المورد الأوّل : فی حکم العقل والبراءة العقلیة
ذکر تقاریب للاشتغال هنا : وإن قیل بالبراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر الارتباطیین :
التقریب الأوّل : ما یستفاد من المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» ، وذلک بتوضیح منّا ؛ وهو أنّه لو قلنا بالبراءة العقلیة فی مسألة الأقلّ والأکثر الارتباطیین
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 211
ولکن لا مجال لذلک هنا ؛ لأنّ مرکز الشکّ هناک فی نفس التکلیف ، وأنّه هل تعلّق بتسعة أجزاء أو عشرة مثلاً ؟ فیقال : إنّ مقتضیٰ حکم العقل الأخذ بالأقلّ والبراءة عن الأکثر .
وأمّا فیما نحن فیه فمتعلّق التکلیف معلوم مبیّن ؛ وهو ما عدا قصد القربة أو قصد الأمر ـ مثلاً ـ لأنّ المفروض امتناع أخذه فی متعلّق التکلیف ، إلاّ أنّ الشکّ فی ناحیة الامتثال حیث یحتمل بقاء العهدة عند عدم الإتیان بذلک القید وعدم الخروج منها .
وبالجملة : بین المسألتین فرق ، یمکن أن یقال بالبراءة فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین ؛ لأنّ الشکّ فیها فی متعلّق التکلیف ؛ وأنّه الأقلّ أو الأکثر ، فالأقلّ متیقّن والأکثر مشکوک فیه .
وأمّا هنا فمتعلّق التکلیف معلوم مبیّن ، ولا شکّ من هذه الجهة ، بل الشکّ إنّما هو فی مقام الامتثال ، وأنّه هل یسقط التکلیف بإتیان الفعل بدون قصد الأمر ـ مثلاً ـ أو لا ؟ فالعقل یقضی بالاشتغال إلی أن یقطع بالفراغ ، وهو بإتیانه بقصد الأمر .
وفیه : أنّ الفرق الذی ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره غیر فارق من حیث جریان البراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر ، دون المقام ؛ لأنّ ما هو العمدة فی جریان البراءة والاشتغال هو رجوع الشکّ إلیٰ ثبوت التکلیف أو سقوطه بعد إحراز أصل الثبوت ، وأمّا غیر ذلک فلا دخالة له فی ذلک .
وهذا التقریب بعینه أحـد التقاریب اللآتی تذکـر فی مسألـة الأقلّ والأکثر للاشتغال .
مع فرق لا یکون فارقاً ؛ لأنّه کما أنّ متعلّق التکلیف هنا معلوم مبیّن ، وهو غیر المقیّد بقید ، ویحتمل اعتباره فی ناحیة الامتثال ، فکذلک هناک یکون الأقلّ معلوماً من باد القدر المتیقّن ، لکنّه یشکّ فی اعتبار الزائد علیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 212
فإن صحّ جریان البراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر نقول بها بعینه فیما نحن فیه ، بل لو قیل بالاشتغال هناک دون ما نحن فیه لکان أولیٰ ؛ لأنّ المفروض فیما نحن فیه أنّ متعلّق التکلیف غیر مشکوک فیه قطعاً ، وأمّا هناک فیحتمل تعلّق التکلیف بالزائد علی القدر المتیقّن ، کما لا یخفیٰ .
ولکن هذا المقدار من الفرق غیر فارق لا یوجب جریان البراءة فی أحدهما دون الآخر ؛ فإنّ مرجع الشکّ فیهما إلی أصل ثبوت التکلیف ، لا إلی سقوطه المعلوم ؛ فلم یکن فرق بینهما ، ولم یکن لإحداهما خصوصیة زائدة علی الاُخریٰ .
والحاصل : أنّ هذا التقریب أحد التقاریب للقائلین بالاشتغال فی مسألة الأقلّ والأکثر الارتباطیین وما نحن فیه ؛ لأنّه کما یعلم هنا أنّ القید الزائد لم یؤخذ فی المأموربه ولکن یشکّ فی اعتباره فی مقام الامتثال ، فکذلک هناک یکون القدر المتیقّن معلوماً ویشکّ فی اعتبار قید آخر فیه .
ففی کـلا المـوردین یعلم ثبوت التکلیف الشخصی المعلوم ویشکّ فـی اعتبار أمـر آخر .
فالمسألتان ترتضعان من ثدی واحد ؛ فإن قلنا بالبراءة فی مسألة الأقلّ والأکثر ـ کما هو المختار ـ نقول بها هنا ، وإلاّ فالاشتغال فیهما ، فتدبّر .
التقریب الثانی : ما یستفاد من المحقّق الخراسانی قدس سره أیضاً ولکنّه من محلّ آخر ؛ وهو أنّ متعلّق التکلیف وإن کان معلوماً حسب الفرض إلاّ أنّه لا یکاد ینکر أنّ الأحکام الشرعیة جمیعها معالیل للأغراض لا محالة ـ وإن لم نقل بأنّها تابعة للمصالح والمفاسد فی متعلّقاتها ـ بداهة أنّه لو کانت خالیة عن الأغراض یلزم أن یکون الأحکام جزافیاً وبلا غرض ، فبتعلّق الأمر علیٰ شیء یستکشف تعلّق غرض الآمر به .
فإذا شکّ فی حصول الغرض وسقوطه بإتیان الماهیة بدون قصد الأمر ـ مثلاًـ
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 213
فلا یجوز له الاکتفاء به . فالشکّ فی سقوط الغرض مساوق للشکّ فی سقوط الأمر ، وقد عرفت : أنّ القاعدة فی الشکّ فی سقوط التکلیف الاشتغال ، فکذا فیما یساوقه .
وفیه : أنّه یظهر النظر فیه ممّا ذکرناه فی التقریب الأوّل ؛ لجریان ما ذکرناه فیه فی هذا التقریب أیضاً .
وذلک لأنّه لو صحّ إثبات الاشتغال فیما نحن فیه من ناحیة الغرض ـ کما هو أحد التقاریب فی إثبات الاشتغال فی مسألة الأقلّ والأکثر ـ یمکن إثباته فی الأقلّ والأکثر أیضاً ؛ فإنّ أمر الشارع معلول للغرض ، فما لم یعلم حصول الغرض ـ الذی هو غایة متعلّق الحکم ـ لا یعلم سقوط الأمر .
فعند احتمال بقاء الغرض وعدم سقوطه ـ إمّا لأخصّیة غرض الآمر بالنسبة إلیٰ ما تعلّق به الأمر واقعاً کما فیما نحن فیه ، أو بکون الأقلّ متیقّناً ـ یحکم العقل بالاشتغال ؛ فالمسألتان ترتضعان من ثدی واحد اشتغالاً وبراءةً .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه لم یکن ما ذکره المحقّق الخراسانی قدس سره هنا ، ولا ما استفدناه منه من غیر هذا الموضع ـ فی بیان الفرق بین ما نحن فیه ومسألة الأقلّ والأکثر ـ فارقاً فیما یرجع إلی البراءة هناک دون ما نحن فیه ، وإن کان بینهما فرقاً من جهة اُخریٰ لا یرجع فیما هو المهمّ فی المقام ، فتدبّر .
هذا کلّه فیما یتعلّق فی بیان الفرق بین الموردین ؛ فقد ظهر عدم الفرق بینهما فیما یرجع إلی البراءة أو الاشتغال .
والذی یقتضیه التحقیق : أنّ دعوی الاشتغال فی المسألة ممنوعة ؛ لأنّ العبد مأخوذ بحجّة المولیٰ وبیانه فقط ، ویدور الامتثال مدار الحجّة لا غیر ؛ فإن قامت الحجّة علی المجرّدة عن قصد الأمر والامتثال ، ولم تقم علیٰ ذلک دلیلاً ـ ولو ببیان مستأنف ـ لم یجب علی العبد امتثال ما زاد علیٰ ما قام لدیه الحجّة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 214
وحدیث الشکّ فی سقوط الغرض بالإتیان بالمجرّدة عن قصد الأمر کذلک ؛ لأنّ وظیفة المکلّف إنّما هی الإتیان بما أخذه الآمر موضوعاً لأمره ، طابق النعل بالنعل ؛ سواء علم حصول غرض الآمر بذلک ، أم لا .
وبالجملة : کون الأوامر معلّلة بالأغراض ممّا لا ینکر ؛ لعدم معقولیة الجزاف فیها ، إلاّ أنّه خارج عن إناطة الامتثال به ؛ لأنّ الامتثال ـ کما أشرنا ـ دائر مدار الحجّة ؛ فإذا لم تقم الحجّة علی الأزید من المجرّدة عن القید ـ ولو ببیان مستأنف ـ لاتضرّ احتمال عدم حصول الغرض من الإتیان بالمجرّدة .
وهم وإرشاد
وربّما یتوهّم : أنّ مراد المحقّق الخراسانی قدس سره عدم جریان قاعدة قبح العقاب بلابیان فی المقام ؛ لأنّها إنّما تجری فیما إذا أمکن للآمر بیان القید ولم یبیّن ؛ حیث یحکم العقل عند ذاک بالإطلاق . وأمّا فی مورد لا یمکنه أخذ القید ـ کما هو المفروض فیما نحن فیه ـ فیکون خارجاً عن موضوع القاعدة .
فلا مجریٰ للقاعدة هنا ، بخلاف مسألة الأقلّ والأکثر ؛ فحیث إنّه للآمر بیان الأکثر فیصحّ التمسّک بالقاعدة . فالعقل یحکم بالاشتغال فیما نحن فیه ، دون مسألة الأقلّ والأکثر .
ولکنّه یندفع أوّلاً : أنّ هذا ـ لو تمّ ـ غیر بیان الذی تصدّی المحقّق الخراسانی قدس سره لبیانه هنا وفی موضع آخر .
وثانیاً : أنّه لو لم یمکن بیانه بدلیل واحد فإمکان بیانه بدلیل آخر بمکان من الإمکان ؛ فیکون المقام مجری القاعدة .
وثالثاً : أنّ الاحتجاج إنّما یدور مدار البیان فقط لا الواقع المحتمل أیضاً ، وحیث إنّه لا بیان حسب الفرض ـ ولو لعدم الإمکان ، کما لو کان الآمر مسجوناً ـ
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 215
فلا إیجاب علی العبد عقلاً إلاّ بالنسبة إلیٰ ما قام علیه الحجّة . ولم تقم الحجّة حسب الفرض علی الزائد علی المجرّدة ؛ فلا مانع من جریان قاعدة القبح بلا بیان .
ولعلّ منشأ هذا التوهّم : هو الخلط بین عدم البیان فی استفادة الإطلاق اللفظی من المطلق ، وبین عدم البیان المستعمل فی باب الاشتغال والبراءة ، مع وجود الفرق بینهما کما لا یخفی .
وذلک لأنّ المعتبر فی باب الإطلاق اللفظی : هو أنّ الآمر إذا أخذ شیئاً عنواناً وموضوعاً لحکم ؛ مجرّداً عن القید ، وکان فی مقام البیان ، فبما أنّه فاعل مختار وقد جعل باختیاره هذا الحکم للمجرّد فیستکشف منه أنّ مراده غیر مقیّد بقید .
ولا یخفیٰ : أنّ هذا إنّما هو فی القید الذی یمکن أخذه ولم یأخذه . وأمّا فیما لو لم یمکن أخذه فلا یمکن أن یستکشف ذلک ، فلا ینعقد الإطلاق عند ذلک ، وهو واضح .
وأمّا فی المقام : فلا یعتبر فی جریان قاعدة القبح بلا بیان ذلک ؛ لأنّه إذا لم یبیّن الآمر ولو ببیان مستأنف ، القید ولو لعدم إمکان أخذه ، فالعقل یقضی بجریان القاعدة ؛ لأنّ موضوع قبح العقاب بلا بیان إنّما هو فیما لم یقم هناک حجّة ، وهو حاصل حسب الفرض .
فتحصّل : أنّ الحقّ جریان البراءة العقلیة فی المقام ، وعدم لزوم قصد الأمر فی مقام الامتثال .
التقریب الثالث : ولعلّه یشیر إلیه ما أفاده العلاّمة القوچانی قدس سره فی «تعلیقته علیٰ کفایة الاُصول» .
وحاصله : أنّه وإن لم یمکن أخذ القیود المذکورة فی المأمور به ولکن لها دخل واقعی فی حصول الغرض ، وحیث إنّه لا یمکن أخذها فی المأمور به ففی مقام تعلّق الأمر لا یکون المأمور به إلاّ واحداً .
وأمّا فی مقام الامتثال والوجود الخارجی : فحیث إنّه یدور أمره بین لزوم
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 216
الإتیان بالمقیّد أو لزوم الإتیان بالمتعلّق مجرّدة ، وبین المصداقین تباین ، فالعقل یحکم بالجمع بینهما فی مقام الامتثال .
وبالجملة : فاقد القید وواجده فی الوجود الخارجی متباینان ، ولم یقل أحد منهم بالبراءة فی دوران الأمر بین المتباینین فی مقام الامتثال .
فحصل الفرق بین المقام ومسألة الأقلّ والأکثر ؛ لأنّ الحکم هناک تعلّق بعنوان لم یعلم انطباقه علی الأقلّ فقط ، أو علیه مع الأکثر معاً . وأمّا فی المقام فمتعلّق التکلیف معلوم ؛ وهو المجرّد عن القید ، ولکن فی مقام الامتثال یدور أمره بین المتباینین .
ولعلّ هذا التقریب أوجب المحقّق العراقی قدس سره لتصویر الحصّة ، کما ستقف علیه قریباً إن شاء الله .
وفیه أوّلاً : أنّه لو تمّ کون المقام من المتباینین ، فمقتضاه الجمع بینهما ؛ بأن یأتی بصلاة مجرّدة عن قصد الامتثال ـ مثلاً ـ ثمّ بصلاة اُخریٰ بقصد الامتثال ، لا الاکتفاء بالمقیّدة ، کما هو الشأن فی جمیع موارد دوران الأمر بین المتباینین ، ولم یلتزم به هو قدس سره ، ولا غیره فی المقام ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّه لم یکن المقام من دوران الأمر بین المتباینین ؛ لأنّ مدار تردّد الأمر بین المتباینین ـ الذی یحکم العقل بوجوب الاحتیاط ـ هو ما إذا کان العنوان والموضوع الذی تعلّق به الأمر مردّد الانطباق علیهما ، فعند ذلک یحکم العقل بالاشتغال .
مثلاً : إذا قیل : «أکرم زیداً» ، وتردّد کونه هذا الفرد ـ أی زید بن عمرو ـ أو ذاک الفرد ـ أی زید بن بکر ـ فلا یعلم ما هو المتعلّق للوجوب منهما ، مع صلاحیة زید للانطباق علیٰ کلّ من الفردین ، فحیث إنّ الشکّ یرجع بنحوٍ إلیٰ ناحیة الامتثال یحکم العقل بوجوب الاحتیاط بإکرامهما .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 217
وأمّا إذا کان المأمور به عنواناً معلوماً صادقاً بحسب الوجود علیٰ هذا الفرد بعنوانه وعلیٰ ذاک کذلک فلا یکون هناک إبهام ؛ لا فی المفهوم ولا فی المصداق . ولکن احتمل دخالة أمر آخر فیه لم یؤخذ فی العنوان بلحاظ عدم إمکان أخذه فیه ؛ فلیس من دوران الأمر بین المتباینین ، کما لا یخفیٰ .
فإذا قیل : «صلّ» مثلاً فالذی تعلّق به الأمر ماهیة الصلاة ، وهذا العنوان صادق علیٰ کلّ مصداق من الصلاة مجرّدة عن قصد الأمر ، وعلی المصداق منها مع قصد الأمر . ولا یکون لقصد الأمر دخالة فی الصدق أصلاً .
ففی المقام وإن کان المأتی به بقصد الأمر والمأتی به بدون ذلک مختلفان وجوداً ، ولکن صدق العنوان علیٰ کلّ منهما ـ کفَرَسَی رِهان ـ ممّا لا إشکال فیه ؛ لقضاء الضرورة علیٰ أنّ صدق عنوان الصلاة ـ مثلاً ـ علی المجرّدة عن قصد الأمر ، کصدقها علی المقیّدة به ولزوم الصلاة مع قصد الأمر أوّل الکلام ، فتدبّر .
ذکر وتعقیب
للمحقّق العراقی قدس سره هنا کلام ، لعلّ منشأه ـ کما أشرنا ـ توهّم کون المقام من باب المتباینین .
وذلک لأنّه قدس سره تصدّیٰ أوّلاً لدفع شبهة لزوم الاحتیاط : بأنّ العقل لو کان فی حکمه ناظراً إلیٰ تحصیل غرض المولیٰ فی نفس الأمر لکان له وجه .
ولکن لم یکن له شأن بالنسبة إلیه ، بل الذی یراه هو التخلّص عن استحقاق العقاب علیٰ مخالفة التکلیف ، واستحقاق العقاب إنّما هو إذا قامت الحجّة علیه عند المکلّف .
فالتکلیف الذی لم تتمّ الحجّة علیه عند المکلّف لا یستحقّ العقاب بمخالفته ، ولا شبهة فی کون التکلیف التی قامت الحجّة علیه عند المکلّف هو التکلیف بالأقلّ أو
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 218
التکلیف بطبیعی الصلاة ـ مثلاً ـ لا الأکثر ولا حصّة من الطبیعی .
ثمّ ذکر فی بیانه ثانیاً : بأنّ الحصّة تطلق علیٰ ثلاثة معان :
أحدها : الحصّة من الجنس ؛ وهو النوع . ولا شبهة فی تباین الحصص الحاصلة بانضمام القیود إلی الجنس .
وثانیها : الحصّة من النوع ، کالحصّة الموجودة فی الفرد منه . ولا تکون هذه الحصص متباینة ، بل هی متماثلة فی جمیع الذاتیات ، ولا فرق بینها إلاّ بالإضافة إلی المشخّصات التی بالإضافة إلیها صار النوع حصصاً .
ثالثها : الحصّة من الجزئی الحقیقی بالإضافة إلی أحواله وعوارضه ؛ فإنّه کما یکون الجزئی الحقیقی موضوعاً باعتبار حال من أحواله ، قد یکون بنفسه حین اقتحامه بحال مّا .
والأوّل مثل کون زید الجائی موضوعاً لوجوب الإکرام ، والثانی بأن یکون زید بنفسه ولکن فی حال المجیء موضوعاً للحکم ، فیکون المجیء مشخّصاً لموضوع الحکم .
وبهذا ظهر الفرق بینهما ؛ لأنّ القید علی الأوّل مقوّم للموضوع ، وعلی الثانی مشخّص له فقط .
والمراد بالحصّة التی ندّعی أنّها متعلّق الأمر فی العبادات هی الحصّة بالمعنی الثالث ؛ ضرورة أنّ الرکوع المقارن للسجود لا یختلف شخصه عن نفسه فیما لو لم یقارنه السجود .
وعلیه : یکون الأقلّ الذی قامت الحجّة علیه متعیّناً بشخصه ؛ فتشتغل الذمّة به نفسه ؛ لأنّ ارتباطیته بغیره لو کانت متحقّقة فی الواقع لا توجب مغایرة لنفسه إذا لم تکن کذلک فی الواقع ؛ فلا یجب الاحتیاط .
نعم ، لو کان الأقلّ علیٰ فرض کونه مرتبطاً بجزء أو قید آخر یکون مغایراً
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 219
حقیقةً وماهیةً للأقلّ الذی لیس له ارتباط بشیء آخر لما کان هناک فرق بین الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، وبین المتباینین فی لزوم الاحتیاط فی مقام الامتثال .
وبالجملة : المراد بالمقارنـة فیما نحن فیه نحـو مقارنة الصلاة مـع قصد القربـة ـ مثلاًـ وفـی الأقلّ والأکثر هـی المقارنـة التی لم تکن مـن قیود الموضوع ، بل مـن مشخّصات الموضوع ؛ بأن یکون الحکم معلّقاً علیه حال المقارنة .
فإذن : یحصل الفرق بین الأخذ بهذا النحـو فی الموضـوع ، وبین الأخذ فیه بنحو القیدیة التی ترجع إلی المتباینین . وکلّ ما یکون القیود من قبیل الثانی فالاشتغال ، وکلّ ما یکون من قبیل الأوّل فالبراءة ، وما نحن فیه من هذا القبیل ، انتهی محرّراً .
وفیما أفاده مواقع للنظر :
منها : أنّ ما أفاده قدس سره فی الحصّة خلاف ما هو المصطلح علیه فی الحصّة ؛ لأنّ الحصّة فی الاصطلاح هی الکلّی المقیّد ، وإن قیّد بقیود لا ینطبق إلاّ علی الفرد ، ولاتطلق الحصّة علی الجزئی الحقیقی المقیّد ، ولا المقترن بشیء .
ومن العجیب : أنّ هذا المحقّق لم یعدّ ما هی الحصّة حقیقة ؛ وهی النوع المقیّد بقیود مصنِّفة لا مشخّصة ، کالفاسق والعالم ونحوهما . وعدّ ما لم یکن حصّة ؛ وهی المقیّد بقیود مشخّصة .
وبالجملة : ما ذکره فی الحصّة غیر ما هو المعهود منها فی کلماتهم ، إلاّ أن یجعل ذلک اصطلاح منه ، فلا مشاحّة فیه .
ومنها : أنّ الفرق الذی ذکره فی الحصّة من الجنس والحصّة من النوع ـ بلحاظ أنّ الحصص فی الاُولیٰ متباینة ، بخلاف الثانیة ـ لا یرجع إلیٰ محصّل ؛ لأنّه کما أنّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 220
الطبیعة الجنسیة إذا تقیّدت وتنوّعت یصیر کلّ نوع مبایناً مع النوع الآخر ، فکذلک الطبیعة النوعیة إذا تقیّدت بقیود فردیة یصیر کلّ فرد مبایناً مع الفرد الآخر .
فکما أنّ الأنواع لا تختلفان فی الجنسیة ـ کالحیوانیة فی الإنسان والفرس مثلاً ـ وإنّما الاختلاف فی النوعیة والفصل ، فکذلک الأشخاص والأفراد ـ کزید وعمرو مثلاً بالنسبة إلی الإنسانیة ـ یشترکان فی الحقیقة النوعیة ویختلفان فی الفردیة والشخصیة .
وبالجملة : أنّ الفرق الذی ذکره فی نحوی القید غیر وجیه ؛ إذ کما أنّ القیود فی الأوّل توجب التباین النوعی ، فکذلک فی الثانی یوجب التباین الفردی . ومجرّد دخالة القید فی الأوّل فی ماهیة المقیّد دون الثانی لا یوجب التفاوت فیما هو المهمّ ؛ فهما یرتضعان من ثدی واحد ، کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .
ومنها : أنّ تقسیم القسم الثالث من الحصّة إلیٰ قسمین ؛ بأنّ بعضها مقوّم وبعضها الآخر مشخّص غیر صحیح ؛ لأنّ المقارنة إمّا لها دخالة ـ ولو بنحوٍ ما ـ فی الجزء المعتبر تقارنه لهذا الجزء أم لا ، فعلی الأوّل تکون مقوّماً ؛ فتحصل المقارنة بین الجزء المقترن وبین غیر المقترن . وعلی الثانی یعلم بعدم اعتبارها ، ویکون اعتبارها أشبه شیء بوضع الحجر جنب الإنسان .
ومن الواضح : اعتبار المقارنة وارتباط بعضها ببعض فی الموضوع ، وإلاّ یلزم أن یصحّ إتیانها غیر مرتبطة أیضاً .
فإذن : تکون المقارنة بالنسبة إلی الموضوع من قیوده ؛ فلم یفترق القسمان من حیث تقوّم الموضوع ، سواء قیل بالارتباط أو بالتقیید ، فتدبّر واغتنم .
ومنها : ما أفاده فـی أصل المطلب مـن أنّ الأقلّ إذا کان مرتبطاً بجـزء أو قیـد یکون مغایـراً حقیقة وماهیة للأقلّ الـذی لیس له ارتباط بشـیء آخـر یلزم الاحتیاط .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 221
وذلک لما عـرفت أنّ الاحتیاط إنّما یجب إذا کان متعلّق التکلیف مـردّد الانطباق علیهما ، کما فـی المتباینین .
وأمّا فیما نحن فیه فلیس کذلک ؛ ضرورة صدق الصلاة ـ مثلاً ـ علیٰ کلّ من المجـرّدة والمقیّدة . وارتباطیـة بعض الأجزاء ببعض لا یضـرّ بذلک ؛ بداهـة أنّ الصلاة کما تصـدق علی المقیّدة فکذلک تصـدق علی المجرّدة عن القید ، کما هـو المفروض ؛ لأنّ محلّ البحث إنّما هـو بعد صدق الطبیعة علی المجرّدة عن قصد الأمـر ، ولو علی القول بأنّ المسمّیٰ هـو خصوص الصحیحة ؛ لأنّ المعتبر هـو ما عـدا القیود الآتیة مـن قبل الأمر .
فإذا کان صدقها علیهما سیّان فحیث إنّ المکلّف مأخوذ بما قام علیه الحجّة ، وواضح أنّ ما قام لدیه الحجّة إنّما هو المجرّدة ، وأمّا بالنسبة إلی القید فحیث إنّه مشکوک فیه فینفی بالبراءة العقلیة .
ولا یخفیٰ : أنّ هذا لیس لأجل إطلاق الدلیل ، بل لأجل الإهمال ، وأنّ المقدار المعلوم الذی قامت علیه الحجّة هو هذا المقدار .
ولا فرق فی ذلک فی النوع بالنسبة إلی الجنس ، ولا فی الفرد بالنسبة إلی النوع ، ولا المقیّد بالنسبة إلی المطلق ؛ لأنّ الملاک فی الجمیع واحد ؛ وهو أنّ المعلوم الذی قامت علیه الحجّة هو عنوان الجنس أو النوع أو المطلق ، وهو یصدق علی الموجود الخارجی ـ أعنی الحیوان أو الإنسان أو الرقبة مثلاً ـ وأمّا الزائد فمشکوک فیه ، فینفی بالأصل . هذا إجمال المقال فی المسألة ، تفصیله یطلب من مبحث الاشتغال .
هذا کلّه فی المورد الأوّل ؛ وهو حکم العقل فی المسألة .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ الأصل العقلی فی الشکّ فی أخذ قصد الأمر أو الامتثال أو نحوهما فی المتعلّق هو البراءة عقلاً ؛ لقبح العقاب بلا بیان .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 222