المقصد الأوّل فی الأوامر

ذکر وإرشاد‏: فی الاستدلال علی الفور بأدلّة النقل

ذکر وإرشاد : فی الاستدلال علی الفور بأدلّة النقل

‏ ‏

‏ربّما یستدلّ لوجوب إتیان الواجبات فوراً ببعض الآیات ، کقوله تعالیٰ :‏‎ ‎‏«‏فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ‏»‏‎[1]‎‏ ، وقوله عزّ من قائل : ‏‏«‏وَسَارِعُوا إلَی مَغْفِرَةٍ مِنْ‎ ‎رَبِّکُمْ‏»‏‎[2]‎‏ .‏

تقریب الاستدلال :‏ هو أنّه دلّت الآیتان علیٰ لزوم الاستباق إلی الخیرات‏‎ ‎‏والمسارعة إلیٰ مغفرة الربّ تعالیٰ .‏

‏وواضـح : أنّ متعلّقات الأوامـر خیرات محضة ؛ فیجب الاستباق والمسارعـة‏‎ ‎‏إلیها . ومـن المعلوم : أنّ المسارعـة إلیٰ فعل الغیر لا معنیٰ لـه ؛ لأنّ المغفرة هـی فعلـه‏‎ ‎‏تعالیٰ ؛ فالمراد بلزوم المسارعـة إلیها المسارعـة إلیٰ سببها والطـریق إلیها ونحـوها ،‏‎ ‎‏وهـی فعل الواجب .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 266
‏فدلّت الآیتان علیٰ لزوم الاستباق والمسارعة إلیٰ فعل الواجبات ، التی هی‏‎ ‎‏خیرات وأسباب وطُرق إلی المغفرة .‏

ولا یخفیٰ :‏ أنّه لو تمّت الاستدلال بهما یکونا دلیلین شرعیین علیٰ لزوم الفوریة‏‎ ‎‏فی الواجبات الشرعیة ، فلا تصحّ استفادة فوریة کلّ واجب وإن لم یکن شرعیاً . وکذا‏‎ ‎‏تثبتان الفوریة العرفیة لا العقلیة ؛ لأنّ المستفاد منهما ـ علیٰ تقدیر تمامیة الدلالة ـ هو‏‎ ‎‏أنّه إذا تعلّق أمر شرعی بشیء ولم یکن هناک قرینة علی التراخی لا یجوز التساهل‏‎ ‎‏عنه ، بل یجب إتیانه فوراً .‏

‏والذی یسهّل الخطب : عدم تمامیة الاستدلال بالآیتین لفوریة الإتیان‏‎ ‎‏بالواجبات :‏

أمّا آیة الاستباق :‏ فإنّ الظاهر من مادّة الاستباق إلی أمر هو تسابق‏‎ ‎‏الأشخاص والأفراد بعضهم علیٰ بعض فی إتیانه وتقدّم أحدهم علی الآخر فی‏‎ ‎‏الوصول إلیه ، مع معرضیته لهم بحیث لو لم یسبق أحدهم إلیه لفات منه بإتیان غیره ،‏‎ ‎‏لا مبادرة شخص علیٰ عمل الخیر ، مع قطع النظر عن کونه مورد المسابقة بین أقرانه .‏

‏فإن کان ـ مع ذلک ـ فی خواطرک ممّا ذکرنا ریب فلاحظ موارد استعمالات‏‎ ‎‏مادّة الاستباق ، کقوله تعالی حکایةً عن یوسف ـ علی نبیّنا وآله وعلیه السلام ـ‏‎ ‎‏وزلیخا : ‏‏«‏وَاسْتَبَقَا الْبَابَ‏»‏‎[3]‎‏ ، وما یقال فی کتب المقاتل : «تسابق القوم علیٰ نهب‏‎ ‎‏بیوت آل الرسول»‏‎[4]‎‏ ؛ خصوصاً کتاب السبق والرمایة ، فترتفع غائلة الشکّ والشبهة‏‎ ‎‏عن خواطرک بعونه تعالیٰ وقوّته .‏

‏فإذن : معنیٰ قوله تعالی : ‏‏«‏فَاسْتَبِقُوا الْخَیْرَاتِ‏»‏‏ هو تسابق المکلّفین بعضهم‏‎ ‎‏علیٰ بعض ، وتقدّم بعضهم علی الآخر فی إتیان خیرات ، لو لم یسبق کلّ واحد منهم‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 267
‏إلیها لفاتت منه بإتیان غیره ، وذلک مثل الواجبات الکفائیة . فلا یمکن استفادة‏‎ ‎‏وجوب إتیان مطلق الواجب الشرعی فوراً من هذه الآیة المبارکة .‏

إن قلت :‏ علیٰ هذا یلزم تخصیص الخیرات بالخیرات التی مورداً للمسابقة‏‎ ‎‏ـ کالواجبات الکفائیة ـ مع أنّ ظاهر الخیرات أعمّ منها ومن الواجبات التی لم تکن‏‎ ‎‏مورداً للمسابقة ، کالواجبات العینیة .‏

قلت :‏ محذوریة ذلک إنّما هی إذا لم تکن هناک قرینة علی التخصیص ، ومادّة‏‎ ‎‏الاستباق قرینة علی التخصیص .‏

‏ولو سلّم ارتکاب خلاف الظاهر ، ولکن ارتکاب هذا الخلاف أهون من رفع‏‎ ‎‏الید عن ظاهر مادّة الاستباق .‏

‏وبالجملة : یدور الأمر بین رفع الید عن ظاهر مادّة الاستباق وإبقاء الخیرات‏‎ ‎‏علیٰ ظاهرها ، وبین إبقاء مادّة الاستباق علیٰ ظاهرها والتصرّف فی الخیرات‏‎ ‎‏واختصاصها بواجبات تکون لها معرضیة للاستباق . والتصرّف فی الخیرات أهون‏‎ ‎‏بحسب الظهور العرفی من التصرّف فی مادّة الاستباق ، کما لا یخفیٰ .‏

‏وإن أنکرتم ظهور مادّة الاستباق فیما ذکرنا ، ولکن لا یمکن تحکیم ظهور‏‎ ‎‏الخیرات علیه . فعلیٰ هذا : تکون الآیة المبارکة مجملة لا یصحّ الاستدلال بها للزوم‏‎ ‎‏إتیان کلّ خیر واجب فوراً ، فتدبّر .‏

‏هذا کلّه فی آیة الاستباق .‏

وأمّا آیة المسارعة ؛‏ فلأنّ أصل باب المفاعلة أن یقع بین شخصین یفعل‏‎ ‎‏أحدهما بالآخر ما یفعل الآخر به . فإن کانت کلمة ‏‏«‏سارعوا‏»‏‏ فی الآیة المبارکة‏‎ ‎‏باقیة علیٰ أصلها فالکلام فیها الکلام فی آیة الاستباق .‏

‏وإن لم تکـن باقیة علـیٰ أصلها فنقـول : لم یکـن للمغفرة فیها عمـوم‏‎ ‎‏وإطـلاق بلحاظ توصیفها بالنکـرة ، بل المـراد منها المغفـرة الخاصّـة ؛ مـن کونها‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 268
‏کلمـة الشهادتین أو التوبـة أو أداء الفرائـض أو غیرها ؛ فلا یصـحّ استفادة لـزوم‏‎ ‎‏إتیان مطلق الواجبات فوراً ، کما لا یخفیٰ .‏

ویؤیّد ما ذکرنا :‏ اختلاف المفسّرین فی معنی المغفرة ؛ حیث احتملوا أن یکون‏‎ ‎‏المراد بالمغفرة کلمة الشهادتین ، أو أداء الفرائض کما روی عن أمیر المؤمنین ‏‏علیه السلام‏‏ ، أو‏‎ ‎‏خصوص الصلوات الخمس ، أو التکبیر الأوّل من الجماعة ، أو الصف الأوّل منها ، أو‏‎ ‎‏التوبة ، أو الاستغفار ، أو الجهاد ، أو الإخلاص ، أو الهجرة قبل فتح مکّة ، أو متابعة‏‎ ‎‏الرسول ، أو أداء الطاعات‏‎[5]‎‏ .‏

‏فإنّ التردّد والاختلاف أصدق شاهد علیٰ عدم استفادة العموم من المغفرة ،‏‎ ‎‏وإلاّ لما کان وجه لمقابلة بعض هذه المعانی لبعض ، کما لا یخفیٰ .‏

ولا یخفیٰ :‏ أنّه علیٰ تمامیة دلالة الآیتین لم تکن الفوریة مدلولة علیه ومستفادة‏‎ ‎‏من لفظ الأمر ، بل من دلیل خارجی .‏

‏ولو سلّم تمامیة الدلالة : یتوجّه علیه إشکال القوم ؛ من أنّه لا یکون لنا واجب‏‎ ‎‏یلزم إطاعته فوراً ، ولو کان فإنّما هو أقلّ قلیل ، کصلاة الزلزلة وصلاة الکسوفین فی‏‎ ‎‏بعض الأحیان ، مع أنّ لزوم الفوریة فیهما بدلیل خارجی .‏

‏أضف إلیٰ ما ذکرنا : أنّ الخیرات تعمّ المستحبّات ؛ فیلزم تخصیص الأکثر .‏

‏فیدور الأمر بین ذلک وبین أن یکون مراده تعالیٰ فی الآیة المبارکة إفادة حکم‏‎ ‎‏إرشادی أنّ ترک الخیرات فی أوائل أوقاتها والإهمال بها فی أوّل زمان تعلّق التکلیف‏‎ ‎‏بها یوجب خسارات وضایعات ؛ فربّما یقضی إلیٰ ترک الواجب .‏

‏وواضح : أنّ الأخیر أولیٰ ، بل ارتکاب تخصیص الأکثر مرجوح ، فتدبّر .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 269

ذکر وتعقیب

‏ ‏

استند المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ بوجه عقلی لعدم دلالة آیة الاستباق للزوم الفوریة .‏‎ ‎‏وحاصله أنّ مفهوم الاستباق إلیٰ فعل الخیرات یقتضی وجود عدد من الخیرات‏‎ ‎‏یتحقّق الاستباق بفعل مقـدار منه ، وینتفی فی المقدار الآخـر ، مـع کون المقـدار الباقی‏‎ ‎‏من الخیرات .‏

‏فإذن : تکون هناک صنفین من الخیرات : أحدهما فی الصنف المتقدّم ؛ وهی‏‎ ‎‏الخیرات التی تحقّق بها الاستباق ، والثانی ما وقعت فی الصنف المتأخّر . والثانی مزاحم‏‎ ‎‏للأوّل ؛ فیسقط موضوع الاستباق فیه . فالمزاحمة تنفی خیریته ؛ فحینئذٍ : یلزم عدم‏‎ ‎‏وجوب الاستباق فی المقدار الذی کان الاستباق یتحقّق فیه ، فإذا انتفی الوجوب عن‏‎ ‎‏الاستباق انتفت المزاحمة بین أعداد الواجب الموجبة لخروج بعضها عن حیثیة‏‎ ‎‏الوجوب ، فیتعلّق بها الوجوب جمیعاً ، وبه یعود موضوع المسارعة .‏

‏وبالجملة : یلزم من وجوب المسارعة فی الخیرات عدم وجوبها ، وما یلزم من‏‎ ‎‏وجوده عدمه فهو باطل ؛ فوجوب المسارعة باطل لا محالة ، وحینئذٍ لابدّ من حمل‏‎ ‎‏الأمر فیها علی الندب‏‎[6]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ الظاهر أنّ مراد هذا المحقّق ‏‏قدس سره‏‏ من الاستباق إلیٰ عدد الخیرات‏‎ ‎‏الاستباق إلی أفراد طبیعة واحدة لا أنواع الخیرات ، ولم یقل به أحد .‏

‏ولا یخفیٰ : أنّ مفهوم المسابقة ـ کما أشرنا ـ یستلزم أن تکون المسابقین متعدّداً ،‏‎ ‎‏وأمّا کون المسابَق إلیه متعدّداً فلا ؛ فیمکن أن تکون المسابقة والاستباق إلی أمر‏‎ ‎‏واحد . مثلاً یصحّ أن یقال : سابقوا علیٰ قتل زید ، والقتل أمر واحد .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 270
‏ولا یصحّ أن یطلقا إذا کان المسابَق إلیه والمسارع إلیه متعدّداً ، وفاعل الاستباق‏‎ ‎‏والمسارعة واحداً .‏

‏وبالجملة : المسابقة والاستباق یکون بین الفاعلین نحو شیء ـ واحداً کان ذلک‏‎ ‎‏الشیء أو متعدّداً ـ والأکثر کونه واحداً ، کما فی قوله تعالی : ‏‏«‏وَاسْتَبَقَا البابَ‏»‏‎[7]‎‏ ‏‎ ‎‏و«تسابقوا علی قتل زید» ، «وتسابقوا علیٰ نهب بیوت آل الرسول» ، إلیٰ غیر ذلک‏‎ ‎‏من موارد الاستعمالات .‏

‏وإن کان ـ مع ذلک ـ فی خواطرک ریب فلاحظ باب السبق والرمایة ، فیزول‏‎ ‎‏عن خواطرک الریب ؛ فیتّضح لک الأمر جلیاً .‏

‏فإذن : المراد بالمسابق إلیه فی الآیة المبارکة سنخ خیر یرید المکلّفون النیل إلیه ،‏‎ ‎‏ویکون مورداً لمسابقتهم .‏

فظهر ممّا ذکرنا أوّلاً :‏ أنّ قوله ‏‏قدس سره‏‏ إنّ مفهوم الاستباق یقتضی وجود عدد من‏‎ ‎‏الخیرات لا وجه له .‏

وثانیاً :‏ أنّ الأوامر ـ کما حقّق فی محلّه ـ متعلّقة بالطبائع لا الأفراد ، فإذا أوجد‏‎ ‎‏المکلّف فرداً من الطبیعة فقد حصلت الطبیعة المأمور بها ، فلم یکن إتیان جمیع أفراد‏‎ ‎‏کلّ خیر مطلوبة ؛ فحینئذٍ لا معنیٰ للمزاحمة .‏

وثالثاً :‏ أنّ مجـرّد السقوط بالمزاحمـة لا یخـرج الشیء عن الخیریة بعـد إحراز‏‎ ‎‏خیریته بتوسّط الأمـر المتعلّق به ؛ لأنّ التزاحم إنّما هـو فی عـدم القـدرة علی امتثال‏‎ ‎‏کلیهما ؛ فإن کان أحدهما أهمّ یجب صرف القـدرة علیه ، وإن کانا متساویین یتخیّر فی‏‎ ‎‏الأخذ بأیّهما شاء مـع وجـود الخیریة فیهما ، وبعد الأخـذ بأحدهما سقط الأمر‏‎ ‎‏المتعلّق بالآخـر علیٰ زعمهم . ولکـن نحن لا نقول بالسقوط بالمزاحمـة ، کما سیمـرّ‏‎ ‎‏بک إن شاء الله تعالیٰ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 271
‏ والأمـر الساقط بالمزاحمـة لا یوجب سقـوط متعلّقه عـن الخیریة عندهـم ،‏‎ ‎‏لاحـظ مبحث الترتّب .‏

ورابعاً :‏ لو سلّم السقوط بالمزاحمة ، لکنّه إنّما یتمّ فیما إذا کان المطلوب واحداً ،‏‎ ‎‏وأنّ إتیان الفعل فی أوّل وقته مطلوباً واحداً ؛ بحیث لو أخّر لسقط عن الخیریة . وأمّا إذا‏‎ ‎‏تعدّد المطلوب فإن کان أصل وجوده مطلوباً والإتیان به فی أوّل وقته مطلوباً آخر‏‎ ‎‏فلایستلزم المزاحمة خروجه عن الفردیة .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 272

  • )) البقرة (2) : 148 .
  • )) آل عمران (3) : 133 .
  • )) یوسف (12) : 25 .
  • )) الملهوف علی قتلی الطفوف : 180 .
  • )) راجع مجمع البیان 2 : 836 و 9 : 361 ، التفسیر الکبیر 9 : 4 ـ 5 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 252 .
  • )) یوسف (12) : 25 .