المورد الثانی : فی البراءة الشرعیة
والبحث فیها یتصوّر علیٰ وجوه ثلاثة :
الأوّل : علیٰ إمکان أخذ قصد الأمر فی المتعلّق بأمر واحد .
والثانی : علیٰ عدم إمکان الأخذ إلاّ بأمرین .
والثالث : علیٰ عدم إمکان الأخذ ولو بأمرین .
وعلی أیّ منها تارة : یبحث مع القول بجریان البراءة العقلیة فی قصد الأمر ، واُخریٰ مع عدم جریان البراءة العقلیة . فالصور ستّة .
تنقیح المقال یستدعی البحث فی کلّ منها :
ذکر المحقّق العراقی قدس سره وجهین لعدم جریان البراءة النقلیة فی المقام ، ولو قلنا بإمکان أخذ قید الدعوة فی متعلّق الخطاب ، علی تقدیرحکم العقل فی المقام بالاشتغال :
أحدهما : ما یعمّ إمکان أخذه فی متعلّق الخطاب الأوّل والثانی .
وثانیهما : ما یختصّ بإمکان أخذه فی الخطاب الثانی فقط .
وحاصل ما أفاده فی الوجه الأوّل : هو عدم وجود ملاک جریان البراءة النقلیة فی المقام بناءً علی جواز أخذ القید فی الخطاب الأوّل ؛ وذلک لأنّ ملاک الجریان فیما یکون إهمال المشکوک فیه ناقضاً للغرض . وأمّا فیما لم یستلزمه لکفایة حکم العقل بلزوم
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 223
الاحتیاط ـ کما فی المورد ـ فلا مجریٰ للبراءة .
والناظر إلی هذا الوجه لا یدّعی أنّ حکم العقل بلزوم الاحتیاط فی المقام بیانٌ ؛ فینتفی معه موضوع البراءة لیورد علیه باستلزام ذلک الدور ، کما قرّر فی محلّه . بل هو یدّعی قصور دلیل البراءة النقلیة عن شمول مثل المورد .
نعم ، ذلک مخصوص بالقیود غیر المغفول عنها غالباً ؛ لیصحّ الإتّکال علیٰ حکم العقل ، کالمقام فإنّ قید الدعوة فحیث إنّها ملتفت إلیها ـ حسب الفرض ـ فیجوز للحکیم أن یتّکل فی مقام استیفاء غرضه منها علیٰ حکم العقل بلزوم الاحتیاط فی مورد الشکّ فی شیء منها .
وفیه : أنّه لا وجه لدعویٰ قصور أدلّة البراءة النقلیة أصلاً ، ولا انصرافها عنه بعد کون الموضوع قابلاً للوضع والرفع ؛ وذلک لأنّ الانصراف لابدّ له من منشأ معتدّ به ، والظاهر عدمه .
ثمّ إنّه لو صحّ دعوی الانصراف فالأولیٰ دعواه بالنسبة إلیٰ ما لا یحکم العقل بالاشتغال ، بل یحکم بقبح العقاب بلا بیان ؛ لأنّ ظاهر الخطاب هو المولویة والتأسیس ، لا الإرشاد والتأکید .
وبالجملة : یمکن دعـوی الانصراف فـی نحـو حدیث «رفع عن اُمّتی تسعة : ـ إلـی أن قال ـ ما لا یعلمون . . .» إلی آخـره ، الـذی هـو الـدلیل المعتمـد علیه فـی البراءة النقلیـة ؛ إذ ظاهـره الامتنان علـی الاُمّة ، وهـو إنّما یلائم المـوارد المحکـوم علیها بالاشتغال . وأمّا المـوارد التی یحکـم العقل الصریـح بقبـح العقاب فیها فالمسلم وغیـره فیه شـرع سواء ، هـذا .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 224
ولکنّه لا یکاد یصحّ الاعتماد فی دعوی الانصراف علیٰ مثل هذه الوجوه ، والعمدة عدم القصور والانصراف عمّا یحکم العقل فیه بالاحتیاط ، فحینئذٍ لابدّ من رفع الید عنه ؛ لعدم قیام الحجّة علی المشکوک فیه .
وحاصل ما أفاده فی الوجه الثانی : هو أنّ جریان البراءة النقلیة لنفی وجوب قید الدعوة بنحو الأمر الثانی لا یثبت کون متعلّق الخطاب الأوّل تمام المطلوب ، إلاّ علی القول بحجّیة الأصل المثبت .
ضرورة أنّ نفی الوجوب المستفاد من متمّم الجعل ، وإثبات أنّ الباقی وافٍ بالغرض بالأصل المذکور من أظهر مصادیق الأصل المثبت ، بخلاف ما لو قلنا بجواز أخذه فی الخطاب الأوّل ؛ فإنّ مرجع الشکّ فیه إلی انبساط الأمر علی المشکوک ، فإذا جرت البراءة فیه استفید أنّ باقی الأجزاء هو تمام المأمور به ، ولا محذور فیه ؛ لخفاء مثل هذه الواسطة عند العرف .
وفیه أوّلاً : أنّ العبد مأخوذ بما قام لدیه الحجّة ، وهی لیست إلاّ ما اُخذ فی لسان الدلیل فقط ، ومن المعلوم أنّه لیس عنوان تمام المطلوب ونحوه کالوافی بالغرض ممّا اعتبر فی لسان الدلیل .
فعلیه : إذا أتیٰ بما تعلّق به الخطاب الأوّل صـدق الامتثال قطعاً ؛ لعـدم قیام الحجّـة علی أزیـد منه بعد کـون ذلک الزائـد مشکـوکاً فیه ، وحکـم الشارع برفـع ما لا یعلم .
وثانیاً : لـو سلّم ذلک لکنّه لا فـرق بین إمکان الأخذ فـی الخطاب الأوّل أو الخطاب الثانی مـن هـذه الجهـة ، لو لم یکن الأمـر فـی الخطاب الأوّل أصعب ؛ إذ نفی المشکوک وجـوبه بتتمیم الجعل ، مثل نفی وجـوبه بالخطاب الأوّل فـی عـدم إثبات عنوان کون الباقی تمام المطلوب ، أو الوافی بالغرض .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 225
وثالثاً : لو سلّم خفاء الواسطة عند العرف فلا اعتداد به ، کما قرّر فی محلّه ؛ لعدم الفرق فی عدم الحجّیة بین خفاء الواسطة وعدمه .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ المرجع هو البراءة الشرعیة ، مع إمکان أخذ قصد الأمر فی الخطاب الأوّل أو فی الخطاب الثانی ، وإن قلنا بالاشتغال عقلاً ؛ فتدبّر .
وأمّا مع عدم إمکان أخذ قصد الأمر فی الخطاب مطلقاً ـ حتّیٰ فی الخطاب الثانی ـ وقلنا بالاشتغال العقلی ، فالحقّ فیه أیضاً البراءة الشرعیة .
خلافاً للمحقّق الخراسانی قدس سره حیث قال : لا أظنّک أن تتوهّم وتقول : إنّ أدلّة البراءة الشرعیة مقتضیة لعدم الاعتبار ، وإن کانت قضیة الاشتغال عقلاً هی الاعتبار ؛ لوضوح أنّه لابدّ فی عموم أدلّة البراءة الشرعیة من شیء قابل للرفع والوضع شرعاً ، ولیس هاهنا ؛ فإنّ دخل قصد القربة ونحوها فی الغرض لیس بشرعی بل واقعی ، ودخل الجزء والشرط فی الغرض وإن کان کذلک إلاّ أنّهما قابلان للوضع والرفع شرعاً . فبدلیل الرفع ـ ولو کان أصلاً ـ یکشف أنّه لیس هناک أمر فعلی بما یعتبر فیه المشکوک یجب الخروج عن عهدته عقلاً ، بخلاف المقام فإنّه علم بثبوت الأمر الفعلی ، کما عرفت ، فافهم .
وفیه أوّلاً : أنّ الظاهر من حدیث الرفع وإن کان ما استنبطه قدس سره ؛ من لزوم کون المشکوک فیه قابلاً للوضع ، بل لابدّ وأن یکون هناک وضع وتشریع ، إلاّ أنّه رفع إذا لم یعلم امتناناً ، لا أنّه بمعنی الدفع حتّی یعمّ ما لا یصلح للوضع .
ولکن الذی یسهّل الأمر : عدم انحصار دلیل البراءة الشرعیة بما یکون لسانه لسان الرفع حتّی لا یلائـم المقام ـ لکونه مخصـوصاً بما یمکـن بیانه ووضعـه ؛ فلایعمّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 226
لما لا یمکـن بیانه ـ بل یکون بعض أدلّتها علی وزان حکم العقل بالبراءة ؛ کقوله تعالی : «وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبِیْنَ حَتَّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً» ؛ وقولـه صلی الله علیه و آله وسلم : «الناس فی سعة ما لا یعلمون» .
ولا شکّ فی عـدم اختصاص المستفاد منهما بالبراءة عمّا یصحّ البیان والوضع ، بل المراد منهما : أنّ العذاب علیٰ ما لم تقم علیه الحجّة لیس من دأبه تعالیٰ ، وإن کان عدم قیامها لعدم الإمکان ، وحیث إنّ قصد الامتثال ممّا لم تقم علیه الحجّة علیٰ وجوبه فالناس فی سعة عدم الوجوب ونفی الکلفة الزائدة .
وواضح : أنّ هذا اللسان لسان البراءة العقلیة ویجزم به ؛ لأنّ عدم البیان المأخوذ فی حکم العقل بقبح العقاب معه أعمّ من أن یکون لعدم الإمکان ، أو لعدم البیان مع إمکان البیان .
وبالجملة : مفاد حدیث «ما لا یعلمون» وإن کان مخصوصاً بما یمکن وضعه وبیانه ؛ فلا یعمّ المقام ، إلاّ أنّ قوله تعالی : «وَمٰا کُنّٰا مُعَذِّبِیْنَ حَتَّیٰ نَبْعَثَ رَسُولاً» ، وقوله : «الناس فی سعة ما لا یعلمون» علیٰ وزان حکم العقل بالبراءة العقلیة ؛ فیعمّ المقام ، فتدبّر .
وثانیاً : لـو سلّم کـون مستند البـراءة الشـرعیة خصـوص حدیث الرفـع ، ولکن نقـول : إنّ المرفـوع:
إمّا خصوص المؤاخـذة کما ذهب إلیه شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 227
أو الأعمّ منها ومن سائرالآثار ، کمالعلّه الظاهرمن بعض کلمات هذا المحقّق قدس سره .
وعلی أیّ تقدیر : لا إشکال فی أنّ المؤاخذة بیده وضعاً ورفعاً ، فحینئذٍ یترک ذلک القید المشکوک وجوبه ؛ اعتماداً علیٰ رفع المؤاخذة بترکه . ولا یلزم فی المقام إحراز عدم الحکم ورفع الموجود حتّی یقال بأنّه غیر ممکن .
وثالثاً : أنّه لا ریب فی کون بعض التکالیف عبادیاً ، وقام علیه ضرورة المسلمین ـ کالصلاة والصوم ونحوهما ـ ، فهل ذلک بمقتضیٰ حکم العقل بالاشتغال ، أو بلحاظ قیام أمر مولوی علیٰ ذلک ؟
لا سبیل إلی الأوّل ، ولا أری ارتضاءه به ؛ لأدائه إلیٰ جواز احتمال کون الصلاة ونحوها توصّلیاً یؤتی بها بقصد الأمر ؛ لحکم العقل بالاشتغال ، وهو کما تریٰ . بل عبادیته لأمر شرعی کشف عنه ضرورة المسلمین .
فعلیه : یصحّ التکلیف ، بل لابدّ وأن یجب الحکم بإمکان بیانه ـ ولو بدلیل آخر ـ بداهة أنّ الوقوع من أوثق الأدلّة وأقواها علیٰ إمکان الأخذ .
ولعمر الحقّ : إنّه لا ریب ولا إشکال ، بل لابدّ من الجزم بالبراءة الشرعیة ؛ لشمول أدلّتها للمقام ؛ سواء اُخذ فی أدلّتها عنوان الرفع أو لم یؤخذ ، وإن قلنا بالاشتغال کما هو المفروض ، فتدبّر .
وأنت خبیر : بأنّ ما ذکرنا کلّه هنا مماشاة مع القوم ، وإلاّ فقد تحقّق وظهر لعلّه لا خفاء فیه ولا إبهام فی جواز أخذ قصد الأمر ونحوه فی متعلّق الخطاب الأوّل ، فضلاً عن الخطاب الثانی ؛ فإنّ الأصل اللفظی فی المسألة عند الشکّ فی اعتبار قصد الأمر ونحوه فی المتعلّق هو التوصّلیة ، ومع فقد شرائط الإطلاق فالأصل العملی البراءة عقلاً ونقلاً ، والله الهادی إلی سواء الطریق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 228