المقصد الأوّل فی الأوامر

المورد الأوّل‏: فی حکم العقل والبراءة العقلیة

المورد الأوّل : فی حکم العقل والبراءة العقلیة

‏ ‏

‏ذکر تقاریب للاشتغال هنا : وإن قیل بالبراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر‏‎ ‎‏الارتباطیین :‏

التقریب الأوّل :‏ ما یستفاد من المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ فی «الکفایة» ، وذلک‏‎ ‎‏بتوضیح منّا ؛ وهو أنّه لو قلنا بالبراءة العقلیة فی مسألة الأقلّ والأکثر الارتباطیین‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 211
‏ولکن لا مجال لذلک هنا ؛ لأنّ مرکز الشکّ هناک فی نفس التکلیف ، وأنّه هل تعلّق‏‎ ‎‏بتسعة أجزاء أو عشرة مثلاً ؟ فیقال : إنّ مقتضیٰ حکم العقل الأخذ بالأقلّ والبراءة‏‎ ‎‏عن الأکثر .‏

‏وأمّا فیما نحن فیه فمتعلّق التکلیف معلوم مبیّن ؛ وهو ما عدا قصد القربة أو قصد‏‎ ‎‏الأمر ـ مثلاً ـ لأنّ المفروض امتناع أخذه فی متعلّق التکلیف ، إلاّ أنّ الشکّ فی ناحیة‏‎ ‎‏الامتثال حیث یحتمل بقاء العهدة عند عدم الإتیان بذلک القید وعدم الخروج منها .‏

‏وبالجملة : بین المسألتین فرق ، یمکن أن یقال بالبراءة فی الأقلّ والأکثر‏‎ ‎‏الارتباطیین ؛ لأنّ الشکّ فیها فی متعلّق التکلیف ؛ وأنّه الأقلّ أو الأکثر ، فالأقلّ متیقّن‏‎ ‎‏والأکثر مشکوک فیه .‏

‏وأمّا هنا فمتعلّق التکلیف معلوم مبیّن ، ولا شکّ من هذه الجهة ، بل الشکّ إنّما‏‎ ‎‏هو فی مقام الامتثال ، وأنّه هل یسقط التکلیف بإتیان الفعل بدون قصد الأمر ـ مثلاً ـ‏‎ ‎‏أو لا ؟ فالعقل یقضی بالاشتغال إلی أن یقطع بالفراغ ، وهو بإتیانه بقصد الأمر‏‎[1]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّ الفرق الذی ذکره المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ غیر فارق من حیث جریان‏‎ ‎‏البراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر ، دون المقام ؛ لأنّ ما هو العمدة فی جریان البراءة‏‎ ‎‏والاشتغال هو رجوع الشکّ إلیٰ ثبوت التکلیف أو سقوطه بعد إحراز أصل الثبوت ،‏‎ ‎‏وأمّا غیر ذلک فلا دخالة له فی ذلک .‏

‏وهذا التقریب بعینه أحـد التقاریب اللآتی تذکـر فی مسألـة الأقلّ والأکثر‏‎ ‎‏للاشتغال .‏

‏مع فرق لا یکون فارقاً ؛ لأنّه کما أنّ متعلّق التکلیف هنا معلوم مبیّن ، وهو غیر‏‎ ‎‏المقیّد بقید ، ویحتمل اعتباره فی ناحیة الامتثال ، فکذلک هناک یکون الأقلّ معلوماً من‏‎ ‎‏باد القدر المتیقّن ، لکنّه یشکّ فی اعتبار الزائد علیه .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 212
‏فإن صحّ جریان البراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر نقول بها بعینه فیما نحن فیه ،‏‎ ‎‏بل لو قیل بالاشتغال هناک دون ما نحن فیه لکان أولیٰ ؛ لأنّ المفروض فیما نحن فیه أنّ‏‎ ‎‏متعلّق التکلیف غیر مشکوک فیه قطعاً ، وأمّا هناک فیحتمل تعلّق التکلیف بالزائد‏‎ ‎‏علی القدر المتیقّن ، کما لا یخفیٰ .‏

‏ولکن هذا المقدار من الفرق غیر فارق لا یوجب جریان البراءة فی أحدهما‏‎ ‎‏دون الآخر ؛ فإنّ مرجع الشکّ فیهما إلی أصل ثبوت التکلیف ، لا إلی سقوطه المعلوم ؛‏‎ ‎‏فلم یکن فرق بینهما ، ولم یکن لإحداهما خصوصیة زائدة علی الاُخریٰ .‏

‏والحاصل : أنّ هذا التقریب أحد التقاریب للقائلین بالاشتغال فی مسألة الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر الارتباطیین وما نحن فیه ؛ لأنّه کما یعلم هنا أنّ القید الزائد لم یؤخذ فی‏‎ ‎‏المأموربه ولکن یشکّ فی اعتباره فی مقام الامتثال ، فکذلک هناک یکون القدر المتیقّن‏‎ ‎‏معلوماً ویشکّ فی اعتبار قید آخر فیه .‏

‏ففی کـلا المـوردین یعلم ثبوت التکلیف الشخصی المعلوم ویشکّ فـی اعتبار‏‎ ‎‏أمـر آخر .‏

‏فالمسألتان ترتضعان من ثدی واحد ؛ فإن قلنا بالبراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر‏‎ ‎‏ـ کما هو المختار ـ نقول بها هنا ، وإلاّ فالاشتغال فیهما ، فتدبّر .‏

التقریب الثانی :‏ ما یستفاد من المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ أیضاً ولکنّه من محلّ‏‎ ‎‏آخر ؛ وهو أنّ متعلّق التکلیف وإن کان معلوماً حسب الفرض إلاّ أنّه لا یکاد ینکر‏‎ ‎‏أنّ الأحکام الشرعیة جمیعها معالیل للأغراض لا محالة ـ وإن لم نقل بأنّها تابعة‏‎ ‎‏للمصالح والمفاسد فی متعلّقاتها ـ بداهة أنّه لو کانت خالیة عن الأغراض یلزم‏‎ ‎‏أن یکون الأحکام جزافیاً وبلا غرض ، فبتعلّق الأمر علیٰ شیء یستکشف تعلّق‏‎ ‎‏غرض الآمر به .‏

‏فإذا شکّ فی حصول الغرض وسقوطه بإتیان الماهیة بدون قصد الأمر ـ مثلاًـ‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 213
‏فلا یجوز له الاکتفاء به . فالشکّ فی سقوط الغرض مساوق للشکّ فی سقوط الأمر ،‏‎ ‎‏وقد عرفت : أنّ القاعدة فی الشکّ فی سقوط التکلیف الاشتغال ، فکذا فیما یساوقه‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه یظهر النظر فیه ممّا ذکرناه فی التقریب الأوّل ؛ لجریان ما ذکرناه فیه‏‎ ‎‏فی هذا التقریب أیضاً .‏

‏وذلک لأنّه لو صحّ إثبات الاشتغال فیما نحن فیه من ناحیة الغرض ـ کما هو‏‎ ‎‏أحد التقاریب فی إثبات الاشتغال فی مسألة الأقلّ والأکثر ـ یمکن إثباته فی الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر أیضاً ؛ فإنّ أمر الشارع معلول للغرض ، فما لم یعلم حصول الغرض ـ الذی هو‏‎ ‎‏غایة متعلّق الحکم ـ لا یعلم سقوط الأمر .‏

‏فعند احتمال بقاء الغرض وعدم سقوطه ـ إمّا لأخصّیة غرض الآمر بالنسبة إلیٰ‏‎ ‎‏ما تعلّق به الأمر واقعاً کما فیما نحن فیه ، أو بکون الأقلّ متیقّناً ـ یحکم العقل‏‎ ‎‏بالاشتغال ؛ فالمسألتان ترتضعان من ثدی واحد اشتغالاً وبراءةً .‏

فتحصّل ممّا ذکرنا :‏ أنّه لم یکن ما ذکره المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ هنا ، ولا ما‏‎ ‎‏استفدناه منه من غیر هذا الموضع ـ فی بیان الفرق بین ما نحن فیه ومسألة الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر ـ فارقاً فیما یرجع إلی البراءة هناک دون ما نحن فیه ، وإن کان بینهما فرقاً من‏‎ ‎‏جهة اُخریٰ لا یرجع فیما هو المهمّ فی المقام ، فتدبّر .‏

‏هذا کلّه فیما یتعلّق فی بیان الفرق بین الموردین ؛ فقد ظهر عدم الفرق بینهما فیما‏‎ ‎‏یرجع إلی البراءة أو الاشتغال .‏

والذی یقتضیه التحقیق :‏ أنّ دعوی الاشتغال فی المسألة ممنوعة ؛ لأنّ العبد‏‎ ‎‏مأخوذ بحجّة المولیٰ وبیانه فقط ، ویدور الامتثال مدار الحجّة لا غیر ؛ فإن قامت‏‎ ‎‏الحجّة علی المجرّدة عن قصد الأمر والامتثال ، ولم تقم علیٰ ذلک دلیلاً ـ ولو ببیان‏‎ ‎‏مستأنف ـ لم یجب علی العبد امتثال ما زاد علیٰ ما قام لدیه الحجّة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 214
‏وحدیث الشکّ فی سقوط الغرض بالإتیان بالمجرّدة عن قصد الأمر کذلک ؛ لأنّ‏‎ ‎‏وظیفة المکلّف إنّما هی الإتیان بما أخذه الآمر موضوعاً لأمره ، طابق النعل بالنعل ؛‏‎ ‎‏سواء علم حصول غرض الآمر بذلک ، أم لا .‏

‏وبالجملة : کون الأوامر معلّلة بالأغراض ممّا لا ینکر ؛ لعدم معقولیة الجزاف‏‎ ‎‏فیها ، إلاّ أنّه خارج عن إناطة الامتثال به ؛ لأنّ الامتثال ـ کما أشرنا ـ دائر مدار‏‎ ‎‏الحجّة ؛ فإذا لم تقم الحجّة علی الأزید من المجرّدة عن القید ـ ولو ببیان مستأنف ـ‏‎ ‎‏لاتضرّ احتمال عدم حصول الغرض من الإتیان بالمجرّدة .‏

‏ ‏

وهم وإرشاد

‏ ‏

‏وربّما یتوهّم : أنّ مراد المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ عدم جریان قاعدة قبح العقاب‏‎ ‎‏بلابیان فی المقام ؛ لأنّها إنّما تجری فیما إذا أمکن للآمر بیان القید ولم یبیّن ؛ حیث یحکم‏‎ ‎‏العقل عند ذاک بالإطلاق . وأمّا فی مورد لا یمکنه أخذ القید ـ کما هو المفروض فیما نحن‏‎ ‎‏فیه ـ فیکون خارجاً عن موضوع القاعدة .‏

‏فلا مجریٰ للقاعدة هنا ، بخلاف مسألة الأقلّ والأکثر ؛ فحیث إنّه للآمر بیان‏‎ ‎‏الأکثر فیصحّ التمسّک بالقاعدة . فالعقل یحکم بالاشتغال فیما نحن فیه ، دون مسألة‏‎ ‎‏الأقلّ والأکثر .‏

ولکنّه یندفع أوّلاً :‏ أنّ هذا ـ لو تمّ ـ غیر بیان الذی تصدّی المحقّق‏‎ ‎‏الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ لبیانه هنا وفی موضع آخر .‏

وثانیاً :‏ أنّه لو لم یمکن بیانه بدلیل واحد فإمکان بیانه بدلیل آخر بمکان من‏‎ ‎‏الإمکان ؛ فیکون المقام مجری القاعدة .‏

وثالثاً :‏ أنّ الاحتجاج إنّما یدور مدار البیان فقط لا الواقع المحتمل أیضاً ،‏‎ ‎‏وحیث إنّه لا بیان حسب الفرض ـ ولو لعدم الإمکان ، کما لو کان الآمر مسجوناً ـ‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 215
‏فلا إیجاب علی العبد عقلاً إلاّ بالنسبة إلیٰ ما قام علیه الحجّة . ولم تقم الحجّة حسب‏‎ ‎‏الفرض علی الزائد علی المجرّدة ؛ فلا مانع من جریان قاعدة القبح بلا بیان .‏

‏ولعلّ منشأ هذا التوهّم : هو الخلط بین عدم البیان فی استفادة الإطلاق اللفظی‏‎ ‎‏من المطلق ، وبین عدم البیان المستعمل فی باب الاشتغال والبراءة ، مع وجود الفرق‏‎ ‎‏بینهما کما لا یخفی .‏

‏وذلک لأنّ المعتبر فی باب الإطلاق اللفظی : هو أنّ الآمر إذا أخذ شیئاً عنواناً‏‎ ‎‏وموضوعاً لحکم ؛ مجرّداً عن القید ، وکان فی مقام البیان ، فبما أنّه فاعل مختار وقد جعل‏‎ ‎‏باختیاره هذا الحکم للمجرّد فیستکشف منه أنّ مراده غیر مقیّد بقید .‏

‏ولا یخفیٰ : أنّ هذا إنّما هو فی القید الذی یمکن أخذه ولم یأخذه . وأمّا فیما لو‏‎ ‎‏لم یمکن أخذه فلا یمکن أن یستکشف ذلک ، فلا ینعقد الإطلاق عند ذلک ، وهو واضح .‏

‏وأمّا فی المقام : فلا یعتبر فی جریان قاعدة القبح بلا بیان ذلک ؛ لأنّه إذا لم یبیّن‏‎ ‎‏الآمر ولو ببیان مستأنف ، القید ولو لعدم إمکان أخذه ، فالعقل یقضی بجریان القاعدة ؛‏‎ ‎‏لأنّ موضوع قبح العقاب بلا بیان إنّما هو فیما لم یقم هناک حجّة ، وهو حاصل حسب‏‎ ‎‏الفرض .‏

فتحصّل :‏ أنّ الحقّ جریان البراءة العقلیة فی المقام ، وعدم لزوم قصد الأمر فی‏‎ ‎‏مقام الامتثال .‏

التقریب الثالث :‏ ولعلّه یشیر إلیه ما أفاده العلاّمة القوچانی ‏‏قدس سره‏‏ فی «تعلیقته‏‎ ‎‏علیٰ کفایة الاُصول» .‏

‏وحاصله : أنّه وإن لم یمکن أخذ القیود المذکورة فی المأمور به ولکن لها دخل‏‎ ‎‏واقعی فی حصول الغرض ، وحیث إنّه لا یمکن أخذها فی المأمور به ففی مقام تعلّق‏‎ ‎‏الأمر لا یکون المأمور به إلاّ واحداً .‏

‏وأمّا فی مقام الامتثال والوجود الخارجی : فحیث إنّه یدور أمره بین لزوم‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 216
‏الإتیان بالمقیّد أو لزوم الإتیان بالمتعلّق مجرّدة ، وبین المصداقین تباین ، فالعقل یحکم‏‎ ‎‏بالجمع بینهما فی مقام الامتثال .‏

‏وبالجملة : فاقد القید وواجده فی الوجود الخارجی متباینان ، ولم یقل أحد‏‎ ‎‏منهم بالبراءة فی دوران الأمر بین المتباینین فی مقام الامتثال .‏

‏فحصل الفرق بین المقام ومسألة الأقلّ والأکثر ؛ لأنّ الحکم هناک تعلّق بعنوان‏‎ ‎‏لم یعلم انطباقه علی الأقلّ فقط ، أو علیه مع الأکثر معاً . وأمّا فی المقام فمتعلّق التکلیف‏‎ ‎‏معلوم ؛ وهو المجرّد عن القید ، ولکن فی مقام الامتثال یدور أمره بین المتباینین‏‎[3]‎‏ .‏

‏ولعلّ هذا التقریب أوجب المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ لتصویر الحصّة ، کما ستقف علیه‏‎ ‎‏قریباً إن شاء الله .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّه لو تمّ کون المقام من المتباینین ، فمقتضاه الجمع بینهما ؛ بأن یأتی‏‎ ‎‏بصلاة مجرّدة عن قصد الامتثال ـ مثلاً ـ ثمّ بصلاة اُخریٰ بقصد الامتثال ، لا الاکتفاء‏‎ ‎‏بالمقیّدة ، کما هو الشأن فی جمیع موارد دوران الأمر بین المتباینین ، ولم یلتزم به هو ‏‏قدس سره‏‏ ،‏‎ ‎‏ولا غیره فی المقام ، فتدبّر .‏

وثانیاً :‏ أنّه لم یکن المقام من دوران الأمر بین المتباینین ؛ لأنّ مدار تردّد الأمر‏‎ ‎‏بین المتباینین ـ الذی یحکم العقل بوجوب الاحتیاط ـ هو ما إذا کان العنوان‏‎ ‎‏والموضوع الذی تعلّق به الأمر مردّد الانطباق علیهما ، فعند ذلک یحکم العقل‏‎ ‎‏بالاشتغال .‏

‏مثلاً : إذا قیل : «أکرم زیداً» ، وتردّد کونه هذا الفرد ـ أی زید بن عمرو ـ أو‏‎ ‎‏ذاک الفرد ـ أی زید بن بکر ـ فلا یعلم ما هو المتعلّق للوجوب منهما ، مع صلاحیة زید‏‎ ‎‏للانطباق علیٰ کلّ من الفردین ، فحیث إنّ الشکّ یرجع بنحوٍ إلیٰ ناحیة الامتثال یحکم‏‎ ‎‏العقل بوجوب الاحتیاط بإکرامهما .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 217
‏وأمّا إذا کان المأمور به عنواناً معلوماً صادقاً بحسب الوجود علیٰ هذا الفرد‏‎ ‎‏بعنوانه وعلیٰ ذاک کذلک فلا یکون هناک إبهام ؛ لا فی المفهوم ولا فی المصداق . ولکن‏‎ ‎‏احتمل دخالة أمر آخر فیه لم یؤخذ فی العنوان بلحاظ عدم إمکان أخذه فیه ؛ فلیس‏‎ ‎‏من دوران الأمر بین المتباینین ، کما لا یخفیٰ .‏

‏فإذا قیل : «صلّ» مثلاً فالذی تعلّق به الأمر ماهیة الصلاة ، وهذا العنوان‏‎ ‎‏صادق علیٰ کلّ مصداق من الصلاة مجرّدة عن قصد الأمر ، وعلی المصداق منها مع‏‎ ‎‏قصد الأمر . ولا یکون لقصد الأمر دخالة فی الصدق أصلاً .‏

‏ففی المقام وإن کان المأتی به بقصد الأمر والمأتی به بدون ذلک مختلفان وجوداً ،‏‎ ‎‏ولکن صدق العنوان علیٰ کلّ منهما ـ کفَرَسَی رِهان ـ ممّا لا إشکال فیه ؛ لقضاء‏‎ ‎‏الضرورة علیٰ أنّ صدق عنوان الصلاة ـ مثلاً ـ علی المجرّدة عن قصد الأمر ، کصدقها‏‎ ‎‏علی المقیّدة به ولزوم الصلاة مع قصد الأمر أوّل الکلام ، فتدبّر .‏

‏ ‏

ذکر وتعقیب

‏ ‏

‏للمحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ هنا کلام ، لعلّ منشأه ـ کما أشرنا ـ توهّم کون المقام من‏‎ ‎‏باب المتباینین .‏

‏وذلک لأنّه ‏‏قدس سره‏‏ تصدّیٰ أوّلاً لدفع شبهة لزوم الاحتیاط : بأنّ العقل لو کان فی‏‎ ‎‏حکمه ناظراً إلیٰ تحصیل غرض المولیٰ فی نفس الأمر لکان له وجه .‏

‏ولکن لم یکن له شأن بالنسبة إلیه ، بل الذی یراه هو التخلّص عن استحقاق‏‎ ‎‏العقاب علیٰ مخالفة التکلیف ، واستحقاق العقاب إنّما هو إذا قامت الحجّة علیه عند‏‎ ‎‏المکلّف .‏

‏فالتکلیف الذی لم تتمّ الحجّة علیه عند المکلّف لا یستحقّ العقاب بمخالفته ،‏‎ ‎‏ولا شبهة فی کون التکلیف التی قامت الحجّة علیه عند المکلّف هو التکلیف بالأقلّ أو‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 218
‏التکلیف بطبیعی الصلاة ـ مثلاً ـ لا الأکثر ولا حصّة من الطبیعی .‏

‏ثمّ ذکر فی بیانه ثانیاً : بأنّ الحصّة تطلق علیٰ ثلاثة معان :‏

‏أحدها : الحصّة من الجنس ؛ وهو النوع . ولا شبهة فی تباین الحصص الحاصلة‏‎ ‎‏بانضمام القیود إلی الجنس .‏

‏وثانیها : الحصّة من النوع ، کالحصّة الموجودة فی الفرد منه . ولا تکون هذه‏‎ ‎‏الحصص متباینة ، بل هی متماثلة فی جمیع الذاتیات ، ولا فرق بینها إلاّ بالإضافة إلی‏‎ ‎‏المشخّصات التی بالإضافة إلیها صار النوع حصصاً .‏

‏ثالثها : الحصّة من الجزئی الحقیقی بالإضافة إلی أحواله وعوارضه ؛ فإنّه کما‏‎ ‎‏یکون الجزئی الحقیقی موضوعاً باعتبار حال من أحواله ، قد یکون بنفسه حین‏‎ ‎‏اقتحامه بحال مّا .‏

‏والأوّل مثل کون زید الجائی موضوعاً لوجوب الإکرام ، والثانی بأن یکون‏‎ ‎‏زید بنفسه ولکن فی حال المجیء موضوعاً للحکم ، فیکون المجیء مشخّصاً لموضوع‏‎ ‎‏الحکم .‏

‏وبهذا ظهر الفرق بینهما ؛ لأنّ القید علی الأوّل مقوّم للموضوع ، وعلی الثانی‏‎ ‎‏مشخّص له فقط .‏

‏والمراد بالحصّة التی ندّعی أنّها متعلّق الأمر فی العبادات هی الحصّة بالمعنی‏‎ ‎‏الثالث ؛ ضرورة أنّ الرکوع المقارن للسجود لا یختلف شخصه عن نفسه فیما لو لم‏‎ ‎‏یقارنه السجود .‏

‏وعلیه : یکون الأقلّ الذی قامت الحجّة علیه متعیّناً بشخصه ؛ فتشتغل الذمّة به‏‎ ‎‏نفسه ؛ لأنّ ارتباطیته بغیره لو کانت متحقّقة فی الواقع لا توجب مغایرة لنفسه إذا لم‏‎ ‎‏تکن کذلک فی الواقع ؛ فلا یجب الاحتیاط .‏

‏نعم ، لو کان الأقلّ علیٰ فرض کونه مرتبطاً بجزء أو قید آخر یکون مغایراً‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 219
‏حقیقةً وماهیةً للأقلّ الذی لیس له ارتباط بشیء آخر لما کان هناک فرق بین الأقلّ‏‎ ‎‏والأکثر الارتباطیین ، وبین المتباینین فی لزوم الاحتیاط فی مقام الامتثال .‏

‏وبالجملة : المراد بالمقارنـة فیما نحن فیه نحـو مقارنة الصلاة مـع قصد القربـة‏‎ ‎‏ـ مثلاًـ وفـی الأقلّ والأکثر هـی المقارنـة التی لم تکن مـن قیود الموضوع ، بل مـن‏‎ ‎‏مشخّصات الموضوع ؛ بأن یکون الحکم معلّقاً علیه حال المقارنة .‏

‏فإذن : یحصل الفرق بین الأخذ بهذا النحـو فی الموضـوع ، وبین الأخذ فیه‏‎ ‎‏بنحو القیدیة التی ترجع إلی المتباینین . وکلّ ما یکون القیود من قبیل الثانی‏‎ ‎‏فالاشتغال ، وکلّ ما یکون من قبیل الأوّل فالبراءة ، وما نحن فیه من هذا القبیل‏‎[4]‎‏ ،‏‎ ‎‏انتهی محرّراً .‏

وفیما أفاده مواقع للنظر :

‏منها :‏‏ أنّ ما أفاده ‏‏قدس سره‏‏ فی الحصّة خلاف ما هو المصطلح علیه فی الحصّة ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الحصّة فی الاصطلاح هی الکلّی المقیّد ، وإن قیّد بقیود لا ینطبق إلاّ علی الفرد ،‏‎ ‎‏ولاتطلق الحصّة علی الجزئی الحقیقی المقیّد ، ولا المقترن بشیء .‏

‏ومن العجیب : أنّ هذا المحقّق لم یعدّ ما هی الحصّة حقیقة ؛ وهی النوع المقیّد‏‎ ‎‏بقیود مصنِّفة لا مشخّصة ، کالفاسق والعالم ونحوهما . وعدّ ما لم یکن حصّة ؛ وهی‏‎ ‎‏المقیّد بقیود مشخّصة .‏

‏وبالجملة : ما ذکره فی الحصّة غیر ما هو المعهود منها فی کلماتهم ، إلاّ أن یجعل‏‎ ‎‏ذلک اصطلاح منه ، فلا مشاحّة فیه .‏

ومنها :‏ أنّ الفرق الذی ذکره فی الحصّة من الجنس والحصّة من النوع ـ بلحاظ‏‎ ‎‏أنّ الحصص فی الاُولیٰ متباینة ، بخلاف الثانیة ـ لا یرجع إلیٰ محصّل ؛ لأنّه کما أنّ‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 220
‏الطبیعة الجنسیة إذا تقیّدت وتنوّعت یصیر کلّ نوع مبایناً مع النوع الآخر ، فکذلک‏‎ ‎‏الطبیعة النوعیة إذا تقیّدت بقیود فردیة یصیر کلّ فرد مبایناً مع الفرد الآخر .‏

‏فکما أنّ الأنواع لا تختلفان فی الجنسیة ـ کالحیوانیة فی الإنسان والفرس مثلاً ـ‏‎ ‎‏وإنّما الاختلاف فی النوعیة والفصل ، فکذلک الأشخاص والأفراد ـ کزید وعمرو مثلاً‏‎ ‎‏بالنسبة إلی الإنسانیة ـ یشترکان فی الحقیقة النوعیة ویختلفان فی الفردیة والشخصیة .‏

‏وبالجملة : أنّ الفرق الذی ذکره فی نحوی القید غیر وجیه ؛ إذ کما أنّ القیود فی‏‎ ‎‏الأوّل توجب التباین النوعی ، فکذلک فی الثانی یوجب التباین الفردی . ومجرّد دخالة‏‎ ‎‏القید فی الأوّل فی ماهیة المقیّد دون الثانی لا یوجب التفاوت فیما هو المهمّ ؛ فهما‏‎ ‎‏یرتضعان من ثدی واحد ، کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .‏

ومنها :‏ أنّ تقسیم القسم الثالث من الحصّة إلیٰ قسمین ؛ بأنّ بعضها مقوّم‏‎ ‎‏وبعضها الآخر مشخّص غیر صحیح ؛ لأنّ المقارنة إمّا لها دخالة ـ ولو بنحوٍ ما ـ فی‏‎ ‎‏الجزء المعتبر تقارنه لهذا الجزء أم لا ، فعلی الأوّل تکون مقوّماً ؛ فتحصل المقارنة بین‏‎ ‎‏الجزء المقترن وبین غیر المقترن . وعلی الثانی یعلم بعدم اعتبارها ، ویکون اعتبارها‏‎ ‎‏أشبه شیء بوضع الحجر جنب الإنسان .‏

‏ومن الواضح : اعتبار المقارنة وارتباط بعضها ببعض فی الموضوع ، وإلاّ یلزم‏‎ ‎‏أن یصحّ إتیانها غیر مرتبطة أیضاً .‏

‏فإذن : تکون المقارنة بالنسبة إلی الموضوع من قیوده ؛ فلم یفترق القسمان من‏‎ ‎‏حیث تقوّم الموضوع ، سواء قیل بالارتباط أو بالتقیید ، فتدبّر واغتنم .‏

ومنها :‏ ما أفاده فـی أصل المطلب مـن أنّ الأقلّ إذا کان مرتبطاً بجـزء أو قیـد‏‎ ‎‏یکون مغایـراً حقیقة وماهیة للأقلّ الـذی لیس له ارتباط بشـیء آخـر یلزم‏‎ ‎‏الاحتیاط .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 221
‏وذلک لما عـرفت أنّ الاحتیاط إنّما یجب إذا کان متعلّق التکلیف مـردّد‏‎ ‎‏الانطباق علیهما ، کما فـی المتباینین .‏

‏وأمّا فیما نحن فیه فلیس کذلک ؛ ضرورة صدق الصلاة ـ مثلاً ـ علیٰ کلّ من‏‎ ‎‏المجـرّدة والمقیّدة . وارتباطیـة بعض الأجزاء ببعض لا یضـرّ بذلک ؛ بداهـة أنّ الصلاة‏‎ ‎‏کما تصـدق علی المقیّدة فکذلک تصـدق علی المجرّدة عن القید ، کما هـو المفروض ؛‏‎ ‎‏لأنّ محلّ البحث إنّما هـو بعد صدق الطبیعة علی المجرّدة عن قصد الأمـر ، ولو علی‏‎ ‎‏القول بأنّ المسمّیٰ هـو خصوص الصحیحة ؛ لأنّ المعتبر هـو ما عـدا القیود الآتیة‏‎ ‎‏مـن قبل الأمر .‏

‏فإذا کان صدقها علیهما سیّان فحیث إنّ المکلّف مأخوذ بما قام علیه الحجّة ،‏‎ ‎‏وواضح أنّ ما قام لدیه الحجّة إنّما هو المجرّدة ، وأمّا بالنسبة إلی القید فحیث إنّه‏‎ ‎‏مشکوک فیه فینفی بالبراءة العقلیة .‏

‏ولا یخفیٰ : أنّ هذا لیس لأجل إطلاق الدلیل ، بل لأجل الإهمال ، وأنّ المقدار‏‎ ‎‏المعلوم الذی قامت علیه الحجّة هو هذا المقدار .‏

‏ولا فرق فی ذلک فی النوع بالنسبة إلی الجنس ، ولا فی الفرد بالنسبة إلی النوع ،‏‎ ‎‏ولا المقیّد بالنسبة إلی المطلق ؛ لأنّ الملاک فی الجمیع واحد ؛ وهو أنّ المعلوم الذی‏‎ ‎‏قامت علیه الحجّة هو عنوان الجنس أو النوع أو المطلق ، وهو یصدق علی الموجود‏‎ ‎‏الخارجی ـ أعنی الحیوان أو الإنسان أو الرقبة مثلاً ـ وأمّا الزائد فمشکوک فیه ، فینفی‏‎ ‎‏بالأصل . هذا إجمال المقال فی المسألة ، تفصیله یطلب من مبحث الاشتغال .‏

‏هذا کلّه فی المورد الأوّل ؛ وهو حکم العقل فی المسألة .‏

فظهر ممّا ذکرنا :‏ أنّ الأصل العقلی فی الشکّ فی أخذ قصد الأمر أو الامتثال أو‏‎ ‎‏نحوهما فی المتعلّق هو البراءة عقلاً ؛ لقبح العقاب بلا بیان .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 222

  • )) کفایة الاُصول : 98 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الخراسانی : 51 .
  • )) حاشیة کفایة الاُصول ، العلاّمة القوچانی 1 : 62 / التعلیقة 137 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 241 ـ 243 .