المقصد الأوّل فی الأوامر

تذییل‏: فی کیفیة دلالة الجُمل الخبریة علی الطلب والوجوب

تذییل : فی کیفیة دلالة الجُمل الخبریة علی الطلب والوجوب

‏ ‏

‏کثیراً ما یستعمل الجمل الخبریة فی الکتاب والسنّة فی مقام الإنشاء ، کقوله‏‎ ‎‏تعالی : ‏‏«‏وَالْوَالِدَاتُ یُرْضِعْنَ أوْلاٰدَهُنّ‏»‏‎[1]‎‏ ، ‏‏«‏والمُطَلَّقَاتُ یَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ‎ ‎قُرُوءٍ‏»‏‎[2]‎‏ ، وقوله ‏‏علیه السلام‏‏ : ‏«یسجد سجدتی السهو»‎[3]‎‏ ، أو ‏«یعید صلاته»‎[4]‎‏ ، أو‏‎ ‎«یتوضّأ»‎[5]‎‏ ، أو ‏«یغتسل»‎[6]‎‏ ، إلیٰ غیر ذلک .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155
‏ولا إشکال : فی أنّها کهیئة الأمر فی الدلالة علی البعث والإغراء ، وقد أشرنا أنّ‏‎ ‎‏تمام الموضوع لحکم العقلاء بلزوم الإطاعة نفس البعث والإغراء ـ بأیّ دالٍّ صدر من‏‎ ‎‏المولیٰ ـ من غیر فرق بین هیئة الأمر والإشارة وغیرهما . فحال الجمل الخبریة‏‎ ‎‏المستعملة فی مقام البعث والإغراء حال هیئة الأمر وإشارة الأخرس فی إفادة‏‎ ‎‏الوجوب . وهذا ممّا لا کلام فیه .‏

‏وإنّما الکلام : فی کیفیة دلالتها علی الطلب والوجوب :‏

فقال المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ : إنّه ذکر لتشخیص کیفیة دلالة الجمل الخبریة علی‏‎ ‎‏الطلب وجوه :‏

الأوّل :‏ ما یظهر من کلمات القدماء من أنّها قد استعملت فی الطلب مجازاً .‏

‏فردّه : بأنّ الوجدان حاکم بعدم عنایة فی استعمالها حین دلالتها علی الطلب ، بل‏‎ ‎‏لا فرق بین نحو استعمالها حین الإخبار بها ونحو استعمالها حین إفادة الطلب بها‏‎[7]‎‏ ،‏‎ ‎‏انتهی .‏

ولکن فیما أفاده نظر ؛‏ وذلک لأنّ مراد القدماء بالمجاز أنّ هیئة الجملة الخبریة‏‎ ‎‏استعملت فی المعنی الإنشائی ؛ بأن یکون معنیٰ «تغتسل» مثلاً «اغتسل» .‏

‏فالکلام فیه هو الکلام فی باب المجاز من أنّه لم یکن کذلک . وإن أرادوا : أنّها‏‎ ‎‏استعملت فی معناها ، لکن بداعی الإنشاء فلا غبار علیه ، فلاحظ ما ذکرناه فی‏‎ ‎‏الاستعمالات المجازیة .‏

ثمّ ذکر ‏قدس سره‏‏ الوجه الثانی‏‎[8]‎‏ ، وأشار إلیٰ ضعفه .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 156
ثمّ ذکـر وجهاً ثالثاً واختاره ، وحاصلـه : ‏أنّ الجمل الخبـریـة الفعلیة ،‏‎ ‎‏کـ «بعت» و«یغتسل» تستعمل دائماً ـ سواء قصد بها حکایتها عن وقـوع شیء فـی‏‎ ‎‏الخارج ، أم قصـد بها إنشاء أمرٍ ما ـ فـی إیقاع النسبة بین الفاعل المسند إلیه ذلک‏‎ ‎‏الحـدث ، وبین مادّة ذلک الفعل .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 157
‏غایة الأمر : الداعی إلی إیقاع النسبـة المذکورة إن کـان هو الکشف عن‏‎ ‎‏وقوعها فی الخارج کانت الجملة خبریة محضة ، وإن کان الداعی إلی إیقاع النسبة هو‏‎ ‎‏التوسّل والتسبّب إلیٰ وقوعها فی الخارج کانت الجملة خبریة قائمة مقام الجملة‏‎ ‎‏الإنشائیة فی إفادتها الطلب ؛ لدلالته بالملازمة علیٰ طلب المخبر للفعل الذی أخبر‏‎ ‎‏بوقوعه‏‎[9]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّ ظاهر کلامه ، بل صریحه یعطی بأنّ الجمل الخبریة لم توضع للإخبار‏‎ ‎‏والحکایة ، بل وضعت لإیقاع النسبة بین الفاعل ومادّة الفعل .‏

‏مع أنّ الوجدان أصدق حاکم بخلافه ؛ ضرورة أنّه إذا کانت الجملة الخبریة‏‎ ‎‏موضوعة لإیقاع النسبة لصحّ أن یقال فی تفسیر «یضرب زید» مثلاً : اُوقعت النسبة‏‎ ‎‏بین مادّة «ضرب» و«زید» ، مع أنّه کما تریٰ . بل معناه الإخبار عن وقوع الضرب من‏‎ ‎‏زید ؛ ولذا یصحّ التعبیر عنه بالجملة الاسمیة ؛ فیقال : «زید ضارب غداً» .‏

‏نعم ، فی الجمل الخبریة المستعملة فی مقام البعث والإغراء توضع النسبة بتلک‏‎ ‎‏الجملة ، وکم فرق بین ذلک وبین کون الجملة معناها ذلک ، کما لا یخفیٰ ! هذا أوّلاً .‏

وثانیاً :‏ سلّمنا کون مفاد تلک الجمل إیقاع النسبة وتلک من دواعیها ، لکن‏‎ ‎‏کیف صحّ أن یقال : إنّها خبریة قائمة مقام الجملة الإنشائیة ؟ ! لأنّ داعی کشفها عن‏‎ ‎‏وقوعها فی الخارج وداعی التسبّب إلیٰ وقوعها فی الخارج خارجان عن حریم‏‎ ‎‏الموضوع له ؛ فوجودهما کعدمهما .‏

‏فعلی هذا : لابدّ وأن تکون تلک الجمل لا خبریة ولا إنشائیة ، وهو کما تریٰ .‏

وثالثاً :‏ أنّ المقام مقام إثبات کیفیـة دلالـة تلک الجمل علی الطلب ، لا أصل‏‎ ‎‏استعمالها فیه ؛ ضـرورة أنّ استعمال تلک الجمـل فـی ذلک ـ کما أشـرنا ـ أمـر معلـوم‏‎ ‎‏لا سترة فیه .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 158
‏فإذن : لم یتحصّل من کلامه ‏‏قدس سره‏‏ إلاّ أنّ الجمل الخبریة استعملت فی الإنشائیة ،‏‎ ‎‏وهو عین الدعویٰ .‏

‏والذی ینبغی أن یقال فی الجمل الخبریة المستعملة فی مقام البعث والإغراء ،‏‎ ‎‏ویساعده الذوق السلیم والارتکاز العرفی ـ الذی هو الدلیل الوحید فی أمثال هذه‏‎ ‎‏الاُمور ـ إنّ هیئة الجملة الخبریة الفعلیة وضعت للحکایة عن وقوع النسبة ولحوقها ،‏‎ ‎‏فبعد حکایتها عن ذلک تارة یرید استقرار ذهن السامع علیه ، ولعلّه الغالب فی‏‎ ‎‏استعمال تلک الجمل ، فتکون إخباراً عن الواقع .‏

‏واُخریٰ یخبر عن الواقع ، ولکن مشفوعاً بادّعاء الوقوع . فعلیٰ هذا استعملت‏‎ ‎‏الجملة الخبریة فی معناها الإخباری ، لکن لأجل تحریک المخاطب نحو الواقع .‏

‏فإذن : الجمل الخبریة المستعملة فی مقام الإنشاء مجاز بالمعنی الذی ذکرناه فی‏‎ ‎‏محلّه ، والطلب بهذا اللسان أبلغ من الطلب بهیئة الأمر ، کما لا یخفیٰ .‏

‏ألا تریٰ : أنّک إذا أردت تحریک ابنک إلیٰ إتیان فعل یحفظ مقامک فقلت له : ابنی‏‎ ‎‏لا یفعل ذلک ، أو ابنی یحفظ مقام أبیه ، فتریٰ أنّه أبلغ وأوفیٰ من قولک له : افعل کذا .‏

‏وبالجملة : قولک لابنک : ابنی یصلّی ـ مثلاً ـ فی مقام البعث والإغراء لا ترید‏‎ ‎‏منها إلاّ أمرک ابنک بالصلاة ، لکن بلسان الإخبار عن وقوعها وصدورها منه وعدم‏‎ ‎‏قابلیتها للترک ؛ فکأنّک أوکلت إتیانها إلیٰ عقله وتمییزه ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 159

  • )) البقرة (2) : 233 .
  • )) البقرة (2) : 228 .
  • )) وسائل الشیعة 4 : 970 ، کتاب الصلاة ، أبواب السجود ، الباب14 ، الحدیث7 .
  • )) وسائل الشیعة 2 : 1064 ، کتاب الطهارة ، أبواب النجاسات ، الباب42 ، الحدیث5 .
  • )) وسائل الشیعة 1 : 518 ، کتاب الطهارة ، أبواب الجنابة ، الباب36 ، الحدیث8 .
  • )) نفس المصدر ، الحدیث6 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 215 .
  • )) قلت : وإلیک حاصل ما ذکره فی الوجه الثانی ، وهو : أنّه کما أنّ کثیراً ما یخبر العقلاء بوقوع بعض الاُمور فی المستقبل ؛ لعلمهم بتحقّق مقتضیه ـ إمّا للغفلة عن مانعه ، أو لعدم اعتنائهم به ؛ لندرة وجوده ـ کإخبار بعض المنجّمین بحدوث بعض الحوادث فی المستقبل .     فیمکن أن یقال : إنّ من له الأمر حیث یعلم أنّ من مقتضیات وقوع فعل المکلّف فی الخارج وتحقّقه هو طلبه وإرادته ذلک منه ، فإذا علم بإرادته ذلک الفعل وطلبه من المکلّف فقد علم بتحقّق مقتضیه ، وصحّ منه أن یخبر بوقوع ذلک الفعل تعویلاً علی تحقّق مقتضیه .     وبما أنّ سامع هذا الخبر یعلم : أنّ المخبر لیس بصدد الإخبار بوقوع الفعل من المکلّف فی المستقبل ، بل بداعی الکشف عن تحقّق مقتضی وقوعه ـ أعنی إرادة من له الأمر وطلبه منه ـ یکشف ذلک الخبر بتلک الجملة عن تحقّق إرادة المولیٰ وطلبه لذلک الفعل من المکلّف .     فردّه أوّلاً : بأنّ إخبار المنجّم بوقوع بعض الحوادث فی المستقبل إنّما یکون بداعی الکشف عن تحقّقه فی المستقبل ؛ اعتماداً منه علیٰ تحقّق علّته ، لا أنّه یخبر بذلک بداعی الکشف عن تحقّق مقتضیه من باب الإخبار عن وجود أحد المتلازمین بالإخبار عن الآخر ؛ لیکون کنایة .     ولا ریب فی أنّ من یرید وقوع فعلٍ ما من الآخر فی المستقبل لا یخبر به بداعی الکشف عن وقوعه فی المستقبل ، بل بداعی الکشف عن إرادته ذلک الفعل منه .     وبذلک یکون الإخبار بالوقوع کنایة عن طلب المخبر وإرادته لوقوع الفعل من المخاطب . وعلی هذا : لا یکون وقع للمقدّمة التی قدّمها ، ولا ربط لها بهذا الوجه .     وثانیاً : لو أغضینا عن ذلک لما صحّ الإخبار بوقوع الفعل ؛ لعلم المخبر بتحقّق مقتضیه ؛ لأنّ مقتضی الفعل هی إرادة المولیٰ ذلک الفعل من المکلّف ، وهی لا تکون مقتضیة لوقوعه وصدوره من المکلّف وداعیاً إلیه إلاّ فی حال علمه بها ، لا بوجوده الواقعی محضاً . وعلمه بها متوقّف علی الإخبار بوقوع الفعل .     وعلیه یلزم الدور ؛ لأنّ الإخبار بوقوع الفعل متوقّف علیٰ تحقّق مقتضیه فی الخارج ، وتحقّق مقتضیه متوقّف علی الإخبار بوقوعه .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 216 .