المقصد الأوّل فی الأوامر

المورد الثانی‏: فی البراءة الشرعیة

المورد الثانی : فی البراءة الشرعیة[1]

‏ ‏

‏والبحث فیها یتصوّر علیٰ وجوه ثلاثة :‏

‏الأوّل : علیٰ إمکان أخذ قصد الأمر فی المتعلّق بأمر واحد .‏

‏والثانی : علیٰ عدم إمکان الأخذ إلاّ بأمرین .‏

‏والثالث : علیٰ عدم إمکان الأخذ ولو بأمرین .‏

‏وعلی أیّ منها تارة : یبحث مع القول بجریان البراءة العقلیة فی قصد الأمر ،‏‎ ‎‏واُخریٰ مع عدم جریان البراءة العقلیة . فالصور ستّة .‏

‏تنقیح المقال یستدعی البحث فی کلّ منها :‏

ذکر المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ وجهین لعدم جریان البراءة النقلیة فی المقام ، ولو قلنا‏‎ ‎‏بإمکان أخذ قید الدعوة فی متعلّق الخطاب ، علی تقدیرحکم العقل فی المقام بالاشتغال :‏

‏أحدهما : ما یعمّ إمکان أخذه فی متعلّق الخطاب الأوّل والثانی .‏

‏وثانیهما : ما یختصّ بإمکان أخذه فی الخطاب الثانی فقط .‏

وحاصل ما أفاده فی الوجه الأوّل :‏ هو عدم وجود ملاک جریان البراءة النقلیة فی‏‎ ‎‏المقام بناءً علی جواز أخذ القید فی الخطاب الأوّل ؛ وذلک لأنّ ملاک الجریان فیما یکون‏‎ ‎‏إهمال المشکوک فیه ناقضاً للغرض . وأمّا فیما لم یستلزمه لکفایة حکم العقل بلزوم‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 223
‏الاحتیاط ـ کما فی المورد ـ فلا مجریٰ للبراءة .‏

‏والناظر إلی هذا الوجه لا یدّعی أنّ حکم العقل بلزوم الاحتیاط فی المقام‏‎ ‎‏بیانٌ ؛ فینتفی معه موضوع البراءة لیورد علیه باستلزام ذلک الدور ، کما قرّر فی محلّه .‏‎ ‎‏بل هو یدّعی قصور دلیل البراءة النقلیة عن شمول مثل المورد .‏

‏نعم ، ذلک مخصوص بالقیود غیر المغفول عنها غالباً ؛ لیصحّ الإتّکال علیٰ حکم‏‎ ‎‏العقل ، کالمقام فإنّ قید الدعوة فحیث إنّها ملتفت إلیها ـ حسب الفرض ـ فیجوز‏‎ ‎‏للحکیم أن یتّکل فی مقام استیفاء غرضه منها علیٰ حکم العقل بلزوم الاحتیاط فی‏‎ ‎‏مورد الشکّ فی شیء منها‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه لا وجه لدعویٰ قصور أدلّة البراءة النقلیة أصلاً ، ولا انصرافها عنه‏‎ ‎‏بعد کون الموضوع قابلاً للوضع والرفع ؛ وذلک لأنّ الانصراف لابدّ له من منشأ معتدّ‏‎ ‎‏به ، والظاهر عدمه .‏

‏ثمّ إنّه لو صحّ دعوی الانصراف فالأولیٰ دعواه بالنسبة إلیٰ ما لا یحکم العقل‏‎ ‎‏بالاشتغال ، بل یحکم بقبح العقاب بلا بیان ؛ لأنّ ظاهر الخطاب هو المولویة‏‎ ‎‏والتأسیس ، لا الإرشاد والتأکید .‏

‏وبالجملة : یمکن دعـوی الانصراف فـی نحـو حدیث ‏«رفع عن اُمّتی تسعة :‎ ‎‏ـ إلـی أن قال ـ ‏ما لا یعلمون . . .»‏ إلی آخـره‏‎[3]‎‏ ، الـذی هـو الـدلیل المعتمـد علیه‏‎ ‎‏فـی البراءة النقلیـة ؛ إذ ظاهـره الامتنان علـی الاُمّة ، وهـو إنّما یلائم المـوارد‏‎ ‎‏المحکـوم علیها بالاشتغال . وأمّا المـوارد التی یحکـم العقل الصریـح بقبـح العقاب‏‎ ‎‏فیها فالمسلم وغیـره فیه شـرع سواء ، هـذا .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 224
‏ولکنّه لا یکاد یصحّ الاعتماد فی دعوی الانصراف علیٰ مثل هذه الوجوه ،‏‎ ‎‏والعمدة عدم القصور والانصراف عمّا یحکم العقل فیه بالاحتیاط ، فحینئذٍ لابدّ من‏‎ ‎‏رفع الید عنه ؛ لعدم قیام الحجّة علی المشکوک فیه .‏

وحاصل ما أفاده فی الوجه الثانی :‏ هو أنّ جریان البراءة النقلیة لنفی وجوب‏‎ ‎‏قید الدعوة بنحو الأمر الثانی لا یثبت کون متعلّق الخطاب الأوّل تمام المطلوب ، إلاّ‏‎ ‎‏علی القول بحجّیة الأصل المثبت .‏

‏ضرورة أنّ نفی الوجوب المستفاد من متمّم الجعل ، وإثبات أنّ الباقی وافٍ‏‎ ‎‏بالغرض بالأصل المذکور من أظهر مصادیق الأصل المثبت ، بخلاف ما لو قلنا بجواز‏‎ ‎‏أخذه فی الخطاب الأوّل ؛ فإنّ مرجع الشکّ فیه إلی انبساط الأمر علی المشکوک ، فإذا‏‎ ‎‏جرت البراءة فیه استفید أنّ باقی الأجزاء هو تمام المأمور به ، ولا محذور فیه ؛ لخفاء‏‎ ‎‏مثل هذه الواسطة عند العرف‏‎[4]‎‏ .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ العبد مأخوذ بما قام لدیه الحجّة ، وهی لیست إلاّ ما اُخذ فی‏‎ ‎‏لسان الدلیل فقط ، ومن المعلوم أنّه لیس عنوان تمام المطلوب ونحوه کالوافی بالغرض‏‎ ‎‏ممّا اعتبر فی لسان الدلیل .‏

‏فعلیه : إذا أتیٰ بما تعلّق به الخطاب الأوّل صـدق الامتثال قطعاً ؛ لعـدم قیام‏‎ ‎‏الحجّـة علی أزیـد منه بعد کـون ذلک الزائـد مشکـوکاً فیه ، وحکـم الشارع برفـع‏‎ ‎‏ما لا یعلم .‏

وثانیاً :‏ لـو سلّم ذلک لکنّه لا فـرق بین إمکان الأخذ فـی الخطاب الأوّل أو‏‎ ‎‏الخطاب الثانی مـن هـذه الجهـة ، لو لم یکن الأمـر فـی الخطاب الأوّل أصعب ؛ إذ نفی‏‎ ‎‏المشکوک وجـوبه بتتمیم الجعل ، مثل نفی وجـوبه بالخطاب الأوّل فـی عـدم إثبات‏‎ ‎‏عنوان کون الباقی تمام المطلوب ، أو الوافی بالغرض .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 225
وثالثاً :‏ لو سلّم خفاء الواسطة عند العرف فلا اعتداد به ، کما قرّر فی محلّه‏‎[5]‎‏ ؛‏‎ ‎‏لعدم الفرق فی عدم الحجّیة بین خفاء الواسطة وعدمه .‏

فظهر ممّا ذکرنا :‏ أنّ المرجع هو البراءة الشرعیة ، مع إمکان أخذ قصد الأمر فی‏‎ ‎‏الخطاب الأوّل أو فی الخطاب الثانی ، وإن قلنا بالاشتغال عقلاً ؛ فتدبّر .‏

‏وأمّا مع عدم إمکان أخذ قصد الأمر فی الخطاب مطلقاً ـ حتّیٰ فی الخطاب‏‎ ‎‏الثانی ـ وقلنا بالاشتغال العقلی ، فالحقّ فیه أیضاً البراءة الشرعیة .‏

‏خلافاً للمحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ حیث قال : لا أظنّک أن تتوهّم وتقول : إنّ أدلّة‏‎ ‎‏البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الاعتبار ، وإن کانت قضیة الاشتغال عقلاً هی‏‎ ‎‏الاعتبار ؛ لوضوح أنّه لابدّ فی عموم أدلّة البراءة الشرعیة من شیء قابل للرفع‏‎ ‎‏والوضع شرعاً ، ولیس هاهنا ؛ فإنّ دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس‏‎ ‎‏بشرعی بل واقعی ، ودخل الجزء والشرط فی الغرض وإن کان کذلک إلاّ أنّهما قابلان‏‎ ‎‏للوضع والرفع شرعاً . فبدلیل الرفع ـ ولو کان أصلاً ـ یکشف أنّه لیس هناک أمر‏‎ ‎‏فعلی بما یعتبر فیه المشکوک یجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام فإنّه علم‏‎ ‎‏بثبوت الأمر الفعلی ، کما عرفت ، فافهم‏‎[6]‎‏ .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ الظاهر من حدیث الرفع وإن کان ما استنبطه ‏‏قدس سره‏‏ ؛ من لزوم کون‏‎ ‎‏المشکوک فیه قابلاً للوضع ، بل لابدّ وأن یکون هناک وضع وتشریع ، إلاّ أنّه رفع إذا‏‎ ‎‏لم یعلم امتناناً ، لا أنّه بمعنی الدفع حتّی یعمّ ما لا یصلح للوضع .‏

‏ولکن الذی یسهّل الأمر : عدم انحصار دلیل البراءة الشرعیة بما یکون لسانه‏‎ ‎‏لسان الرفع حتّی لا یلائـم المقام ـ لکونه مخصـوصاً بما یمکـن بیانه ووضعـه ؛ فلایعمّ‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 226
‏لما لا یمکـن بیانه ـ بل یکون بعض أدلّتها علی وزان حکم العقل بالبراءة ؛ کقوله‏‎ ‎‏تعالی : ‏‏«‏وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبِیْنَ حَتَّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‎[7]‎‏ ؛ وقولـه ‏‏صلی الله علیه و آله وسلم‏‏ : ‏«الناس فی سعة‎ ‎ما لا یعلمون»‎[8]‎‏ .‏

‏ولا شکّ فی عـدم اختصاص المستفاد منهما بالبراءة عمّا یصحّ البیان والوضع ،‏‎ ‎‏بل المراد منهما : أنّ العذاب علیٰ ما لم تقم علیه الحجّة لیس من دأبه تعالیٰ ، وإن کان‏‎ ‎‏عدم قیامها لعدم الإمکان ، وحیث إنّ قصد الامتثال ممّا لم تقم علیه الحجّة علیٰ وجوبه‏‎ ‎‏فالناس فی سعة عدم الوجوب ونفی الکلفة الزائدة .‏

‏وواضح : أنّ هذا اللسان لسان البراءة العقلیة ویجزم به ؛ لأنّ عدم البیان‏‎ ‎‏المأخوذ فی حکم العقل بقبح العقاب معه أعمّ من أن یکون لعدم الإمکان ، أو لعدم‏‎ ‎‏البیان مع إمکان البیان .‏

‏وبالجملة : مفاد حدیث «ما لا یعلمون» وإن کان مخصوصاً بما یمکن وضعه‏‎ ‎‏وبیانه ؛ فلا یعمّ المقام ، إلاّ أنّ قوله تعالی : ‏‏«‏وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبِیْنَ حَتَّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً‏»‏‏ ،‏‎ ‎‏وقوله : ‏«الناس فی سعة ما لا یعلمون»‏ علیٰ وزان حکم العقل بالبراءة العقلیة ؛ فیعمّ‏‎ ‎‏المقام ، فتدبّر .‏

وثانیاً :‏ لـو سلّم کـون مستند البـراءة الشـرعیة خصـوص حدیث الرفـع ،‏‎ ‎‏ولکن نقـول : إنّ المرفـوع:‏

‏إمّا خصوص المؤاخـذة کما ذهب إلیه شیخنا الأعظم الأنصاری ‏‏قدس سره‏‎[9]‎‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 227
‏أو الأعمّ منها ومن سائرالآثار ، کمالعلّه الظاهرمن بعض کلمات هذا المحقّق ‏‏قدس سره‏‎[10]‎‏ .‏

‏وعلی أیّ تقدیر : لا إشکال فی أنّ المؤاخذة بیده وضعاً ورفعاً ، فحینئذٍ یترک‏‎ ‎‏ذلک القید المشکوک وجوبه ؛ اعتماداً علیٰ رفع المؤاخذة بترکه . ولا یلزم فی المقام إحراز‏‎ ‎‏عدم الحکم ورفع الموجود حتّی یقال بأنّه غیر ممکن .‏

وثالثاً :‏ أنّه لا ریب فی کون بعض التکالیف عبادیاً ، وقام علیه ضرورة‏‎ ‎‏المسلمین ـ کالصلاة والصوم ونحوهما ـ ، فهل ذلک بمقتضیٰ حکم العقل بالاشتغال ، أو‏‎ ‎‏بلحاظ قیام أمر مولوی علیٰ ذلک ؟‏

‏لا سبیل إلی الأوّل ، ولا أری ارتضاءه به ؛ لأدائه إلیٰ جواز احتمال کون الصلاة‏‎ ‎‏ونحوها توصّلیاً یؤتی بها بقصد الأمر ؛ لحکم العقل بالاشتغال ، وهو کما تریٰ . بل‏‎ ‎‏عبادیته لأمر شرعی کشف عنه ضرورة المسلمین .‏

‏فعلیه : یصحّ التکلیف ، بل لابدّ وأن یجب الحکم بإمکان بیانه ـ ولو بدلیل آخر‏‎ ‎‏ـ بداهة أنّ الوقوع من أوثق الأدلّة وأقواها علیٰ إمکان الأخذ .‏

ولعمر الحقّ :‏ إنّه لا ریب ولا إشکال ، بل لابدّ من الجزم بالبراءة الشرعیة ؛‏‎ ‎‏لشمول أدلّتها للمقام ؛ سواء اُخذ فی أدلّتها عنوان الرفع أو لم یؤخذ ، وإن قلنا‏‎ ‎‏بالاشتغال کما هو المفروض ، فتدبّر .‏

‏وأنت خبیر : بأنّ ما ذکرنا کلّه هنا مماشاة مع القوم ، وإلاّ فقد تحقّق وظهر لعلّه‏‎ ‎‏لا خفاء فیه ولا إبهام فی جواز أخذ قصد الأمر ونحوه فی متعلّق الخطاب الأوّل ، فضلاً‏‎ ‎‏عن الخطاب الثانی ؛ فإنّ الأصل اللفظی فی المسألة عند الشکّ فی اعتبار قصد الأمر‏‎ ‎‏ونحوه فی المتعلّق هو التوصّلیة ، ومع فقد شرائط الإطلاق فالأصل العملی البراءة‏‎ ‎‏عقلاً ونقلاً ، والله الهادی إلی سواء الطریق .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 228

  • )) ولیعلم : أنّه خطب بنا أمر فی صبیحة یوم الخمیس 20 ذی القعدة من 1378هـ . ق ؛ وهو ارتحال أبی زوجتنا ، الشیخ الجلیل ، آیة الله الشیخ محمد علی الحائری الکرمانی ـ طاب ثراه ـ أحد أساتیذ الحوزة العلمیة بقم المقدّسة ، فعاقنی الحضور فی مجالس الدرس أیّاماً قلائل . وله الحمد لم یطل أمد الدرس إلی أن انعطل یوم الأحد 29 ذی القعدة .     فما نکتبه فی البراءة الشرعیة إلی مسألة دوران الأمر بین الواجب النفسی والغیری مقتبس من تقریر بعض أصدقائنا الأعلام ، دامت برکاته العالیة [ المقرّر حفظه الله ] .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 243 ـ 244 .
  • )) الخصال 2 : 417 / 9 ، التوحید : 353 / 24 ، وسائل الشیعة 11 : 295 ، کتاب الجهاد ، أبواب جهاد النفس ، الباب 56 ، الحدیث 1 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 244 .
  • )) الاستصحاب ، الإمام الخمینی قدس سره : 158 .
  • )) کفایة الاُصول : 99 .
  • )) الإسراء (17) : 15 .
  • )) عوالی اللئالی 1 : 424 / 109 ، مستدرک الوسائل 18 : 20 ، کتاب الحدود و التعزیرات ، أبواب مقدّمات الحدود ، الباب12 ، الحدیث 4 .
  • )) فرائد الاُصول : 195 / السطر21 .
  • )) کفایة الاُصول : 387 .