المقصد الأوّل فی الأوامر

تکملة‏: فی إمکان أخذ قصد الأمر فی المأمور به بأمرین مستقلّین

تکملة : فی إمکان أخذ قصد الأمر فی المأمور به بأمرین مستقلّین

‏ ‏

‏ما تقدّم کلّه بالنسبة إلی إمکان أخذ قصد الأمر فی متعلّق الأمر بأمر واحد ،‏‎ ‎‏وقد عرفت لعلّه بما لا مزید علیه : أنّه بمکان من الإمکان .‏

‏ولکن حیث یمکن أن یری امتناع ذلک بأمر واحد ـ مع ما ذکرنا ـ فینبغی أن‏‎ ‎‏یبحث فی ذلک علی سبیل الفرض : بأنّه لو فرض امتناع أخذ قصد الأمر فی المتعلّق‏‎ ‎‏بأمر واحد فهل یمکن تصحیح ذلک بأمرین مستقلّین ؛ بأن یتعلّق أحدهما بنفس‏‎ ‎‏الطبیعة والآخر بإتیانها بقصد الأمر ، أم لا ؟‏

‏وبالجملة : هل یمکن أن یتوسّل الآمر إلیٰ غرضه من إتیان المتعلّق بقصد أمره‏‎ ‎‏بهذه الوسیلة ، أم لا ؟ وجهان ، بل قولان :‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 189
فعن الشیخ الأعظم الأنصاری ‏قدس سره‏‏ تصحیحه بأمرین ؛ حیث یری أنّ الأوامر‏‎ ‎‏المتعلّقة بالعبادات متعلّقة بنفس الأجزاء والشرائط ، واستفاد قصد القربة وقصد الأمر‏‎ ‎‏بالإجماع وغیره‏‎[1]‎‏ .‏

ولکن ناقش فی ذلک المحقّق الخراسانی ‏قدس سره‏‏ ، وحاصل مناقشته یرجع إلی‏‎ ‎‏أمرین : الأوّل إلی منع الصغری ، والثانی إلیٰ منع الکبریٰ .‏

‏فحاصل ما أفاده فی منع الصغریٰ : هو القطع بأنّه لیس فی العبادات إلاّ أمر‏‎ ‎‏واحد ، کغیرها من الواجبات والمستحبّات .‏

‏غایة الأمر : یدور المثوبات والعقوبات فیها مدار الامتثال وجوداً وعدماً ،‏‎ ‎‏بخلاف ما عداها فیدور فیه خصوص المثوبات ، وأمّا العقوبة فمترتّبة علیٰ ترک الطاعة‏‎ ‎‏ومطلق الموافقة .‏

‏وحاصل ما أفاده فی منع الکبریٰ : هو أنّ الأمر الأوّل إن کان یسقط بمجرّد‏‎ ‎‏موافقته ، وإن لم یقصد به الامتثال ـ کما هو قضیة الأمر الثانی ـ فلا یبقیٰ مجال لموافقة‏‎ ‎‏الأمر الثانی مع موافقة الأمر الأوّل بدون قصد امتثاله ؛ فلا یتوسّل الآمر إلیٰ غرضه‏‎ ‎‏بهذه الحیلة والوسیلة .‏

‏وإن لم یکد یسقط بذلک ، فلا یکاد یکون له وجه إلاّ عدم حصول غرضه‏‎ ‎‏بذلک من أمره ؛ لاستحالة سقوطه مع عدم حصوله ، وإلاّ لما کان موجباً لحدوثه .‏‎ ‎‏وعلیه فلا حاجة فی الوصول إلیٰ غرضه إلیٰ تعدّد الأمر ؛ لاستقلال العقل ـ مع عدم‏‎ ‎‏حصول غرض الآمر بمجرّد موافقة الأمر ـ بوجوب الموافقة علیٰ نحوٍ یحصل به‏‎ ‎‏غرضه ؛ فیسقط أمره‏‎[2]‎‏ .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ الکلام فی إمکان أخذ الأمرین واستحالته فی مقام الثبوت ،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 190
‏فدعوی القطع بعدم الأمرین فی مقام الإثبات غیر وجیه .‏

وثانیاً :‏ أنّ دعوی القطع بالعدم أیضاً غیر وجیه ؛ لأنّه إذا فرض أنّه فی مقام‏‎ ‎‏الثبوت لا یحصل غرض المولیٰ بإتیان الطبیعة کیف اتّفقت بل لابدّ فیها من قصد‏‎ ‎‏أمرها ، فلابدّ له فی مقام الإثبات من إبراز مقصوده وإلاّ لأخلّ بغرضه .‏

‏ضرورة : أنّ الصلاة ـ مثلاً ـ علیٰ کلّ من مذهب الصحیحی والأعمّی لم توضع‏‎ ‎‏للقیود الجائیة من قبل الأمر ، فإذا فرض استحالة أخذه فی المتعلّق بأمر واحد فلابدّ‏‎ ‎‏وأن یلتزم بأمر آخر یدلّ علی اعتباره فیها .‏

وثالثاً :‏ أنّ الإجماع ثابت فی بعض الأعمال علیٰ أنّه لو اُتی به بدون قصد القربة‏‎ ‎‏یقع باطلاً ، وهو  ‏‏قدس سره‏‏ أیضاً قائل باعتبار قصد الأمر فی العبادات ؛ فیکشف ذلک عن أنّ‏‎ ‎‏الأمر المتعلّق بنفس الطبیعة فی ظاهر الدلیل لم یکن مراداً بالإرادة الجدّیة ، فلابدّ من‏‎ ‎‏وجود دلیل آخر أوجب ذلک .‏

‏ولیت شعری کیف یدّعی القطع بعدم أمر آخر متکفّل لذلک ، مع عدم إمکان‏‎ ‎‏اعتبار القید بأمر واحد ، مع دخالة القید فی تحصیل غرضه ؟ !‏

‏ولا یلزم أن یکون طریق إثباته لفظاً ، کالسماع من المعصوم ‏‏علیه السلام‏‏ أو النقل عنه .‏‎ ‎‏بل یمکن إثباته من طریق اللبّ ، کالإجماع أو الضرورة أو بناء المتشرّعة ؛ بحیث‏‎ ‎‏یوجب القطع بإرادة ذلک .‏

‏وتوهّم : اعتبار قصد الأمر فی العبادة من باب الاشتغال ، کما أشار إلیه ‏‏قدس سره‏‏ فی‏‎ ‎‏آخر کلامه .‏

‏مدفوع : بأنّه لو وصلت النوبة إلی الأصل وحکم العقل فلنا أن نقول بالبراءة‏‎ ‎‏دون الاشتغال . ولو سلّم أنّ مقتضی القاعدة الاشتغال ولکن لا یکون واضحاً‏‎ ‎‏لایحتاج إلی البیان ؛ ولذا وقع الخلاف فی ذلک ؛ فإذن لا یکفی مجرّد ذلک مصحّحاً‏‎ ‎‏لادّعاء القطع بعدم أمر آخر .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 191
‏وبالجملة : لو لم تکن نفس إتیان الطبیعة محصّلة للغرض ، بل لابدّ لحصوله من‏‎ ‎‏قصد أمره فإذا لم یمکن أخذه فی متعلّق الأمر بأمر واحد فیکشف ذلک عن اعتباره‏‎ ‎‏بأمر آخر ، فتدبّر .‏

ورابعاً :‏ أنّه یمکن لنا اختیار کلّ واحد من شقّی التردید وإنکار الملازمة .‏

‏وذلک لأنّه لو اخترنا الشقّ الأوّل ـ وقلنا بأنّ إتیان الطبیعة مجرّدةً عن قصد‏‎ ‎‏الأمر یوجب سقوط الأمر ؛ لانتفاء موضوعه ـ لکنّه لا یثبت الامتثال ؛ لأنّ سقوط‏‎ ‎‏التکلیف کما یکون بامتثاله یکون بفقدان الموضوع أو عصیانه .‏

‏مثلاً : لو احترق المیّت المسلم أو أدرکه الغرق قبل الغسل والصلاة علیه سقط‏‎ ‎‏الأمر بالغسل والصلاة علیه . وواضح : أنّ ذلک لیس لأجل الامتثال ، بل لفقدان‏‎ ‎‏الموضوع الموجب لسقوط الأمر قهراً .‏

‏ففیما نحن فیه نقول : إنّ إتیان الطبیعة مجرّدة عن قصد الأمر وإن کان یوجب‏‎ ‎‏عدم إمکان إتیانها بقصد الأمر لتفویت الموضوع ، ولکن للمولی التوسّل إلیٰ غرضه‏‎ ‎‏بالتوعید والعقوبة علیٰ ترک المأمور به عصیاناً .‏

‏مثلاً : لو قلنا بأنّ قاعدة لا تعاد‏‎[3]‎‏ تشمل الترک العمدی بالنسبة إلیٰ غیر‏‎ ‎‏الخمسة المستثناة فغایة ما تدلّ علیه قاعدة لا تعاد : هی أنّه لو ترک غیر الخمسة‏‎ ‎‏ـ کالسورة مثلاً ـ عمداً لا یمکن إعادتها ثانیاً ، ویعاقب علیه ؛ فلا ینافی ذلک الأدلّة‏‎ ‎‏المثبتة لجزئیتها .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 192
‏بل یمکن أن یقال : إنّ ذلک یوجب تشدید جزئیتها ؛ لأنّ المکلّف إذا توجّه إلی‏‎ ‎‏أنّه لو ترک السورة عمداً لا یمکنه تدارکها لا ینقدح فی نفسه ترکها أصلاً ، بخلاف ما لو‏‎ ‎‏ترک ما یصلح لذلک ؛ فإنّ له ترکها عمداً ثمّ الإتیان بها ثانیاً مع المتروک .‏

‏ولـذا قلنا بعدم استقامـة کـلام شیخنا العلاّمـة الحائری ‏‏قدس سره‏‏ ؛ حیث قال : بأنّ‏‎ ‎‏حـدیث لا تعاد لو عـمّ وشمل ترک الجـزء عمـداً یوجب العُطلة والتکاسل عـن‏‎ ‎‏الصلاة ، فتدبّر .‏

‏ومثل ذلک : الجهر بالقراءة فی مورد الإخفات ؛ جهلاً تقصیریاً بالحکم مثلاً ، أو‏‎ ‎‏الإخفات بها فی مورد یجب الجهر کذلک ؛ فإنّ من لم یُخفت فی الصورة الاُولی ، أو‏‎ ‎‏لم یجهر فی الصورة الثانیة یعاقب علیه ، ولکن مع ذلک لا یمکن إعادتها جهراً أو إخفاتاً .‏

فظهر ممّا ذکرنا :‏ أنّه یمکن للمولی أن یتوسّل إلیٰ غرضه بأمر مستأنف . ومجرّد‏‎ ‎‏إتیان الطبیعة مجرّدة وإذهاب موضوع أمر الثانی لا تکاد توجب أن لا یتوسّل إلیٰ‏‎ ‎‏غرضه بالتوعید والعقوبة علیٰ ترکه .‏

‏ولنا اختیار الشقّ الثانی ، ونقول بعدم السقوط لأجل عدم حصول الغرض .‏‎ ‎‏ولکن لا یخفیٰ : أنّه لا یکون ذلک من ضروریات العقل ؛ بحیث لا یحتاج إثبات‏‎ ‎‏الاشتغال إلیٰ تجشّم البیان . کیف ، وقد ذهب جمع من المحقّقین إلی البراءة فی ذلک‏‎[4]‎‏ ؟ !‏

‏فعلی هذا : یکون الأمر نظریاً ، فللشارع أن یرشد عباده إلیٰ ما له دخل فی‏‎ ‎‏تحصیل غرضه ؛ وهو إتیان الطبیعة بقصد الأمر ، فیقیّد ذلک بالأمر المستأنف ؛ دفعاً‏‎ ‎‏لتوهّم البراءة .‏

‏فظهر : أنّه لا تلازم بین عدم سقوط الأمر ، وبین عدم لزوم الأمر بتوهّم حکم‏‎ ‎‏العقل بالاشتغال ، فتدبّر واغتنم .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 193

إشکال ودفع

‏ ‏

‏ربّما توهّم فی المسألة إشکال عقلی ، وهو مشترک الورود علی کلّ من القول‏‎ ‎‏بتعدّد الأمر ؛ بحیث یکون تعلّق أحدهما بنفس الطبیعة ، والثانی بالطبیعة المتقیّدة‏‎ ‎‏بداعی أمرها . والقول بأمر واحد منحلّ إلی أمرین ، کما یراه المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ .‏

وحاصله :‏ أنّ المصلحة إذا کانت قائمة بالطبیعة المتقیّدة بقصد الأمر فبحسب‏‎ ‎‏اللبّ یستحیل تعلّق الإرادة بإیجاد الطبیعة المجرّدة ؛ لأنّ للإرادة مبادئ مضبوطة تجب‏‎ ‎‏عندها وتمتنع دونها .‏

‏فإذا لم تکن للطبیعة المجرّدة مصلحة فلا تکون مورداً ومرکباً للإرادة ، ولو‏‎ ‎‏فرض تعلّق الإرادة بها فإنّما هی إرادة صوریة غیر جدّیة لا یمکن التقرّب بها .‏

‏فإذن : الأمر بالطبیعة المجرّدة لا یکون فیه مصلحة ومقرّبیة أصلاً ؛ سواء قلنا‏‎ ‎‏بأمرین مستقلّین ، أو قلنا بالانحلال .‏

‏بل المحذور فی الانحلال أشدّ ؛ لأنّه لو قلنا بأمرین مستقلّین یمکن تعلّق کلّ أمر‏‎ ‎‏بموضوع . وأمّا لو قلنا بالانحلال العقلی فمعناه أنّه لا یکون فی البین إلاّ أمر واحد متعلّق‏‎ ‎‏بالطبیعة المتقیّدة ، ولکن العقل یُحلّله إلی أمرین ؛ فلا یصحّ أن یقال : إنّ الحصّة المجرّدة‏‎ ‎‏فیها مصلحة وداعویة .‏

‏وکیف کان : لا تکون الطبیعة المجرّدة ذات مصلحة ، فلا تکون مرادة بالإرادة‏‎ ‎‏الجدّیة ، فلا یصحّ البعث نحوها . فإذا لم یصحّ البعث نحوها فلا یصحّ الانبعاث .‏

‏فلا یمکن أن تکون موضوعة للأمر الثانی ؛ ضرورة أنّ موضوعیته فرع إمکان‏‎ ‎‏باعثیته ؛ فإذا فرض عدم الباعثیة لا یمکن الأمر بقصدها . ولو فرض تعلّق الأمر بها‏‎ ‎‏جدّاً ، ولکن لم یتعلّق بتمام المأمور به ، بل تعلّق بجزءٍ منه ؛ فیکون الأمر غیریاً لا یکون‏‎ ‎‏مقرّباً ، ومعه لا یحصل القرب الذی هو غرض المولیٰ .‏

‏وقد دفع الإشکال : من جهة کون المأمور به الحصّة المقارنة لقصد الأمر ، کما‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 194
‏سبق تصویره من المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ عند کلامه فی الانحلال‏‎[5]‎‏ .‏

‏ولکن قلنا : بأنّ المقارنات غیر مُحصِّصة للحصّة ، وإلاّ یلزم وجود حِصَص غیر‏‎ ‎‏متناهیة ؛ضرورة أنّ مجرّد لحاظ مقارنة الطبیعة بمقارنات مالم یتقیّد بهالا یصیر حصّة .‏

‏وهل یعقل أن لا تصدق طبیعة الإنسان الموجودة فی الذهن المقارنة لاُمور علیٰ‏‎ ‎‏طائفة من الأناسی ، دون طائفة اُخریٰ ؟ !‏

‏مضافاً إلی : أنّ الحصّة المقارنة إنّما تحصّل بعد تعلّق الأمر ، وأمّا قبل تعلّق الأمر‏‎ ‎‏فلا مقارنة فی البین ، فتدبّر .‏

والتحقیق فی الجواب عن الإشکال هو أن یقال :‏ إنّ ملاحظة الأوامر القربیة بین‏‎ ‎‏الموالی والعبید یسهّل الخطب ویرفع غائلة الإشکال . ومنشأ الإشکال هو خلط‏‎ ‎‏صورة إرادة الآمر وقصده الطبیعة المجرّدة ؛ مکتفیاً به ومقتصراً به لصورة ما لو کان‏‎ ‎‏بصدد إفهام التقیّد به بدلیل آخر .‏

‏والممتنع هو تعلّق الإرادة والبعث بالطبیعة ؛ مکتفیاً بها . وأمّا لو کان بصدد‏‎ ‎‏إفهام التقیّد به بدالٍّ آخر فلا امتناع فیه ، بل ینقدح فی ذهنه مبادئ إرادتها .‏

‏فإشکال عدم تعلّق الإرادة بالطبیعة المجرّدة لا وجه له .‏

‏نعم ، یتوجّه إشکال أنّ الأمر بها حیث یکون غیریاً لاقربیاً فکیف یتقرّب به ؟‏

‏ولکن یمکن أن یقال : إنّ قصد الأمر حیث یکون متمّماً للغرض حیث لا یمکن‏‎ ‎‏أن یکون للطبیعة بدون قصد الأمر مصلحة فیکون قصد الأمر المتعلّق بالطبیعة محصّلاً‏‎ ‎‏للغرض ومقرّباً للمولی .‏

‏فیکون فرق بین هذا القید وسائر القیود ؛ لأنّ الطبیعة المجرّدة عن قصد الأمر‏‎ ‎‏لایکون فیها مصلحة ، وأمّا سائر القیود فلا تکون بهذه المثابة ، کالطهارة‏‎[6]‎‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195

نقل وتعقیب

‏ ‏

قال المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ : یمکن أن ننفرد عن القوم بتحریر وتقریر نفید بهما‏‎ ‎‏إمکان أخذ قصد الأمر والامتثال أو دعوة الأمر فی متعلّق شخصه شطراً أو شرطاً .‏

‏وذلک یتوقّف علیٰ تمهید مقدّمة ، حاصلها : أنّه کما یمکن إظهار الإرادات‏‎ ‎‏التشریعیة ـ عرضیة کانت أو طولیة ـ بإنشاءات متعدّدة ، کأن یقول : «أکرم زیداً»‏‎ ‎‏و«أکرم عمراً» و«ادخل السوق واشتر اللحم» ، فکذلک یمکن إظهارها بإنشاء واحد ،‏‎ ‎‏کأن یقول فی الأحکام العرضیة : «أکرم العلماء» ، وفی الطولیة : «صلّ مع الطهارة» .‏‎ ‎‏وطولیة الإرادة تارة تکون باعتبار کون متعلّقاتها طولیة ـ کالطهارة والصلاة ـ‏‎ ‎‏واُخریٰ باعتبار کون نفسها طولیة ـ کما فی «صدّق العادل» ـ لأنّ هذا الخطاب‏‎ ‎‏لایتوجّه إلی المکلّف إلاّ عند الخبر الذی له أثر شرعی . وبانتفاء کلّ منهما ـ فضلاً عن‏‎ ‎‏کلیهما ـ ینتفی الأثر .‏

‏ولذا اُشکل الأمر فی شمول خطاب «صدّق العادل» للإخبار مع الواسطة أو‏‎ ‎‏الوسائط ، کخبر الشیخ عن الصفّار عن زرارة عن أبی عبدالله  ‏‏علیه السلام‏‏ ؛ لأنّ خبر الشیخ‏‎ ‎‏ـ مثلاًـ خبر عادل محرز بالوجدان ، لکن لم یکن له أثر شرعی ، وخبر زرارة وإن کان‏‎ ‎‏له أثر شرعی لکنّه غیر محرز بالوجدان ، وخبر صفّار لا یکون محرزاً بالوجدان‏‎ ‎‏ولایکون ذا أثر شرعی .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196
‏ولکن إذا عمّمنا الأثر الشرعی إلیٰ کلّ حکم شرعی ـ ولو کان حکماً طریقیاً ـ‏‎ ‎‏یمکن حلّ الإشکال ؛ لأنّ خطاب «صدّق العادل» وإن کانت قضیة واحدة مشتملة‏‎ ‎‏علی إنشاء واحد ، إلاّ أنّه بها تنشئ طبیعی وجوب تصدیق العادل الجامع بین الأفراد‏‎ ‎‏الطولیة ؛ بحیث یکون أحد الأفراد محقّقاً لموضوع الفرد الآخر ؛ فموضوعها خبر العادل‏‎ ‎‏المتحقّق وجداناً أو تعبّداً .‏

‏وحینئذٍ : یتحقّق بانطباق هذه القضیة علیٰ خبر الشیخ ـ مثلاً ـ الذی هو خبر‏‎ ‎‏عادل وجداناً خبر الصفّار تعبّداً ، وخبر زرارة کذلک باعتبار ما لهما من الأثر‏‎ ‎‏الشرعی ؛ فإنّ أثر الشرعی فی خبر صفّار وجوب تصدیقه إذا تحقّق ، وفی خبر زرارة‏‎ ‎‏وجوب غسل الجمعة ـ مثلاً ـ إذا تحقّق .‏

‏فانطباق قضیة «صدّق العادل» علیٰ خبر الشیخ ـ الذی هو خبر عادل ـ صار‏‎ ‎‏سبباً لحدوث أخبار عدول بالتعدّد والحکومة فی آنٍ واحد ، بلا تقدّم ولا تأخّر فی‏‎ ‎‏الزمان ، وإن کان صدقها علیٰ بعض فی طول صدقها علی الآخر .‏

وبهذا یندفع :‏ إشکال الدور فی شمول الخطاب للإخبار مع الواسطة .‏

أمّا الإشکال ؛‏ فلأنّ وجوب تصدیق العادل لا یثبت بخبر الشیخ ـ مثلاً ـ إلاّ إذا‏‎ ‎‏کان له أثر شرعی ، ولیس له أثر شرعی غیر وجوب التصدیق ؛ فیتوقّف ثبوته‏‎ ‎‏لموضوعه علیٰ ثبوته له .‏

وأمّا الجواب ؛‏ فلأنّه إنّما یلزم الإشکال لو کان الحکم المنشأ فی قضیة «صدّق‏‎ ‎‏العادل» حکماً واحداً شخصیاً ، وأمّا لو کان المنشأ فیها أحکاماً متعدّدة حقیقة ،‏‎ ‎‏وواحداً عنواناً وإنشاءً فلا یلزم الإشکال .‏

‏إذا عرفت هذه المقدّمة فاعلم : أنّه یمکن أن ینشأ المولیٰ وجوبین طولیین‏‎ ‎‏أحدهما محقّق موضوع الآخر بإنشاء واحد ، کما لو قال مثلاً : «صلّ مع قصد امتثال‏‎ ‎‏وجوب الصلاة» ، أو «صلّ علیٰ أن یکون الداعی هو وجوبها» . فتکون هذه العبارة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197
‏ونحوها إنشاءً واحداً لوجوبین : أحدهما متعلّق بالحصّة المقارنة لدعوة الأمر ، أو لقصد‏‎ ‎‏امتثال الأمر من طبیعة الصلاة . وثانیهما وجوب إتیان تلک الحصّة بدعوة أمرها‏‎ ‎‏ووجوبها . وبذلک یرتفع المحاذیر المزبورة برمّتها‏‎[7]‎‏ ، انتهی ملخّصاً .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّ ما ذکره هنا لیس إلاّ تکراراً لما اختاره ‏‏قدس سره‏‏ فی الجواب عمّا أفاده‏‎ ‎‏المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ ؛ من انحلال الأمر إلی الأمر بحصّة من الصلاة ، وهی الأمر‏‎ ‎‏بإتیانها بدعوة الأمر بها .‏

‏نعم ، أضاف هنا إلیٰ ما ذکره هناک مثالاً ، ولکن مع الأسف لا ارتباط له‏‎ ‎‏بالممثَّل ؛ وذلک لأنّه لو قلنا : إنّ خطاب «صدّق العادل» جارٍ مجری القضیة الحقیقیة‏‎ ‎‏فتنحلّ إلیٰ وجوب تصدیقات بعدد أخبار العدول ، ویکون هناک أحکام مستقلّة‏‎ ‎‏متعدّدة بتعدّد الموضوعات المستقلّة ؛ عرضیة کانت أو طولیة .‏

‏فإذا شمل «صدّق العادل» خبر الشیخ ـ الذی هو رأس السلسلة فبشموله‏‎ ‎‏یتحقّق موضوع خبر الصفّار ، وهکذا إلی آخر السلسلة .‏

‏ولکن ما نحن فیه لیس کذلک ؛ لأنّه لا یمکن تصحیح الأمر بأمر واحد ینحلّ‏‎ ‎‏أوامر متعدّدة ، بل لابدّ لتتمیمه بالأمر بها مقیّدة بقصد الأمر ، فلابدّ من دالّ آخر .‏

‏وبالجملة : حیث إنّ المفروض أنّ نفس الطبیعة غیر واجدة للمصلحة ، بل هی‏‎ ‎‏قائمة بإتیانها بقصد الأمر فکلّ من الصلاة ـ مثلاً ـ والصلاة بقصد الأمر جزء من‏‎ ‎‏الموضوع .‏

‏وإن شئت قلت : إنّ الحکم هنا متعلّق بالماهیة المتقیّدة ، ولم یکن لکلّ من‏‎ ‎‏الماهیة وتقیّدها حکماً علیٰ حدة ، بل کلّ منهما جزء الموضوع لحکم واحد ، لا حکمان‏‎ ‎‏مستقلاّن بإنشاء واحد ، کما هو الشأن فی «صدّق العادل» .‏

‏فإذن : فرق بین ما نحن فیه ـ وهو إثبات حکم واحد لموضوع واحد ـ وبین‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198
‏الحکم فی باب قضیة «صدّق العادل» ؛ فإنّه إنشاء أحکامات مستقلّة علیٰ موضوعات‏‎ ‎‏کذلک بإنشاء واحد . فغایة الانحلال الذی یمکن دعواه هنا هو انحلال حکم واحد إلیٰ‏‎ ‎‏حکمین ضمنیین بحسب حکم العقل ، وهو غیر الانحلال فی القضیة الحقیقیة ، کما‏‎ ‎‏لایخفیٰ ، فتدبّر .‏

وثانیاً :‏ کما أشرنا إلیه آنفاً أنّ المقارنة التی یعتبرها فی الحصّة ، هل المراد منها‏‎ ‎‏المقارنة الخارجیة بعد تعلّق الحکم ، أو المقارنة الذهنیة قبل تعلّق الحکم ؟‏

‏فإن أراد المقارنة الخارجیة ففیه : أنّ المقارنة کذلک إنّما تحصل بعد تعلّق الأمر .‏‎ ‎‏ولا یعقل أن یؤخذ ما یکون متأخّراً عن الحکم فی موضوع حکمه .‏

‏وإن أراد بها المقارنة الذهنیة فنقول : مجرّد التقارن فی اللحاظ لا یصحّح‏‎ ‎‏الحصّة ، إلاّ إذا قیّد الموضوع به ؛ ضرورة أنّه لو کان مجرّد المقارنة الاتّفاقیة مُحصّصة‏‎ ‎‏فلابدّ وأن یتحصّص بحصص غیر متناهیة ؛ لأنّه کما یکون الموضوع مقارناً لدعوة‏‎ ‎‏الأمر ، کذلک یکون مقارناً للحاظ إشراق الشمس وهبوب الریاح ، إلی غیر ذلک .‏

‏وبالجملة : إذا لم یکن لما به تحصّص الماهیة دخل ـ قیداً وتقیّداً ـ لکان المتعلّق‏‎ ‎‏هو نفس الماهیة ، وإن کان له دخل بنحومّا فی معنی الحصّة فیعود المحاذیر المذکورة .‏

‏فإذن : المقارنة الاتّفاقیة بین ماهیة الصلاة ودعوة الأمر لا توجب تحصّصها‏‎ ‎‏بحصّة خاصّة ، وإلاّ لکان لغیر تلک الخصوصیات من المتخیّلات ـ حتّی لحاظ الماهیة ـ‏‎ ‎‏دخالة فیه .‏

‏والحصّة معناها هی الماهیة المضافة إلیٰ خصوصیةٍ ما ؛ بحیث تکون تلک‏‎ ‎‏الإضافة بما هی إضافة دخیلة فیها ، وإن کان  المضاف إلیه وکذا الإضافة ـ بما هی‏‎ ‎‏قید ـ خارجاً ، ولیکن هذا علی ذکر منک لعلّه ینفعک فی مقامات ، إن شاء الله .‏

وثالثاً :‏ کما قرّره بعض الأعلام من الأصدقاء ـ دامت برکاته ـ مقال سماحة‏‎ ‎‏الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ أنّ تحقّق الحصّة المقارنة لدعوة الأمر یتوقّف علیٰ تحقّق دعوة‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 199
‏الأمر خارجاً ؛ إذ الحصّة ـ علی الفرض ـ خارجة ، وهی متوقّفة علیٰ تحقّق الحصّة‏‎ ‎‏العینیة ؛ لتوقّف الحکم علی الموضوع ، مع استحالة الامتثال أیضاً ؛ لعدم إمکانه إتیان‏‎ ‎‏الحصّة المقارنة بدعوة الأمر ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 200

  • )) اُنظر مطارح الأنظار : 60 / السطر الأخیر .
  • )) کفایة الاُصول : 96 ـ 97 .
  • )) قلت : مدرک القاعدة هو قول أبی جعفر علیه السلام فی الخبر الصحیح : «لا تعاد الصلاة إلاّ من خمسة : الطهور ، والوقت ، والقبلة ، والرکوع والسجود»(أ) . [المقرّر حفظه الله ] .ــــــــــــــــــــــــــأ ـ وسائل الشیعة 3 : 227 ، کتاب الصلاة ، أبواب القبلة ، الباب9 ، الحدیث1 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 101 ، نهایة الاُصول : 123 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 187 .
  • )) قلت : کذا استفدنا من سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فی مجلس الدرس ، ولم یتحصّل لناحقیقته . ولکن فی تقریر بعض الأصدقاء الأعلام ـ دامت برکاته ـ أنّ الأمر به وإن کان غیریاً غیر مقرّب ، لکنّه إذا اُتی بهذا الداعی یکون مقرّباً بمقتضی الأمر الثانی ؛ إذ الأمر مع کونه غیر قربی تمام الموضوع للأمر الثانی ، ومعه یحصل القرب .     ولا یخفی : أنّ معنیٰ کون الأمر الأوّل غیر قربی هو أنّه بإتیان المأمور به لا یحصل القرب ، لا أنّ إتیانه بداعی الأمر أیضاً لا یحصل القرب ، انتهی ، فتدبّر [المقرّر حفظه الله ] .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 232 ـ 234 .