المقصد الأوّل فی الأوامر

المورد الأوّل‏: فی أنّ محلّ النزاع بینهم هل فی مادّة الأمر أو هیئته أو فیهما‏؟

المورد الأوّل : فی أنّ محلّ النزاع بینهم هل فی مادّة الأمر أو هیئته أو فیهما ؟

‏ ‏

‏یظهر من صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ : أنّ النزاع بینهم فی هیئة الأمر ؛ لأ نّه قال : إنّ‏‎ ‎‏جماعة ـ منهم السکّاکی ـ حکوا إجماعاً عن أهل الأدب علی أنّ المصدر المجرّد عن‏‎ ‎‏اللام والتنوین یدلّ علیٰ نفس الطبیعة ؛ فیکون ذلک الإجماع دلیلاً علی أنّ النزاع فی‏‎ ‎‏دلالة الأمر علی المرّة والتکرار فی هیئته ، لا فی مادّته‏‎[1]‎‏ .‏

ولکن أشکل علیه المحقّق الخراسانی ‏قدس سره‏‏ : بأنّ ذلک إنّما یتمّ إذا کان المصدر مادّة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 249
‏لسائر المشتقّات . وأمّا إذا لم یکن المصدر مادّة وأصلاً لسائر المشتقّات ، بل هو منها‏‎ ‎‏ـ کما هو مقتضی التحقیق ـ فالاتّفاق الکذائی لا یوجب الاتّفاق علیٰ أنّ مادّة الأمر‏‎ ‎‏لاتدلّ إلاّ علی نفس الطبیعة ؛ فعلیه یمکن دعوی اعتبار المرّة أو التکرار فی مادّتها ، کما‏‎ ‎‏لایخفیٰ‏‎[2]‎‏ .‏

‏ولکن هذا الإشکال غیر وارد علی صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ ؛ لأنّ مادّة‏‎ ‎‏المشتقّات عندهم ـ کما هو مقتضی التحقیق ـ مادّة بسیطة خالیة عن کافّة الهیئات‏‎ ‎‏موضوعة لمعنیً . وکلّ واحد من هیئات المشتقّات موضوع بالوضع النوعی للدلالة‏‎ ‎‏علیٰ معنیً .‏

‏ففی کلّ مشتقّ یکون وضعین : أحدهما وضع مادّته ، والثانی وضع هیئته .‏‎ ‎‏والمصدر لم یشذّ عن ذلک ؛ فله وضعان : أحدهما وضع مادّته للدلالة علیٰ طبیعة‏‎ ‎‏الحدث ، والثانی وضع هیئته للدلالة علیٰ معنیً .‏

‏فلو ثبت إجماعهم علی أنّ المصدر ـ الذی هو أحد المشتقّات ـ لا یدلّ إلاّ علیٰ‏‎ ‎‏نفس الطبیعة فیستفاد منه : أنّ مادّة المصدر دالّة علی الطبیعة اللابشرط ؛ لأنّ المصدر‏‎ ‎‏ـ کما أشرنا ـ ینحلّ إلیٰ مادّة وصورة ؛ فإن دلّت المادّة علی الطبیعة المتقیّدة وهیئته علیٰ‏‎ ‎‏معنیً آخر فلا وجه لأن یقال : إنّ الإجماع منعقد علی أنّ المصدر دالّ علیٰ نفس‏‎ ‎‏الطبیعة ، وهو ظاهر .‏

‏بل الإجماع إنّما یصـحّ إذا لم تـدلّ المادّة إلاّ علـیٰ نفس الطبیعـة ، والهیئـة‏‎ ‎‏لم تدلّ علی أزیـد من ذلک ؛ بأن تکـون هیئته آلة لإمکان التنطّق بالمادّة ـ مثلاً ـ کما‏‎ ‎‏سبق‏‎[3]‎‏ ، فتدبّر ، هذا .‏

ولکنّ الذی یسهّل الأمر :‏ عدم تمامیة مقال صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ ؛ لأنّ مجرّد‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 250
‏انعقاد الإجماع علی أنّ المصدر المجرّد عن اللام والتنوین یدلّ علیٰ نفس الطبیعة لا‏‎ ‎‏یکون بنفسه دلیلاً علیٰ کون نزاعهم فی هیئة الأمر ، إلاّ أن ینضمّ إلیه إجماع آخر علیٰ‏‎ ‎‏کون مادّة المصدر مادّة لسائر المشتقّات ، وإلاّ لو کانت مادّة المصدر غیر مادّة سائر‏‎ ‎‏المشتقّات یصحّ نزاعهم فی المادّة ، کما لا یخفیٰ .‏

‏وقـد اختلف قـدماء أهل الأدب فـی ذلک ؛ فقال بعض بالغیریـة ، وقال آخـر‏‎ ‎‏بالعینیة .‏

‏بل لا یتمّ ذلک إلاّ بأن یُعزّز الإجماعان بإجماع ثالث ؛ وهو الإجماع علیٰ عدم‏‎ ‎‏کون المادّة والهیئة موضوعتین بوضع واحد شخصی ، وهو أیضاً محلّ الخلاف بینهم .‏

وبالجملة :‏ مجرّد تمامیة إجماع السکّاکی لا یوجب أن لا یکون النزاع فی المادّة ،‏‎ ‎‏بل لابدّ من انضمام إجماعین آخرین ؛ وهما الإجماع علیٰ وحدة مادّة المصدر مع سائر‏‎ ‎‏المشتقّات ، وعدم کون کلّ منهما موضوعاً بوضع واحد شخصی .‏

‏فإذا عرفت ما ذکرنا : ینبغی عطف عنان البحث إلیٰ ما یصحّ النزاع فیه ویکون‏‎ ‎‏معقولاً ، وإن لم ینازعوا فیه :‏

فنقول :‏ لا یخفیٰ أ نّه بحسب التصوّر یمکن أن یکون کلّ واحد من الهیئة والمادّة‏‎ ‎‏محلاًّ للبحث ، کما یمکن أن یکون مجموعهما محلاًّ له .‏

ولیعلم أوّلاً :‏ أ نّه علیٰ تقدیر کون الهیئة محلاًّ للنزاع لابدّ وأن یقال عند ذاک : إنّ‏‎ ‎‏المادّة موضوعة للطبیعة اللابشرط ، کما لا یخفیٰ .‏

‏ولکن لا یعقل أن تکون الهیئة محلاًّ للنزاع ؛ وذلک لأنّ مفاد الهیئة ـ کما ذکرنا ـ‏‎ ‎‏للإغراء والبعث ، نظیر إشارة الأخرس ؛ فکما أنّ الإشارة لیست إلاّ إغراءً نحو المشار‏‎ ‎‏إلیه فکذلک الهیئة .‏

‏نعم ، لازم الإغراء بالحمل الشائع عرفاً أو عقلاً إیجاد الطبیعة خارجاً ، ولا‏‎ ‎‏معنیٰ لإغراءین تأسیسیین نحو طبیعة واحدة ، کما لا یمکن تعلّق إرادتین مستقلّتین من‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 251
‏شخص واحد بشیء واحد فی آنٍ واحد ؛ لأ نّه قد سبق : أنّ تشخّص الإرادة وتعدّدها ؛‏‎ ‎‏وکذا الحبّ والبغض ونظائرهما تابعة لوحدة متعلّقها وتعدّدها .‏

‏فإذا کان المتعلّق واحداً لا یعقل تعلّق إرادتین مستقلّتین تأسیسیتین بشیء‏‎ ‎‏واحد فی آنٍ واحد ، وهکذا الأمر فی الإغراءین المستقلّین .‏

‏نعم ، یمکن أن یکون أحد الإغراءین تأسیسیاً والآخر تأکیدیاً ، ولکنّه خارج‏‎ ‎‏عن محطّ البحث من کون الأمر دالاًّ علی المرّة أو التکرار ، کما لا یخفیٰ ، هذا .‏

‏مضافاً إلی أنّ تکرار الإغراء مع وحدة الطبیعة خارج عن محطّ البحث ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الوحدة أو الکثرة المبحوث عنه هنا هی وحدة المادّة وتکرّرها ، لا وحدة الإغراء‏‎ ‎‏والإغراءین ، فتدبّر .‏

فظهر :‏ أ نّه لو کان مفاد الهیئة الإغراء فلا یعقل أن تکون الهیئة محلاًّ للبحث ،‏‎ ‎‏فالنزاع لابدّ وأن یکون فی المادّة ، والنزاع فیها إنّما یکون إذا لم یثبت کون المصدر‏‎ ‎‏المجرّد عن اللام والتنوین دالاًّ علی الماهیة اللابشرط ، أو لا تکون مادّة المصدر مادّة‏‎ ‎‏لسائر المشتقّات ، أو لا تکون المادّة والهیئة موضوعتین بوضع شخصی ؛ فإذا ثبتت‏‎ ‎‏تلک الاُمور ـ کما هو الظاهر ـ فلا وجه للنزاع فی المادّة أیضاً .‏

هذا کلّه‏ علیٰ تقدیر کون مفاد الهیئة الإغراء والبعث الخارجیین .‏

وأمّا‏ لو کانت موضوعة لمفهوم طلب الإیجاد فللنزاع فیه مجال .‏

‏ولکن اتّفقت کلمتهم علی أنّ مفاد الهیئة معنیً حرفی ، ومفهوم طلب الإیجاد‏‎ ‎‏معنیً اسمی .‏

‏وصاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ ـ القائل بأنّ مفاد الهیئة طلب الإیجاد‏‎[4]‎‏ ـ لا یقول :‏‎ ‎‏إنّها وضعت لمفهومه ، بل لمصداقه .‏

‏ولا یمکن أن یکون مفاد الهیئة البعث المتقیّد ؛ لأنّ تقیید شیء بشیء لابدّ وأن‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 252
‏یکون بعد لحاظه مستقلاًّ ، والمعانی الحرفیة حیث إنّها غیر ملحوظة مستقلّة فلایمکن‏‎ ‎‏تقییدها .‏

‏إن قلت : یمکن تقییدها بلحاظ ونظرةٍ اُخریٰ . قلت : نعم ، ولکنّه لا یکون‏‎ ‎‏بدلالة لفظ الهیئة .‏

‏ویمکن أن یقال : إنّ الهیئة موضوعة لإیجادات بالمعنی الحرفی ؛ فکما یجوز‏‎ ‎‏استعمال الحرف فی أکثر من معنیً واحد یجوز وضع الهیئة لکثرات واستعمالها فیها .‏

‏ولکنّه خلاف الوجدان والمرتکز فی الأذهان فی الأوضاع .‏

فتحصّل ممّا ذکرنا :‏ أنّ النزاع فی الهیئة لا معنیٰ له ، بل لا یعقل . وأمّا فی المادّة‏‎ ‎‏ـ بعد کون مادّة المصدر المجرّدة دالّة علی الهیئة اللابشرط ، ولم تکن مادّته مادّة لسائر‏‎ ‎‏المشتقّات ، ولم تکن المادّة والهیئة موضوعتین بوضع شخصی ـ فللنزاع فیه مجال .‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 253

  • )) الفصول الغرویة : 71 / السطر 21 .
  • )) کفایة الاُصول : 100 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 55 .
  • )) الفصول الغرویّة : 71 / السطر 39 .