ذکر وإرشاد : فی الاستدلال علی الفور بأدلّة النقل
ربّما یستدلّ لوجوب إتیان الواجبات فوراً ببعض الآیات ، کقوله تعالیٰ : «فَاسْتَبِقُوا الخَیْرَاتِ» ، وقوله عزّ من قائل : «وَسَارِعُوا إلَی مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّکُمْ» .
تقریب الاستدلال : هو أنّه دلّت الآیتان علیٰ لزوم الاستباق إلی الخیرات والمسارعة إلیٰ مغفرة الربّ تعالیٰ .
وواضـح : أنّ متعلّقات الأوامـر خیرات محضة ؛ فیجب الاستباق والمسارعـة إلیها . ومـن المعلوم : أنّ المسارعـة إلیٰ فعل الغیر لا معنیٰ لـه ؛ لأنّ المغفرة هـی فعلـه تعالیٰ ؛ فالمراد بلزوم المسارعـة إلیها المسارعـة إلیٰ سببها والطـریق إلیها ونحـوها ، وهـی فعل الواجب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 266
فدلّت الآیتان علیٰ لزوم الاستباق والمسارعة إلیٰ فعل الواجبات ، التی هی خیرات وأسباب وطُرق إلی المغفرة .
ولا یخفیٰ : أنّه لو تمّت الاستدلال بهما یکونا دلیلین شرعیین علیٰ لزوم الفوریة فی الواجبات الشرعیة ، فلا تصحّ استفادة فوریة کلّ واجب وإن لم یکن شرعیاً . وکذا تثبتان الفوریة العرفیة لا العقلیة ؛ لأنّ المستفاد منهما ـ علیٰ تقدیر تمامیة الدلالة ـ هو أنّه إذا تعلّق أمر شرعی بشیء ولم یکن هناک قرینة علی التراخی لا یجوز التساهل عنه ، بل یجب إتیانه فوراً .
والذی یسهّل الخطب : عدم تمامیة الاستدلال بالآیتین لفوریة الإتیان بالواجبات :
أمّا آیة الاستباق : فإنّ الظاهر من مادّة الاستباق إلی أمر هو تسابق الأشخاص والأفراد بعضهم علیٰ بعض فی إتیانه وتقدّم أحدهم علی الآخر فی الوصول إلیه ، مع معرضیته لهم بحیث لو لم یسبق أحدهم إلیه لفات منه بإتیان غیره ، لا مبادرة شخص علیٰ عمل الخیر ، مع قطع النظر عن کونه مورد المسابقة بین أقرانه .
فإن کان ـ مع ذلک ـ فی خواطرک ممّا ذکرنا ریب فلاحظ موارد استعمالات مادّة الاستباق ، کقوله تعالی حکایةً عن یوسف ـ علی نبیّنا وآله وعلیه السلام ـ وزلیخا : «وَاسْتَبَقَا الْبَابَ» ، وما یقال فی کتب المقاتل : «تسابق القوم علیٰ نهب بیوت آل الرسول» ؛ خصوصاً کتاب السبق والرمایة ، فترتفع غائلة الشکّ والشبهة عن خواطرک بعونه تعالیٰ وقوّته .
فإذن : معنیٰ قوله تعالی : «فَاسْتَبِقُوا الْخَیْرَاتِ» هو تسابق المکلّفین بعضهم علیٰ بعض ، وتقدّم بعضهم علی الآخر فی إتیان خیرات ، لو لم یسبق کلّ واحد منهم
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 267
إلیها لفاتت منه بإتیان غیره ، وذلک مثل الواجبات الکفائیة . فلا یمکن استفادة وجوب إتیان مطلق الواجب الشرعی فوراً من هذه الآیة المبارکة .
إن قلت : علیٰ هذا یلزم تخصیص الخیرات بالخیرات التی مورداً للمسابقة ـ کالواجبات الکفائیة ـ مع أنّ ظاهر الخیرات أعمّ منها ومن الواجبات التی لم تکن مورداً للمسابقة ، کالواجبات العینیة .
قلت : محذوریة ذلک إنّما هی إذا لم تکن هناک قرینة علی التخصیص ، ومادّة الاستباق قرینة علی التخصیص .
ولو سلّم ارتکاب خلاف الظاهر ، ولکن ارتکاب هذا الخلاف أهون من رفع الید عن ظاهر مادّة الاستباق .
وبالجملة : یدور الأمر بین رفع الید عن ظاهر مادّة الاستباق وإبقاء الخیرات علیٰ ظاهرها ، وبین إبقاء مادّة الاستباق علیٰ ظاهرها والتصرّف فی الخیرات واختصاصها بواجبات تکون لها معرضیة للاستباق . والتصرّف فی الخیرات أهون بحسب الظهور العرفی من التصرّف فی مادّة الاستباق ، کما لا یخفیٰ .
وإن أنکرتم ظهور مادّة الاستباق فیما ذکرنا ، ولکن لا یمکن تحکیم ظهور الخیرات علیه . فعلیٰ هذا : تکون الآیة المبارکة مجملة لا یصحّ الاستدلال بها للزوم إتیان کلّ خیر واجب فوراً ، فتدبّر .
هذا کلّه فی آیة الاستباق .
وأمّا آیة المسارعة ؛ فلأنّ أصل باب المفاعلة أن یقع بین شخصین یفعل أحدهما بالآخر ما یفعل الآخر به . فإن کانت کلمة «سارعوا» فی الآیة المبارکة باقیة علیٰ أصلها فالکلام فیها الکلام فی آیة الاستباق .
وإن لم تکـن باقیة علـیٰ أصلها فنقـول : لم یکـن للمغفرة فیها عمـوم وإطـلاق بلحاظ توصیفها بالنکـرة ، بل المـراد منها المغفـرة الخاصّـة ؛ مـن کونها
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 268
کلمـة الشهادتین أو التوبـة أو أداء الفرائـض أو غیرها ؛ فلا یصـحّ استفادة لـزوم إتیان مطلق الواجبات فوراً ، کما لا یخفیٰ .
ویؤیّد ما ذکرنا : اختلاف المفسّرین فی معنی المغفرة ؛ حیث احتملوا أن یکون المراد بالمغفرة کلمة الشهادتین ، أو أداء الفرائض کما روی عن أمیر المؤمنین علیه السلام ، أو خصوص الصلوات الخمس ، أو التکبیر الأوّل من الجماعة ، أو الصف الأوّل منها ، أو التوبة ، أو الاستغفار ، أو الجهاد ، أو الإخلاص ، أو الهجرة قبل فتح مکّة ، أو متابعة الرسول ، أو أداء الطاعات .
فإنّ التردّد والاختلاف أصدق شاهد علیٰ عدم استفادة العموم من المغفرة ، وإلاّ لما کان وجه لمقابلة بعض هذه المعانی لبعض ، کما لا یخفیٰ .
ولا یخفیٰ : أنّه علیٰ تمامیة دلالة الآیتین لم تکن الفوریة مدلولة علیه ومستفادة من لفظ الأمر ، بل من دلیل خارجی .
ولو سلّم تمامیة الدلالة : یتوجّه علیه إشکال القوم ؛ من أنّه لا یکون لنا واجب یلزم إطاعته فوراً ، ولو کان فإنّما هو أقلّ قلیل ، کصلاة الزلزلة وصلاة الکسوفین فی بعض الأحیان ، مع أنّ لزوم الفوریة فیهما بدلیل خارجی .
أضف إلیٰ ما ذکرنا : أنّ الخیرات تعمّ المستحبّات ؛ فیلزم تخصیص الأکثر .
فیدور الأمر بین ذلک وبین أن یکون مراده تعالیٰ فی الآیة المبارکة إفادة حکم إرشادی أنّ ترک الخیرات فی أوائل أوقاتها والإهمال بها فی أوّل زمان تعلّق التکلیف بها یوجب خسارات وضایعات ؛ فربّما یقضی إلیٰ ترک الواجب .
وواضح : أنّ الأخیر أولیٰ ، بل ارتکاب تخصیص الأکثر مرجوح ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 269
ذکر وتعقیب
استند المحقّق العراقی قدس سره بوجه عقلی لعدم دلالة آیة الاستباق للزوم الفوریة . وحاصله أنّ مفهوم الاستباق إلیٰ فعل الخیرات یقتضی وجود عدد من الخیرات یتحقّق الاستباق بفعل مقـدار منه ، وینتفی فی المقدار الآخـر ، مـع کون المقـدار الباقی من الخیرات .
فإذن : تکون هناک صنفین من الخیرات : أحدهما فی الصنف المتقدّم ؛ وهی الخیرات التی تحقّق بها الاستباق ، والثانی ما وقعت فی الصنف المتأخّر . والثانی مزاحم للأوّل ؛ فیسقط موضوع الاستباق فیه . فالمزاحمة تنفی خیریته ؛ فحینئذٍ : یلزم عدم وجوب الاستباق فی المقدار الذی کان الاستباق یتحقّق فیه ، فإذا انتفی الوجوب عن الاستباق انتفت المزاحمة بین أعداد الواجب الموجبة لخروج بعضها عن حیثیة الوجوب ، فیتعلّق بها الوجوب جمیعاً ، وبه یعود موضوع المسارعة .
وبالجملة : یلزم من وجوب المسارعة فی الخیرات عدم وجوبها ، وما یلزم من وجوده عدمه فهو باطل ؛ فوجوب المسارعة باطل لا محالة ، وحینئذٍ لابدّ من حمل الأمر فیها علی الندب .
وفیه : أنّ الظاهر أنّ مراد هذا المحقّق قدس سره من الاستباق إلیٰ عدد الخیرات الاستباق إلی أفراد طبیعة واحدة لا أنواع الخیرات ، ولم یقل به أحد .
ولا یخفیٰ : أنّ مفهوم المسابقة ـ کما أشرنا ـ یستلزم أن تکون المسابقین متعدّداً ، وأمّا کون المسابَق إلیه متعدّداً فلا ؛ فیمکن أن تکون المسابقة والاستباق إلی أمر واحد . مثلاً یصحّ أن یقال : سابقوا علیٰ قتل زید ، والقتل أمر واحد .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 270
ولا یصحّ أن یطلقا إذا کان المسابَق إلیه والمسارع إلیه متعدّداً ، وفاعل الاستباق والمسارعة واحداً .
وبالجملة : المسابقة والاستباق یکون بین الفاعلین نحو شیء ـ واحداً کان ذلک الشیء أو متعدّداً ـ والأکثر کونه واحداً ، کما فی قوله تعالی : «وَاسْتَبَقَا البابَ» و«تسابقوا علی قتل زید» ، «وتسابقوا علیٰ نهب بیوت آل الرسول» ، إلیٰ غیر ذلک من موارد الاستعمالات .
وإن کان ـ مع ذلک ـ فی خواطرک ریب فلاحظ باب السبق والرمایة ، فیزول عن خواطرک الریب ؛ فیتّضح لک الأمر جلیاً .
فإذن : المراد بالمسابق إلیه فی الآیة المبارکة سنخ خیر یرید المکلّفون النیل إلیه ، ویکون مورداً لمسابقتهم .
فظهر ممّا ذکرنا أوّلاً : أنّ قوله قدس سره إنّ مفهوم الاستباق یقتضی وجود عدد من الخیرات لا وجه له .
وثانیاً : أنّ الأوامر ـ کما حقّق فی محلّه ـ متعلّقة بالطبائع لا الأفراد ، فإذا أوجد المکلّف فرداً من الطبیعة فقد حصلت الطبیعة المأمور بها ، فلم یکن إتیان جمیع أفراد کلّ خیر مطلوبة ؛ فحینئذٍ لا معنیٰ للمزاحمة .
وثالثاً : أنّ مجـرّد السقوط بالمزاحمـة لا یخـرج الشیء عن الخیریة بعـد إحراز خیریته بتوسّط الأمـر المتعلّق به ؛ لأنّ التزاحم إنّما هـو فی عـدم القـدرة علی امتثال کلیهما ؛ فإن کان أحدهما أهمّ یجب صرف القـدرة علیه ، وإن کانا متساویین یتخیّر فی الأخذ بأیّهما شاء مـع وجـود الخیریة فیهما ، وبعد الأخـذ بأحدهما سقط الأمر المتعلّق بالآخـر علیٰ زعمهم . ولکـن نحن لا نقول بالسقوط بالمزاحمـة ، کما سیمـرّ بک إن شاء الله تعالیٰ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 271
والأمـر الساقط بالمزاحمـة لا یوجب سقـوط متعلّقه عـن الخیریة عندهـم ، لاحـظ مبحث الترتّب .
ورابعاً : لو سلّم السقوط بالمزاحمة ، لکنّه إنّما یتمّ فیما إذا کان المطلوب واحداً ، وأنّ إتیان الفعل فی أوّل وقته مطلوباً واحداً ؛ بحیث لو أخّر لسقط عن الخیریة . وأمّا إذا تعدّد المطلوب فإن کان أصل وجوده مطلوباً والإتیان به فی أوّل وقته مطلوباً آخر فلایستلزم المزاحمة خروجه عن الفردیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 272