ذکر وتعقیب
لکلّ من المحقّق الأصفهانی والعلاّمة القوچانی وشیخنا العلاّمة الحائری ـ قدّس الله أسرارهم ـ مقالاً فی إثبات النفسیة وما یماثلها عند دوران الأمر بینها وبین ما یقابلها ، ولکنّها لا یخلو عن النظر :
أمّا ما أفاده المحقّق الأصفهانی قدس سره فی «التعلیقة» فحاصله : أنّ النفسیة وما یماثلها وإن کانت قیوداً للطبیعة نحو ما یقابلها ؛ لخروجها جمیعاً عن الطبیعة المهملة إلاّ أنّ بعض القیود کأنّه لا یزید علیٰ نفس الطبیعة عرفاً ، کالنفسیة وما یماثلها ، دون ما یقابلها .
ثمّ لمّا رأیٰ قدس سره عدم استقامة ما أفاده ، ولعلّه بلحاظ أنّ البحث لغوی عرفی ، وتقسیم الواجب إلی النفسیة والغیریة وکذا غیرها إنّما هو عندهم ؛ وهم الذین یرون الواجب النفسی ـ مثلاً ـ قبالاً للواجب الغیری ، فإذا کان الأمر کذلک فکیف لایفهمون کون النفسیة قیداً . وهکذا بالنسبة إلی الواجب التعیینی والتخییری ، والعینی والکفائی .
استدرک قدس سره وقال : التحقیق : أنّ النفسیة لیست إلاّ عدم کون الوجوب للغیر ، وکـذا البواقی . وعـدم القرینـة علی القیود الوجودیـة دلیل علیٰ عـدمها ، وإلاّ یلزم نقض الغرض . ففی کلّ من النفسیة والغیریة قید ، غایته : أنّ فی أحدهما ـ وهو النفسیة وما یماثلها ـ قیداً عدمیاً ، وفی الآخر وما یقابلها قیداً وجودیاً . ویکفی فی العدمی عدم نصب القرینة علی الوجودی المقابل له . فمقتضی الحکمة تعیین المقیّد بالقید العدمی .
وفیه : أنّ عدم الوجوب للغیر المأخوذ فی الواجب النفسی لا یخلو إمّا أن یکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 244
بنحو السلب التحصیلی ، أو لا ؛ بأن یکون بنحو الموجبة المعدولة المحمول أو الموجبة السالبة المحمول .
وعلی الأوّل ـ ولعلّه الظاهر من کلامه قدس سره ـ یلزم أن یکون الواجب النفسی هو عدم الواجب الغیری بالعدم التحصیلی الصادق مع عدم الوجوب رأساً ، ومحال أن یکون الأمر الوجودی عدم شیء آخر . ولو قیل أحیاناً : إنّ وجود زید ـ مثلاًـ عدم وجود عمرو فهو کلام مسامحی .
وعلی الثانی : یکون العدم قیداً . ولا معنیٰ لأن یقال : إنّ القید العدمی بمنزلة العدم ؛ لأنّه کرّ علیٰ ما فرّ منه .
فإن صحّ أنّ لکلٍ من الوجوبین قیداً ، لکن فی أحدهما ـ وهو الواجب الغیری ـ یکون القید وجودیاً ؛ وهو کونه واجباً لغیره ، وفی الآخر ـ وهو الواجب النفسی ـ یکون القید عدمیاً اعتباریاً ؛ وهو عدم کونه واجباً لغیره .
فنقول : التقیید ـ سواء کان بأمر وجودی أو عدمی ـ فهو اعتبار زائد علیٰ نفس الطبیعة ، وواضح : أنّ الإطلاق یقتضی عدم تقیید الطبیعة بقید أصلاً ، لا عدم تقییده بقید عدمی فقط . ولا فرق فی التقیید بین التقیید بأمر اعتباری أو غیر اعتباری ، هذا .
مضافاً إلیٰ ما فی قوله قدس سره : إنّ القید المأخوذ فی الواجب النفسی عدمی ؛ فإنّ الأولی أن یقول بالعکس ، وإنّ الواجب الغیری هو ما لا یکون واجباً لذاته .
والذی یسهّل الخطب ویقتضیه التحقیق : أنّ کلاًّ من النفسیة والغیریة سنخ واجب برأسه ، وکذا مماثلاتها ، فتدبّر .
وأمّا ما أفاده العلاّمة القوچانی قدس سره فحاصله : أنّ کلّ واحد من النفسیة والغیریة ـ مثلاً ـ وإن کان لها قید وخصوصیة فی مقام الثبوت یمتاز إحداهما عن الاُخری ، لکن مجرّد ذلک لا یلازم بیاناً زائداً فی مقام الإثبات علی أصل الطبیعة ؛ لأنّه قد یکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 245
الشیء مقیّداً بحسب الثبوت بقید عدمی ، ولکن لا یحتاج فی مقام الإثبات إلی زیادة بیان ، والوجوب النفسی من هذا القبیل ، بخلاف الوجوب الغیری ؛ لأنّ القید المذکور للوجوب النفسی فی مقام الثبوت عدمی ، بخلاف الوجوب الغیری فإنّه وجودی ؛ فإنّ له فی مقام البیان أیضاً قیداً وخصوصیة ، کما کانت فی مقام الثبوت .
وحینئذٍ : لو اُطلق اللفظ وکان فی مقام البیان ولم ینصب قرینة علی المراد فمقتضاه الحمل علی النفسیة ؛ لاحتیاج الغیریة إلیٰ مؤونة زائدة فی مقام البیان . ومن هذا القبیل الواجب المطلق والمشروط .
وفیه : أنّ ما أفاده قدس سره وإن کان أسلم ممّا ذکـره غیره إلاّ أنّه یظهـر مـن أوّل کلامـه أنّه یریـد إثبات ذلک بمقدّمات الحکمـة ، ولکن یظهر ممّا ذکـره أخیراً عـدم احتیاجـه إلی ذلک .
فیتوجّه علیه : أنّ عدم الاحتیاج فی مقام الإثبات ـ بعد کونه مقیّداً فی مقام الثبوت ـ لابدّ وأن یکون لجهة ؛ وهی إمّا کثرة استعمال الواجب فی النفسی الموجب لصرف الظهور إلیه أو الانصراف إلیه ، أو لاحتفافه بقرینة عامّة ، ونحوها .
وواضح : أنّه لم یکن شیء من ذلک فی البین ؛ فما أفاده غیر وجیه .
وأمّا ما أفاده شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره فحاصلـه : أنّه لا یبعـد أن یکون حمل الوجـوب علـی النفسی والتعیینی عند احتمال کونه غیـریاً أو تخییریاً لأجل الظهـور العـرفی بمجرّد عـدم ذکـر القیـد فـی الکـلام ؛ لأنّ عـدم اشتمال القضیـة علـیٰ ما یفیـد کـون وجوبـه لملاحظة الغیر ، وکـذا علیٰ ما یکـون طرفاً للفعل الـواجب یوجب استقـرار ظهـورها فی کون الوجـوب نفسیاً تعیینیاً ؛ فلا یحتاج إلی إحـراز مقدّمات الحکمة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 246
والشاهد علیٰ ذلک کلّه : المراجعة إلیٰ فهم العرف ؛ إذ لا دلیل فی أمثال ذلک أمتن ممّا ذکر .
ثمّ احتمل وجهاً آخر ـ وهو الذی اخترناه ـ فارتقب حتّی حین .
وفیه : أنّ دلالـة اللفظ علیٰ معناه بعـدما لم تکن ذاتیـة لم تکن جزافیـة ، بل تابعـة للوضـع .
فظهـور کلّ لفظ فی معناه ـ کالوجـوب فیما نحن فیه ـ لابدّ وأن یکـون له منشأ ، فهو لا یخلو إمّا أن یکون اللفظ موضوعاً له بالوضع التعیینی ، أو بالوضع التعیّنی بکثرة الاستعمال فیه ، أو لاحتفافه بقرینـة عامّة ، أو تکون للانصراف إلیه ، وکلّها مفقودة فیما نحن فیه :
أمّا الوضع التعیینی فمسلّم عند الکلّ .
وأمّا التعیّنی فهو رهین کثرة الاستعمال ، ولم یثبت کثرته فی الوجوب النفسی بالنسبة إلی الوجوب الغیری . والأصل عدم وجود قرینة عامّة فی البین . والانصراف أیضاً لابدّ له من کثرة الاستعمال الموجبة لهجر غیر ما انصرف إلیه ولم یثبت .
فإذن : دعوی الظهور العرفی فیما أفاده غیر وجیه .
والذی یقتضیه التحقیق فی وجه ذلک أن یقال ـ بعد مسلّمیة الأمر عند العرف والعقلاء ، وهو الذی احتمله شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره أخیراً ـ هو أنّه قد سبق منّا أنّ الهیئة وضعت للبعث والإغراء بالمعنی الحرفی ، نظیر إشارة الأخرس . فإذن : الهیئة آلة لإیجاد معناها ، نظیر إیجاد أداة القسم والنداء والاستفهام معانیها ؛ فلا معنیٰ لکون الموضوع له عامّاً ، بل خاصّاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 247
وأمّا الوضع فإمّا یکون خاصّاً أو عامّاً حسب ما فصّلناه فی معنی الهیئة .
فإذن : البعث والإغراء المتوجّهان إلی العبد یکونان حجّة علیه عند العرف والعقلاء ، وهم یرون أنّ بعث المولیٰ لا یجوز ترکه والتقاعد عنه باحتمال وجوب غیره فی دوران الأمر بین کون الواجب نفسیاً أو غیریاً ، أو کون غیره عدلاً للواجب فی دوران الأمر بین کون الواجب تعیینیاً أو تخییریاً ، أو کونه مکلّفاً بخصوصه فی دوران الأمر بین کون الواجب عینیاً أو کفائیاً .
وبالجملة : العرف والعقلاء لا یرون عذراً لعبد لم یمتثل أمر مولاه باحتمال کون الواجب غیریاً أو تخییریاً أو کفائیاً ، بل یرون أنّ للمولیٰ حجّة علیه ، من دون فرق فی ذلک بین أن یکون أمر المولیٰ بالهیئة أو بالإشارة .
فکما أنّ المولیٰ لو أشار إلی عبده بشیء یجب علیه امتثاله ، ولا یجوز له التقاعد عنه ، من دون أن یکون هنا لفظ حتّیٰ یقال : إنّه بظهور اللفظ ، بل لأجل أنّ العبد لابدّ له من امتثال طلب المولیٰ ، فکذلک الهیئة .
والهیئة والإشارة ترتضعان من ثدی واحد . غایته : أنّ دلالة الإشارة تکوینی وبالید ـ مثلاً ـ والهیئة تشریعی وباللسان . فالباب باب احتجاج المولیٰ علی العبد واحتجاج العبد علیٰ مولاه ، لا باب دلالة اللفظ . وقد سبق شِقص من الکلام فی حمل هیئة الأمر علی الوجوب ، فلاحظ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 248