المقصد الأوّل فی الأوامر

الجهة السابعة فی الفور والتراخی

الجهة السابعة فی الفور والتراخی[1]

‏ ‏

‏الکلام فی دلالة الأمر علی الفور أو التراخی هو الکلام فی دلالته علی المرّة أو‏‎ ‎‏التکرار ، وقد عرفت : أنّه لا دلالة للفظ الأمر ـ بمادّته وهیئته ـ علیهما .‏

‏وحاصله : أنّ مادّة الأمر لا تدلّ إلاّ علیٰ نفس الطبیعة ، والهیئة لا تدلّ إلاّ علی‏‎ ‎‏الإغراء والبعث ، أو طلب الوجود أو الإیجاد ؛ فالفور والتراخی ، بل کلّ قید ـ من‏‎ ‎‏زمان أو مکان أو غیرهما ـ خارجة عن دلالة الأمر بمادّته وهیئته . وهذا واضح‏‎ ‎‏لاسترة فیه بعد الإحاطة بما ذکرناه هناک .‏

ولکن شیخنا العلاّمة الحائری ‏قدس سره‏‏ فتح فی اُخریات عمره الشریف باباً‏‎ ‎‏لاستفادة الفوریة من الأمر ، من دون أن یکون ذلک بدلالة اللفظ ، بل یریٰ أنّ ذلک‏‎ ‎‏من مقتضیات تعلّق الأمر بالمتعلّق عرفاً أو عقلاً .‏

‏ولأجل ذلک تغیّر بعض فتاویه ؛ فإنّه کان سابقاً یقول بالمواسعة فی قضاء‏‎ ‎‏الفوائت ، فعدل منها إلی القول بالمضایقة . وکان قائلاً بالتوصّلیة فی دوران الأمر بینها‏‎ ‎‏وبین التعبّدیة ، فعدل عنها وقال بالتعبّدیة ، کما أشرنا إلیه فی مبحث التعبّدی‏‎ ‎‏والتوصّلی‏‎[2]‎‏ ، إلی غیر ذلک .‏

‏وکان السرّ فی ذلک : مقایسة الأوامر بالعلل التکوینیة فی اقتضائها عدم انفکاک‏‎ ‎‏معالیلها عنها ؛ فکما أنّ المعلول غیر منفکّ عن علّته فی العلل التکوینیة ، فکذلک الأمر‏‎ ‎‏فی المعالیل الشرعیة ؛ فیجب المسارعة إلی الإتیان بقضاء الفوائت مثلاً .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 263
‏وبالجملة : فکما أنّ العلّة التکوینیة لا تنفکّ عن معلولها فی الخارج ، فکذلک‏‎ ‎‏العلّة التشریعیة تقتضی عدم انفکاکها عن معلولها فی الخارج . فلا یصحّ التمسّک‏‎ ‎‏بإطلاق الأمر للتراخی ، ولا التمسّک بالبراءة العقلیة لنفی الفوریة‏‎[3]‎‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 264
وفیه :‏ أنّه لا وجـه لمقایسـة العلل التشریعیة بالعلل التکوینیـة ؛ بـداهة أنّه‏‎ ‎‏لایعقل الانفکاک فـی العلل التکوینیـة بین العلّة ومعلولها خارجاً ، وتخلّل إلقاء بینهما ؛‏‎ ‎‏حیث یقال وجدت العلّة ؛ فوجـدت المعلول لیست تخلّلاً زمانیاً وبَعدیـة زمانیـة . بل‏‎ ‎‏إشارة إلی اختلاف رتبتهما وبیان أنّ المعلول وجـد بوجـود العلّة ، ومستند وجـوده‏‎ ‎‏هو وجودها .‏

‏وأمّا العلل التشریعیة فلم تکن شأنها کذلک ، بل لا یعقل عدم الانفکاک بین‏‎ ‎‏العلّة التشریعیة ومعلولها ؛ وذلک لأنّ الأمر الذی هو بعث إلی العمل وعلّة تشریعیة له‏‎ ‎‏إذا توجّه نحو المکلّف فلابدّ له أوّلاً من أن یتصوّره ، ثمّ یصدّق بفائدته ، فیشتاق إلیه‏‎ ‎‏أحیاناً ، فیریده ، ثمّ ینبعث عنه .‏

‏فتحصل الانفکاک قهراً بین العلّة التشریعیة ومعلولها زماناً ؛ فلا معنیٰ لمقایسة‏‎ ‎‏العلل التشریعیة بالعلل التکوینیة .‏

‏فإن أراد ‏‏قدس سره‏‏ بعدم الانفکاک معنیً أوسع من ذلک ـ وهو عدم الانفکاک العرفی ـ‏‎ ‎‏فیکون المراد بالفوریة الفوریة العرفیة والعقلائیة ، فلا طریق إلیٰ مقایسة العلّة‏‎ ‎‏التشریعی بالعلّة التکوینی ، بل لابدّ له من إتیانه بالتبادر ونحوه .‏

‏مضافاً إلی أنّه قامت البـرهان فـی العلل التکوینیة علی امتناع التفکیک بین‏‎ ‎‏العلّة ومعلولها .‏

‏وأمّا فیما نحن فیه : فمضافاً إلی أنّه لم یقم البرهان علیٰ ذلک ، ثبت خلافه ؛ وذلک‏‎ ‎‏لأنّه قد یتعلّق الأمر بنفس الطبیعة مجرّدة عن الفور والتراخی ؛ فالمکلّف مخیّر بین‏‎ ‎‏إثباته فوراً أو متراخیاً ، وقد یتعلّق بالطبیعة متقیّدة بواحدة منهما . ولا تجد فی ذلک‏‎ ‎‏استحالة أصلاً .‏

فالحقیق ‏لمن یرید مقایسة الإیجاب والوجوب بالعلل التکوینیة من حیث عدم‏‎ ‎‏تخلّف العلّة عن مقتضاها هو أن یقول : إنّ الإیجاب إذا تعلّق بأیّ موضوع علیٰ أیّ نحو‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 265
‏کان یتعلّق الوجوب به لا بغیره ؛ فإذا تعلّق الأمر بنفس الطبیعة لا یمکن أن یدعو إلی‏‎ ‎‏أمر زائد عنها ؛ من زمان خاصّ أو غیره .‏

‏فوزان الزمان وزان المکان ، وکلاهما کسائر القیود العرضیة لا یمکن أن یتکفّل‏‎ ‎‏الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة إثبات واحد منها ؛ لفقد الوضع والدلالة وانتفاء التشابه‏‎ ‎‏بین التکوین والتشریع .‏

فتحصّل ممّا ذکرنا :‏ أنّ هیئة الأمر لا یکاد تدعو وتنحدر إلاّ إلیٰ متعلّقه ،‏‎ ‎‏ومتعلّقه لیس إلاّ نفس الطبیعة فهی مبعوثة إلیها لیس إلاّ ، فالفور والتراخی کسائر‏‎ ‎‏القیود خارجة عن حریم دلالة لفظ الأمر .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 266

  • )) تاریخ شروع البحث یوم الاثنین 24 / ربیع الأول 1379 هـ . ق .
  • )) تقدّم فی الصفحة 206 .
  • )) قلت : هذا حاصل ما أفاده سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فی مقال اُستاذه العلاّمة الحائری قدس سره .     ولکن حیث إنّ ما ذکره العلاّمة الحائری قدس سره فی قضاء الفوائت من «کتاب الصلاة» لا تخلو عن فوائد ، ومتعرّض لبعض مطالب اُخریٰ أحببنا إیراد نصّ ما ذکره هنا ؛ حتّیٰ تکون علیٰ بصیرة من مقاله :     قال قدس سره : إنّ الأمر المتعلّق بموضوع خاصّ غیر مقیّد بزمان ، وإن لم یکن مدلوله اللفظی ظاهراً فی الفوریة ، ولا فی التراخی . ولکن لا یمکن التمسّک به للتراخی بواسطة الإطلاق ، ولا التمسّک بالبراءة العقلیة لنفی الفوریة .     لأنّه یمکن أن یقال : بأنّ الفوریة وإن کانت غیر ملحوظة للآمر قیداً للعمل إلاّ أنّها من لوازم الأمر المتعلّق به ؛ فإنّ الأمر تحریک إلی العمل ، وعلّة تشریعیة ، وکما أنّ العلّة التکوینیة لاتنفکّ عن معلولها فی الخارج ، کذلک العلّة التشریعیة تقتضی عدم انفکاکها عن معلولها فی الخارج ، وإن لم یلاحظ الآمر ترتّبه علی العلّة فی الخارج قیداً .     وهذا نظیر ما اخترناه أخیراً فی باب تداخل الأسباب : أنّ الأصل عدم التداخل ؛ فإنّ السببین وإن کانا واردین علی الطبیعة الواحدة لکن مقتضی تأثیر کلّ واحد منهما أن یوجد وجود خاصّ مستنداً إلیه .     کما أنّ مقتضی سببیة النار لإحراق ما تماسّه تحقّق الاحتراق المخصوص المستند إلی النار . وإن تعدّد النار المماسّة لجسم آخر ـ مثلاً ـ یتحقّق احتراق آخر مستند إلی النار الاُخریٰ ، وإن کان هذان الوصفان ـ أعنی الاستناد إلیها ، وکون الاحتراق الثانی احتراقاً آخر ـ غیر مستندین إلی تأثیر السبب(أ) ، انتهی . [المقرّر حفظه الله ] .ــــــــــــــــــــــــــأ ـ الصلاة ، المحقّق الحائری : 573 .