المورد الثانی : فی المراد بالمرّة والتکرار فی المقام
وهو أنّ المراد بالمرّة والتکرار هل الفرد أو الأفراد ، أو الدفعة والدفعات ، والفرق بینهما واضح ؛ فإنّ الفرد هو المتشخّص الخارجی ، والدفعة تصدق علیه وعلیٰ ما وجدت أفراداً متعدّدة فی آنٍ واحد .
وبالجملة : الدفعة هی تحقّق الشیء أو الأشیاء بحرکة واحدة ، فهی أعمّ من وجود فرد متشخّص خارجی . فإکرام زید وعمرو بإکرام واحد دفعة واحدة ، ولکنّه إیجاد فردین من الإکرام .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 253
الظاهر بملاحظة بعض أدلّة الطرفین : أنّ النزاع فی الفرد والأفراد ، لا الدفعة والدفعات ؛ لأنّ القائل بالتکرار یستدلّ لمرامه بأنّه لو لم یدلّ علی التکرار لما کان معنیً لتکرار الصوم والصلاة والزکاة ونحوها . وناقض استدلاله القائل بدلالته علی المرّة بالحجّ ؛ حیث لم یجب فی العمر إلاّ مرّة واحدة .
وواضح : أنّ المراد بالتکرار فی الصلاة ونحوها والمرّة فی الحجّ هی الفرد والأفراد ، لا الدفعة والدفعات . ومجرّد انطباق مفهوم الدفعة علی الفرد أحیاناً لا یوجب کون ذلک بدلالة اللفظ . ویؤیّد ذلک بأنّه لیس فی الأحکام ما یکون للدفعة والدفعات ، فتدبّر .
ولکن ذهب صاحب «الفصول» قدس سره إلی أنّ المراد بالمرّة والتکرار الدفعة أو الدفعات لوجهین :
الوجه الأوّل : مساعدة ظاهر اللفظین ؛ فإنّه لا یقال لمن ضرب شخصاً بسوطین ـ مثلاً ـ دفعة : إنّه ضربه مرّتین ، بل مرّة واحدة .
الوجه الثانی : أنّه لو اُرید بالمرّة الفرد لکان الأنسب ـ بل اللازم ـ أن یجعل هذا البحث تتمّة للبحث الآتی ؛ من أنّ الأمر هل یتعلّق بالطبیعة أو بالفرد ؛ فیقال عند ذلک وعلیٰ تقدیر تعلّقه بالفرد : هل یقتضی التعلّق بالفرد الواحد أو المتعدّد ، أو لا یقتضی شیئاً منها ، ولم یحتج إلی إفراد کلّ منهما بالبحث ، کما فعلوه .
وأمّا علیٰ ما اخترناه فلا عُلقة بین المسألتین ؛ فإنّ للقائل بتعلّق الأمر بالطبیعة أن یقول بأنّه للمرّة أو التکرار ؛ بمعنیٰ أنّه یقتضی وجوب إیجادها مرّة واحدة أو مراراً بالمعنی الذی سبق ، وإن لا یقول بذلک .
وکذا القائل بتعلّقه بالفرد دون الطبیعة ؛ إذ لیس المراد به الفرد الواحد ، بل مطلق الفرد .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 254
وفیه : أنّه لا یخفی أنّ البحث فی هذا الباب بحث لغوی وفی المعنی التصوّری ، وفی دلالة اللفظ علی المعنیٰ ، وفی أنّ أمر المولیٰ هل یدلّ علی المرّة أو التکرار ؛ ولذا یستدلّون لذلک بالتبادر وما یرجع إلی إثبات المعانی اللغویة .
وأمّا البحث فی باب تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد فهو بحث عقلی ، من غیر اختصاص لذلک بلفظ الأمر ؛ وذلک لأنّ المبحوث عنه هناک أنّ الأوامر الصادرة من الآمر ـ سواء صدرت منه بصیغة الأمر أو بصورة الجملة الخبریة ، بل بنحو من الإشارة ـ هل تتعلّق بالطبیعة أو الفرد ؟ وبعبارة اُخریٰ : هل یمکن أن تتعلّق إرادة الآمر بحسب الواقع بالطبیعة أو بالفرد ؟
ولذا تمسّک غیر صاحب الفصول قدس سره لإثبات مدّعاهم بأدلّة عقلیة ، مثل استدلالهم بأنّ الطبیعی لا وجود له فی الخارج ، واستدلالهم بأصالة الوجود ، أو أصالة الماهیة ، إلیٰ غیر ذلک ممّا یمرّ بک قریباً . وواضح أنّ الاستدلال بهذه الاُمور لم یکن من دلالة اللفظ من شیء .
فظهر لک : أنّ المسألة المبحوثة عنها مسألة لغویة ، ومسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد مسألة عقلیة ، فلا ارتباط بین المسألتین .
فعلیٰ هذا : لو قلنا هنا بأنّ لفظ الأمر موضوع للمرّة فیمکن أن یقال هناک : إنّه لا یعقل أن یکون الفرد مبعوثاً إلیه ، بل لابدّ وأن یکون المبعوث إلیها نفس الطبیعة ؛ فیکون الحکم العقلی قرینة عقلیة علیٰ عدم إرادة الموضوع له ، فتدبّر .
ولـو قلنا ـ تبعاً لصاحب «الفصول» قدس سره ؛ حیث استـدلّ فـی مسألـة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد بالتبادر ونحـوه ـ إنّ المسألـة المبحـوث عنها هناک أیضاً مسألة لغویة .
ولکن یرد علیه ـ مع ذلک ـ أمران :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 255
الأمر الأوّل : أنّه ـ مـع ذلک ـ لا یکون البحث فـی هـذه المسألـة تتمّة لـذلک البحث ؛ لأنّه قدس سره قال فـی هـذه المسألـة ـ أعنی مسألـة المـرّة والتکرار ـ مستنداً علی إجماع السکّاکی وغیره : إنّ النزاع إنّما هـو فـی الهیئة ، کما تقـدّم تفصیله .
ولکن قال فی تلک المسألة : إنّ لصیغة الأمر جزءین : جزءاً صوریاً ، وجزءاً مادّیاً . واختلف فی الجزء المادّی : أنّه یدلّ علی الطبیعة أو الفرد . وأمّا الجزء الصوری ـ وهی الهیئة ـ فتدلّ علی طلب الإیجاد .
فإذن : کان محلّ النزاع هنا فی الجزء الصوری ، وأمّا هناک ففی الجزء المادّی ، فکیف یکون البحث فی إحدی المسألتین تتمّة للبحث عن الاُخری ؟ !
ومجرّد اتّحاد المادّة مع الصورة لا یوجب کون البحث فی إحداهما تتمّة للاُخریٰ کما لا یخفیٰ ، فتدبّر واغتنم .
والأمر الثانی : أنّ إجماع السکّاکی وغیره علی أنّ المصدر المجرّد من اللام والتنوین لو کان کاشفاً عن کون النزاع فی الهیئة فی هذه المسألة فکیف لم یکن کاشفاً فی مسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد ؟ ولم یعلم فرق بین المسألتین فی ذلک .
نعم ، یمکن أن یقال : إنّه لا معنیٰ للنزاع فی الهیئة فی أنّها تدلّ علیٰ نفس الطبیعة ، أو علی الفرد منها .
والذی یمکن أن ینازع فیه هو المادّة ؛ فلا یمکن تتمیم تلک المسألة بإجماع السکّاکی وغیره .
لکن إذا تمّ إجماع السکّاکی هنا فلابدّ وأن یقال هناک : إنّه لم تکن فی المسألة خلاف ؛ أمّا فی مادّته فلإجماع السکّاکی ، وأمّا فی هیئته فلأنّها لیست إلاّ لطلب الإیجاد ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 256
ذکر وتعقیب
أشکل المحقّق الخراسانی قدس سره علیٰ صاحب «الفصول» قدس سره القائل بأنّ النزاع فی الفرد أو الأفراد إنّما یجری لو قلنا فی مسألة تعلّق الأمر بالطبیعة أو الفرد یتعلّق الأمر بالفرد . وأمّا لو قلنا بتعلّقه بالطبیعة فلا معنیٰ للفرد أو الأفراد .
وقال : بأنّه لو قلنا بتعلّق الطلب بالطبیعة یصحّ النزاع فی الفرد أو الأفراد أیضاً ؛ وذلک لأنّ الطلب علی القول بالطبیعة إنّما یتعلّق بها باعتبار وجودها فی الخارج ؛ بداهة أنّ الطبیعة من حیث هی هی لیست إلاّ هی ؛ لا مطلوبة ولا مبغوضة .
وبهذا الاعتبار صحّ النزاع فی أن یقال : إنّ مدلول الطبیعة الفرد أو الأفراد ؛ أی وجود واحد أو وجودات .
وإنّما عبّر بالفرد لأنّ وجود الطبیعة فی الخارج هو الفرد ، غایة الأمر خصوصیته وتشخّصه ـ علی القول بتعلّق الأمر بالطبیعة ـ تلازم المطلوب وخارج عنه ، بخلاف القول بتعلّقه بالفرد ؛ فإنّه ممّا یقوّمه .
وفیه : أنّه لا یخفیٰ أنّ لصیغة الأمر جزءین : جزءاً مادّیاً ، وجزءاً صوریاً .
والجزء المادّی عبارة عن نفس الطبیعة . وأمّا الجزء الصوری فلا یخلو :
إمّا أن نقول بمقالة صاحب «الفصول» قدس سره القائل بأنّه لطلب الوجود بالمعنی الحرفی ـ أی إیجاد الطبیعة ـ الذی إذا اُرید التعبیر عنه بالمعنی الاسمی یقال : «أطلب منک إیجاد الطبیعة» .
أو نقول بأنّها تدلّ علیٰ طلب إیجاد الفعل بالمعنی الاسمی .
أو نقول بأنّه لیس مفادها إلاّ البعث والإغراء .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 257
وظاهر : أنّه علی القول الأوّل ، یکون الإیجاد متعلّقاً بالطبیعة ، فلابدّ وأن تکون المادّة عبارة عن نفس الطبیعة ، فتکون الطبیعة منسلخة عن الوجود وعن کافّة اللواحق ، وإلاّ فلو لم تکن منسلخة عنها یلزم إیجاد الطبیعة الموجودة ، وهو محال .
وبالجملة : الأمر عبارة عن طلب الإیجاد ، ومتعلّقه نفس الطبیعة من حیث هی هی ؛ وهی لیست واحدة ولا کثیرة . فلا معنیٰ للنزاع فی دلالة الأمر علی الوحدة .
أمّا فی الهیئة : فلما عرفت من أنّه لا معنیٰ للوحدة والتکرار فی المعنی الحرفی ؛ لأنّ مفادها لیس إلاّ إیجاد الطبیعة . ومتعلّقه عبارة عن نفس الطبیعة من حیث هی ، وهی بهذا الاعتبار لا واحدة ولا کثیرة .
وعلی القول الثانی ـ وإن لم یقل به أحد ـ ولکنّه علیٰ ذلک لابدّ وأن یکون متعلّقه نفس الطبیعة ؛ فلا یکون البحث فی المرّة والتکرار علی القول بتعلّق الأمر بنفس الطبیعة من تتمّة ذلک .
وبالجملـة : أنّ الهیئة لـو دلّت علیٰ طلب الطبیعـة فلا یمکن أخذ الوجـود فـی المتعلّق ، وإلاّ یلزم أن یطلب إیجاد وجود الطبیعة ؛ وهو طلب الموجود الخارجی .
وهکذا علی القول الثالث ؛ فلأنّه لو کانت الهیئة دالّة علیٰ نفس الإغراء والبعث الخارجیین ، والإغـراء والبعث نحـو الطبیعـة لازمـه العقلـی إیجادها ، فیکـون البعث فی کونـه للمـرّة أو التکرار یخـرج البحث عن کـونه لغویـة ، ویدخله فـی زمـرة المسائل العقلیـة ، وهـو خلاف الظاهـر ؛ فإنّ ظاهـرهم کـون البحث فیما بینهم لغویة .
فتحصّل : أنّ إشکال المحقّق الخراسانی قدس سره غیر وارد علیٰ صاحب «الفصول» قدس سره .
والإشکال الصحیح المتوجّه علیه : هو أنّ المسألتین غیر مرتبطتین معاً ؛ فإنّ إحداهما فی الأمر اللغوی والاُخریٰ فی الأمر العقلی ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 258