازمه فی الذهن بلا مهلة ولا تراخی فی ذلک فکأنّ اللفظ دلّ علیه ؛ ولذلک اشترطوا فی دلالة الالتزام کون اللازم بیّناً بالمعنی الأخصّ ، ومعناه هو الجزم باللزوم بمجرّد تصوّر الملزوم .
وهل تریٰ من نفسک أنّ لفظ الأمر یدلّ علی أنّ الإتیان به علیٰ وجهه یقتضی الإجزاء باللزوم البیّن بالمعنی الذی ذکروه ؟ ! ولو کان لزوماً کذلک لما کان محلاًّ للنزاع . وهل یرضیٰ أحد أن ینسب إلی أکابر الفنّ وعُظمائهم القائلین بالإجزاء أنّهم یقولون :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 276
إنّ لفظ الأمر یدلّ ـ دلالة التزامیة بیّنة ـ علی أنّه لو أتیٰ بمتعلّقه علیٰ وجهه یقتضی الإجزاء ؟ ! حاشاک !
نعم ، لو کان القائل بالإجزاء فرداً أو أفراداً ، أو کان الإجزاء وجهاً فی المسألة فلعلّه یمکن أن یقال ذلک ، وقد ذهب جمع غفیر من الأعاظم إلی الإجزاء ، بل قیل إنّه المشهور بینهم ، هذا .
مضافاً إلی أنّ صاحب «الفصول» قدس سره ـ الذی عبّر عن عنوان البحث بـ «أنّ الأمر بالشیء إذا أتیٰ به علیٰ وجهه . . .» إلی آخره ـ لم یذکر شیئاً یستفاد منه أنّ ذلک بالدلالة اللفظیة ، بل ذکر وجهین عقلیین فی المسألة :
الأوّل : أنّ الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه یستلزم عدم فوات المصلحة المقصودة بإتیانه ، فاستدراکها بالقضاء تحصیل للحاصل .
والثانی : أنّه لـو لم یستلزم سقوطـه لم یعلم امتثال أبـداً ، والثانـی باطل بالضـرورة والاتّفاق .
نقل وتعقیب
قال المحقّق العراقی قدس سره : الإنصاف أنّ مسألة الإجزاء لیست من المسائل الاُصولیة العقلیة ؛ ضرورة أنّه لا مجال للنزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی عن إعادته ؛ لأنّ الإجزاء المزبور وإن کان عقلیاً إلاّ أنّه من ضروریات العقلاء ثبوتاً تقریباً ، ومعه لا یبقیٰ مجال للنزاع .
وأمّا النزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری عن المأمور به
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 277
بالأمر الواقعی الاختیاری فهو بحث ؛ إمّا فی حکومة بعض الأدلّة علیٰ بعض ، أو فی تقیید بعض الأدلّة لبعضها الآخر ، أو فی غیر ذلک من أنحاء التصرّف فی الأدلّة الاجتهادیة . وإمّا فی دلالة أدلّة الأحکام الاضطراریة علیٰ کون مصالحها تفی عن مصالح الأحکام الواقعیة الاختیاریة أو لا تفی ، ومع دلالتها علیٰ وفاء مصالح الأحکام الاضطراریة بمصالح الأحکام الاختیاریة ینتهی الأمر إلی القضیة المسلّمة التی لا نزاع فیها ؛ وهی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی أو بما یقوم مقامه ، یکون مجزیاً .
وأمّا النزاع فی إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الظاهری عن المأمور به بالأمر الواقعی ، فهو فی الحقیقة نزاع فی دلالة دلیل الحکم الظاهری ـ سواء کان أصلاً أم أمارة ـ علی اشتمال ذلک الحکم علیٰ مصلحة تفی بمصلحة الحکم الواقعی ، أو لا تبقیٰ مجالاً لاستیفاء ما بقی من مصلحة الحکم الواقعی لو لم تفِ بها .
وعلیٰ کلّ من أنحاء النزاع المزبورة لا تکون مسألة الإجزاء مسألة عقلیة ، بل اُصولیة لفظیة ، وإن کانت فی الأوامر الاضطراریة ـ علیٰ ما بیّنا ـ أشبه شیء بالمسألة الفقهیة ، انتهیٰ .
وفیه : أنّه علی مقاله قدس سره یکون النزاع فی مسألة الإجزاء لفظیة لابدّ وأن یکون لبیان أحد أمرین : إمّا بیان ما هو محلّ النزاع بین القوم ، أو بیان ما ینبغی البحث فیه ، وإن لم یبحثوا فیه .
فإن أراد بقوله الإنصاف . . . : أنّ نزاع القوم فی مسألة الإجزاء یرجع إلی البحث اللفظی .
ففیه : أنّ مَن لاحظ «الفصول» یریٰ أنّ صاحب «الفصول» قدس سره حکیٰ عن الأکثرین أنّهم تمسّکوا لإجزاء الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه عن الأمر الواقعی بوجهین عقلیین ؛ وهما اللذان أشرنا إلیهما آنفاً ، ولم یکن فی ذلک من دلالة اللفظ عین
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 278
ولا أثر . فنزاعهم فی أنّ الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی یجزی عن إعادته وإتیانه ثانیاً ، أم لا ؟
هذا بالنسبة إلی الإتیان بالمأمور به بالأمر الواقعی . وأمّا إجزاء الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری عن المأمور به بالأمر الواقعی الاختیاری ، فکلام حادث بین المتأخّرین بعدما لم یکن له فی کلمات القدماء عین ولا أثر ، فکیف یصحّ أن یقال : إنّ محلّ نزاعهم فی أمر لفظی ؟ !
فعلیٰ هذا : لا یمکن استناد کون البحث فی مسألة الإجزاء بحثاً لفظیاً إلی القوم ، بل الذی یصحّ استناده إلیهم کون نزاعهم فی أمر عقلی کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .
وإن أراد بقوله الإنصاف : أنّ الذی ینبغی أن یقع النزاع فیه هو ذلک ، ففی مقاله مواقع للنظر :
منها : فی التفرقة التی ذکـرها فی الإجـزاء بالمأمور بـه بالأمر الاضطراری والمأمـور به بالأمر الظاهـری ، حیث ذکـر وجهین لإجـزاء المأمـور به بالأمر الاضطـراری : أحـدهما التصرّف فی الـدلیل الاجتهادی والأمر الواقعی الاختیاری ، والثانی فـی دلالـة الدلیل الاضطراری علیٰ وفائه لمصلحة الحکم الواقعی الاختیاری . ولم یذکـر فی إجزاء المأمور به بالأمر الظاهـری إلاّ الوجـه الثانی ، مع أنّه یجـری فیه الوجهان ، فیمکن أن یقال : إنّ الدلیل الظاهـری منقِّح لموضـوع دلیل الاجتهادی ومقیّدٌ له .
وبالجملة : لا وجه لذکر وجهین للإجزاء فی المأمور به بالأمر الاضطراری وذکر وجه واحد لإجزاء المأمور به بالأمر الظاهری ، فتدبّر .
ومنها : أنّ دلالة الدلیل علیٰ کون متعلّقه مشتملاً علیٰ تمام المصلحة أو جُلّها لاتکون بدلالة لفظیة ـ حتّی الالتزامی منها ـ بداهة أنّه لو کان کذلک لما کان وجه لنزاع الأشاعرة والمعتزلة فی ذلک ـ أی فی اللزوم البیّن بالمعنی الأخصّ ـ وهل یعقل
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 279
أن یکون نزاع الطائفتین فی أمر بدیهی ، وفی دلالة الأمر ـ دلالةً التزامیة ـ علیٰ وجود المصلحة فی متعلّقه وعدمه ؟ ! بل نزاعهم فی ذلک إنّما هو فی مسألة عقلیة کلامیة حسب ما قرّر فی محلّه ، فراجع .
فعلیٰ هذا : لابدّ وأن یکون النزاع فی اشتمال المأمور به بالأمر الاضطراری أو الظاهری علیٰ مصلحة متعلّق الحکم الواقعی فی أمرین : أحدهما أصل اشتمال متعلّقهما علی المصلحة ، وهو الذی کانت معرکة الآراء بین الأشاعرة والمعتزلة ، والآخر فی وفائهما بالمصلحة الواقعیة .
فمرجع البحث فی إجزاء الأحکام الاضطراریة والظاهریة وعدمه إلی البحث فی مسألتین عقلیتین ، فلا یکون النزاع لغویاً لفظیاً کما توهّم ، فتدبّر .
ومنها : أنّه لو سلّم أنّ تحکیم الأدلّة الظاهریة بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیة الاختیاریة بلحاظ اشتمالها علی المصلحة وأنّه لمصلحة الواقع یکون من دلالة اللفظ ، لکن لا یوجب ذلک کون البحث فی مسألة الإجزاء بتمامه لفظیاً ، بل بعضه لفظیٌ وبعضه الآخر عقلی ـ وهو الإتیان بالمأمور به بالأمر الاضطراری من حیث وفائه بالمصلحة الواقعیة ـ فإذن لم یکن البحث فی مسألة الإجزاء لفظیاً محضاً کما زعم ، ولاعقلیاً صرفاً ، فتدبّر .
ومنها : أنّ البحث فی حکومة الأدلّة الاضطراریة بالنسبة إلی الأدلّة الواقعیة ، وتقییدها إیّاها لم تکن من دلالة اللفظ ، بل هو حکم عرفی عقلائی مقتضی الجمع العرفی بینهما .
وذلک لأنّ من قال : «أعتق رقبة» ثمّ قال : «أعتق رقبة مؤمنة» ، فکلّ من المطلق والمقیّد لا یدلّ إلاّ علیٰ مفاده دلالة لفظیة . وأمّا الدلالة علی التقیید فلم تکن من دلالة اللفظ علی المعنی ، بل هی مقتضی الجمع العرفی بینهما .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 280
وبالجملة : إنّما یصیر البحث لفظیاً إذا کان البحث فی دلالة اللفظ علیٰ معناه ، وواضح أنّ مسألة الإجزاء لم تکن کذلک ، کما أنّ مسألة اجتماع الأمر والنهی لم تکن مسألة لفظیة ـ وإن ذکرت فی مباحث الألفاظ ـ بل من المسائل العقلیة الصرفة ؛ ولذا یصحّ النزاع فی ذلک ، وإن کان کلّ من الأمر أو النهی بغیر اللفظ ، کالإشارة . وکذلک البحث فی مقدّمة الواجب لم یکن لفظیاً ، وإن کان قریباً منه ، کما سیجیء فارتقب .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ مسألة الإجزاء لم تکن مسألة لفظیة محضة ، بل إمّا عقلیة محضة أو من مباحث الألفاظ علیٰ بعض الوجوه ، فتدبّر .
فالأولیٰ فی عقد عنوان مسألة الإجزاء بنحو جامع بین الأقوال أن یقال : «إنّ الإتیان بالمأمور به علیٰ وجهه مجزٍ ، أم لا ؟» یحدف کلمة الاقتضاء ، وإطلاق العنوان یشمل إجزاءه عن أمره أو عن أمر غیره . ثمّ یذکر أدلّة القائلین بالإجزاء ـ من حکم العقل والعقلاء ودلالة الألفاظ ـ فیکون هذا نظیر ما یقال فی مسألة حجّیة خبر الواحد بعد عنوان المسألة : بأنّه یدلّ علیها الأدلّة الأربعة من الکتاب والسنّة والعقل والإجماع .
فعلیٰ هذا : تکون مسألة الإجزاء أمراً جامعاً بین اللفظیة والعقلیة ، ویحتمل کلیهما ، کما کانت مسألة الخبر الواحد محتملة إیّاها ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 281