الجهة السابعة فی الفور والتراخی
الکلام فی دلالة الأمر علی الفور أو التراخی هو الکلام فی دلالته علی المرّة أو التکرار ، وقد عرفت : أنّه لا دلالة للفظ الأمر ـ بمادّته وهیئته ـ علیهما .
وحاصله : أنّ مادّة الأمر لا تدلّ إلاّ علیٰ نفس الطبیعة ، والهیئة لا تدلّ إلاّ علی الإغراء والبعث ، أو طلب الوجود أو الإیجاد ؛ فالفور والتراخی ، بل کلّ قید ـ من زمان أو مکان أو غیرهما ـ خارجة عن دلالة الأمر بمادّته وهیئته . وهذا واضح لاسترة فیه بعد الإحاطة بما ذکرناه هناک .
ولکن شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره فتح فی اُخریات عمره الشریف باباً لاستفادة الفوریة من الأمر ، من دون أن یکون ذلک بدلالة اللفظ ، بل یریٰ أنّ ذلک من مقتضیات تعلّق الأمر بالمتعلّق عرفاً أو عقلاً .
ولأجل ذلک تغیّر بعض فتاویه ؛ فإنّه کان سابقاً یقول بالمواسعة فی قضاء الفوائت ، فعدل منها إلی القول بالمضایقة . وکان قائلاً بالتوصّلیة فی دوران الأمر بینها وبین التعبّدیة ، فعدل عنها وقال بالتعبّدیة ، کما أشرنا إلیه فی مبحث التعبّدی والتوصّلی ، إلی غیر ذلک .
وکان السرّ فی ذلک : مقایسة الأوامر بالعلل التکوینیة فی اقتضائها عدم انفکاک معالیلها عنها ؛ فکما أنّ المعلول غیر منفکّ عن علّته فی العلل التکوینیة ، فکذلک الأمر فی المعالیل الشرعیة ؛ فیجب المسارعة إلی الإتیان بقضاء الفوائت مثلاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 263
وبالجملة : فکما أنّ العلّة التکوینیة لا تنفکّ عن معلولها فی الخارج ، فکذلک العلّة التشریعیة تقتضی عدم انفکاکها عن معلولها فی الخارج . فلا یصحّ التمسّک بإطلاق الأمر للتراخی ، ولا التمسّک بالبراءة العقلیة لنفی الفوریة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 264
وفیه : أنّه لا وجـه لمقایسـة العلل التشریعیة بالعلل التکوینیـة ؛ بـداهة أنّه لایعقل الانفکاک فـی العلل التکوینیـة بین العلّة ومعلولها خارجاً ، وتخلّل إلقاء بینهما ؛ حیث یقال وجدت العلّة ؛ فوجـدت المعلول لیست تخلّلاً زمانیاً وبَعدیـة زمانیـة . بل إشارة إلی اختلاف رتبتهما وبیان أنّ المعلول وجـد بوجـود العلّة ، ومستند وجـوده هو وجودها .
وأمّا العلل التشریعیة فلم تکن شأنها کذلک ، بل لا یعقل عدم الانفکاک بین العلّة التشریعیة ومعلولها ؛ وذلک لأنّ الأمر الذی هو بعث إلی العمل وعلّة تشریعیة له إذا توجّه نحو المکلّف فلابدّ له أوّلاً من أن یتصوّره ، ثمّ یصدّق بفائدته ، فیشتاق إلیه أحیاناً ، فیریده ، ثمّ ینبعث عنه .
فتحصل الانفکاک قهراً بین العلّة التشریعیة ومعلولها زماناً ؛ فلا معنیٰ لمقایسة العلل التشریعیة بالعلل التکوینیة .
فإن أراد قدس سره بعدم الانفکاک معنیً أوسع من ذلک ـ وهو عدم الانفکاک العرفی ـ فیکون المراد بالفوریة الفوریة العرفیة والعقلائیة ، فلا طریق إلیٰ مقایسة العلّة التشریعی بالعلّة التکوینی ، بل لابدّ له من إتیانه بالتبادر ونحوه .
مضافاً إلی أنّه قامت البـرهان فـی العلل التکوینیة علی امتناع التفکیک بین العلّة ومعلولها .
وأمّا فیما نحن فیه : فمضافاً إلی أنّه لم یقم البرهان علیٰ ذلک ، ثبت خلافه ؛ وذلک لأنّه قد یتعلّق الأمر بنفس الطبیعة مجرّدة عن الفور والتراخی ؛ فالمکلّف مخیّر بین إثباته فوراً أو متراخیاً ، وقد یتعلّق بالطبیعة متقیّدة بواحدة منهما . ولا تجد فی ذلک استحالة أصلاً .
فالحقیق لمن یرید مقایسة الإیجاب والوجوب بالعلل التکوینیة من حیث عدم تخلّف العلّة عن مقتضاها هو أن یقول : إنّ الإیجاب إذا تعلّق بأیّ موضوع علیٰ أیّ نحو
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 265
کان یتعلّق الوجوب به لا بغیره ؛ فإذا تعلّق الأمر بنفس الطبیعة لا یمکن أن یدعو إلی أمر زائد عنها ؛ من زمان خاصّ أو غیره .
فوزان الزمان وزان المکان ، وکلاهما کسائر القیود العرضیة لا یمکن أن یتکفّل الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة إثبات واحد منها ؛ لفقد الوضع والدلالة وانتفاء التشابه بین التکوین والتشریع .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ هیئة الأمر لا یکاد تدعو وتنحدر إلاّ إلیٰ متعلّقه ، ومتعلّقه لیس إلاّ نفس الطبیعة فهی مبعوثة إلیها لیس إلاّ ، فالفور والتراخی کسائر القیود خارجة عن حریم دلالة لفظ الأمر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 266