المقصد الأوّل فی الأوامر

منشأ ظهور الصیغة فی الوجوب

منشأ ظهور الصیغة فی الوجوب 

‏ ‏

‏إذا تمهّد لک ما ذکرنا : فیقع الکلام فی أنّه هل وضعت صیغة الأمر وهیئته‏‎ ‎‏للإغراء والبعث اللزومی ، أو بانصرافها إلیه ، أو لا هذا ولا ذاک ، بل لکشفها عن ذلک ؛‏‎ ‎‏کشفاً عقلائیاً نظیر سائر الأمارات العقلائیة ، أو لکون ذلک بمقدّمات الحکمة ، أو لیس‏‎ ‎‏لشیء من ذلک ، بل من جهة أنّ بعث المولیٰ حجّة علی العبد بحکم العقل والعقلاء ، ولا‏‎ ‎‏عذر للعبد فی ترکه لو طابق الواقع ؟ وجوه .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 140
لا وجه للقول : بوضع هیئة الأمر للبعث الوجوبی‏ بأیّ معنیً فرض وذلک لأنّه :‏

إمّا یراد :‏ أنّها موضوعة له بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ؛ فنقول : إنّ‏‎ ‎‏الوضع کذلک وإن کان ممکناً ، کما سبق منّا فی وضع الحروف ؛ بأنّه وإن لا یمکن تصویر‏‎ ‎‏جامع حقیقی بین معانی الحروف برمّتها ؛ لأنّ الجامع الحرفی لابدّ وأن یکون ربطاً‏‎ ‎‏بالحمل الشائع ، وإلاّ یصیر جامعاً اسمیاً ، والربط الکذائی أمر شخصی  لا یقبل‏‎ ‎‏الجامعیة ، إلاّ أنّه یمکن تصویر جامع اسمی عرضی .‏

‏فعلی هذا : وإن یمکن تصویر جامع عرضی بین أفراد البعوث الناشئة عن‏‎ ‎‏الإرادات الجدّیة ، ثمّ وضع الهیئة بإزاء مصادیقه .‏

‏ولکنّه خلاف التبادر ؛ لأنّ المتبادر من هیئة الأمر ـ کما تقدّم ـ هو الإغراء‏‎ ‎‏بالحمل الشائع ، نظیر إشارة الأخرس ؛ فکما لا یستعمل إشارة الأخرس فی المعنی‏‎ ‎‏الکلّی ، ویکون المتبادر منها الإغراء بالحمل الشائع ، فکذلک المتبادر من هیئة الأمر‏‎ ‎‏البعث والإغراء بالحمل الشائع .‏

‏فعلی هذا : لا معنیٰ لتقیید البعث بالوجوب ؛ فإنّ التقیید إنّما یتصوّر فیما إذا‏‎ ‎‏تصوّر أمراً مطلقاً . ففیما یکون الشیء آلة لإیجاد أمر خارجی فلا معنیٰ لتقییده بعد‏‎ ‎‏إیجاده . نعم یمکن أن یوجد أمراً مقیّداً .‏

‏وبالجملة : لو کانت هیئة الأمر بعثاً بالحمل الشائع فلا یکون قابلاً للتقیید‏‎ ‎‏بالإرادة الحتمیة أو بالوجوب ؛ لعدم تقیید المصداق الخارجی والوجود الکذائی‏‎ ‎‏بالمفهوم والعنوان .‏

‏وبعبارة اُخری : القابل للتقیید هو العناوین والمفاهیم الکلّیة لا المصادیق‏‎ ‎‏والموجودات الخارجیة ، فتدبّر .‏

وإمّا یراد :‏ بأنّ الموضوع البعثُ المتقیّد بالإرادة الواقعیة الحتمیة .‏

‏ففیه أیضاً إشکال ؛ لأنّ الإرادة من مبادئ البعث ، والبعث متأخّر عنها ، بل‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 141
‏الإرادة بمنزلة العلّة للبعث ؛ فلا یعقل أن یتقیّد البعث المتأخّر ذاتاً بما یکون متقدّماً‏‎ ‎‏علیه برتبة أو رتبتین .‏

‏وبالجملة : لا یعقل تقیید المعلول بعلّتـه ، فضلاً عـن علّة علّتـه ، أو کعلّتـه فـی‏‎ ‎‏التقدّم ؛ للزوم کون المتأخّر متقدّماً أو بالعکس .‏

‏مضافاً إلی أنّه ـ کما أشرنا آنفاً ـ لا معنی لتقیید الموجود الخارجی بما هو‏‎ ‎‏موجود بالمفهوم ، وما یقبل التقیید هو المفهوم . نعم یمکن أن یوجد الشیء مقیّداً ، وهو‏‎ ‎‏غیر ما نحن بصدده ، هذا .‏

‏ولکنّه یمکن أن یتصوّر بنحو لا یکون فیه إشکال ثبوتی ، ولکنّه خلاف‏‎ ‎‏التبادر ؛ وذلک لأنّ الإنسان قد یرید شیئاً بإرادة قویة ؛ بحیث یصحّ انتزاع الوجوب‏‎ ‎‏منه . وقد یریده بإرادة ضعیفة یصحّ انتزاع الاستحباب منه .‏

‏فالأوامر فی متن الواقع علیٰ قسمین : إمّا من إرادة قویة وجوبیة ، أو من إرادة‏‎ ‎‏ضعیفة استحبابیة .‏

‏فللواضع تصوّر قسم منه ؛ وهو الصادر من إرادة وجوبیة : إمّا بالنحو الکلّی‏‎ ‎‏فیضع الهیئة لکلّ ما یکون مثلاً له حتّیٰ یکون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً .‏

‏کما له تصوّر قسم آخر منه ؛ وهو خصوص الصادر من إرادة وجوبیة ویعطف‏‎ ‎‏غیره علیه ، حتّیٰ یکون الوضع والموضوع خاصّین .‏

‏وبالجملة : الإرادة حیث تکون بحسب التکوین والتشریع علیٰ قسمین فللأمر‏‎ ‎‏الصادر من الإرادة القویة ـ التی لا یرضیٰ بترکها ـ تحصّلٌ ، غیر ما یکون متحصّلاً عمّا‏‎ ‎‏یصدر عن إرادة غیر قویة .‏

‏فیمکن وضـع هیئة الأمـر لخصوص قسم منه ؛ إمّا بنحو الوضـع العامّ‏‎ ‎‏والموضـوع له الخاصّ ، أو بنحو الوضـع والموضـوع له الخاصّین ، فلا یکون فـی‏‎ ‎‏المسألة محذور ثبوتی .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 142
‏ولکنّه ـ کما أشرنا ـ خلاف التبادر والمتفاهم العرفی ؛ ضرورة أنّ المتفاهم من‏‎ ‎‏هیئة الأمر لیس إلاّ البعث والإغراء ، کإشارة المشیر لإغراء غیره ، وکإغراء الجوارح‏‎ ‎‏من الطیور وغیرها . فکأنّ لفظة هیئة الأمر قائمة مقام الإشارة وذلک الإغراء ، فتدبّر .‏

‏إذا أحطت خبراً بما ذکرنا : تعرف النظر فیما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ ؛ من‏‎ ‎‏تبادر الوجوب من استعمال صیغة الأمر مع قوله بوضعها للوجوب‏‎[1]‎‏ ؛ لما أشرنا من‏‎ ‎‏عدم إمکان ادّعائه ثبوتاً ، فکیف یدّعی التبادر فی مقام الإثبات ؟ ! فتدبّر .‏

‏هذا کلّه بالنسبة إلیٰ وضع صیغة الأمر للوجوب .‏

وأمّا القول بکون صیغة الأمر موضوعة لمطلق الطلب أو البعث‏ ، لکنّه‏‎ ‎‏ینصـرف إلـی الطلب والبعث الوجـوبی ، ولعلّ هـذا أحـد محتملات کـلام صاحب‏‎ ‎‏«الفصول» ‏‏قدس سره‏‎[2]‎‏ .‏

ففیه أوّلاً :‏ أنّ دعوی الانصراف بمعناه المعروف إنّما یمکن لو کان الموضوع له‏‎ ‎‏الطلب الکلّی ، وأمّا لو کان الموضوع له الطلب بالحمل الشائع فلا یمکن دعواه ، ولعلّه‏‎ ‎‏أوضح من أن یخفیٰ ، فتدبّر .‏

وثانیاً :‏ أنّه لو سلّم إمکان دعوی الانصراف فلابدّ وأن یکون فی مورد یکثر‏‎ ‎‏استعماله فیه ؛ بحیث یوجب اُنس الذهن به ؛ بحیث یوجب انقلاب الذهن وتوجّهه إلیه‏‎ ‎‏متی انقدح فی ذهنه ذلک اللفظ ، ویکون المعنی مغفولاً عنه ومهجوراً .‏

‏وواضح : أنّ هذا المعنیٰ مفقود فیما نحن فیه ؛ لکثرة استعمال صیغة الأمر فی‏‎ ‎‏الطلب الندبی أیضاً ، کاستعمالها فی الطلب الوجوبی ؛ فلا وجه لدعوی الانصراف إلی‏‎ ‎‏الطلب الوجوبی .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 143
‏بل کما صرّح صاحب «المعالم» ‏‏قدس سره‏‏ : أنّ استعمال صیغة الأمر فی الاستحباب‏‎ ‎‏أکثر منه فی الوجوب‏‎[3]‎‏ ، فکان ینبغی انصرافها إلی الطلب الندبی .‏

‏إلاّ أن یقال : إنّ أکثریة استعمالها فی الاستحباب إنّما هو فی الأوامر‏‎ ‎‏الشرعیـة . وأمّا فی الأوامر العرفیة فلا یبعد دعویٰ أکثریة استعمالها فی الوجوب ولعلّه‏‎ ‎‏مراد القائل به .‏

‏ولکن ذلک لا یثبت الانصراف ، بل لا معنیٰ له بعد معهودیة استعمالها ، بل‏‎ ‎‏أکثریتها فی الأوامر الشرعیة ، فتدبّر .‏

‏ومن هنا یظهر الخلل فی القول بکون صیغة الأمر منصرفة إلی البعث الناشئ‏‎ ‎‏من الإرادة الحتمیة ـ وهو الوجوب ـ لما أشرنا أنّ منشأ الانصراف لابدّ وأن یکون‏‎ ‎‏لاُنس الذهن الحاصل من کثرة الاستعمال فیه ؛ بحیث یوجب انصراف الذهن عن‏‎ ‎‏غیره ؛ بحیث یکون احتماله عقلیاً لا عقلائیاً .‏

‏وقـد أشرنا آنفاً : أنّ استعمال صیغـة الأمر فـی الاستحباب لـو لم یکن أکثر‏‎ ‎‏منه فـی الوجـوب یکون فی رتبـة استعمالها فی الوجـوب ؛ فلا معنیٰ لـدعوی‏‎ ‎‏انصرافها إلی الوجوب .‏

‏ولو أراد مدّعی الانصراف : أکملیة البعث الناشئ من الإرادة الحتمیة من غیره‏‎ ‎‏من أفراد البعث ، فینصرف الذهن إلیه عند إطلاق الصیغة .‏

‏ففیه : أنّ مجـرّد الأکملیة لا تصلح لذلک ، ولا یوجب الانصراف ، ولعلّه‏‎ ‎‏أوضـح من أن یخفیٰ .‏

وأمّا القول بأنّ منشأ ظهور الصیغة فی الوجوب مقدّمات الحکمة‏ فهو مختار‏‎ ‎‏المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ ، وقد قرّبه بتقریبین ، وذکر التقریبین فی کلّ من مادّة الأمر وصیغته ،‏‎ ‎‏لکن مع تفاوت بینهما :‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 144
التقریب الأوّل : 

‏أمّا‏‏ جریان مقدّمات الحکمة فی استفادة الوجوب من مادّة الأمر .‏

‏فحاصله : أنّ مادّة الأمر وإن کانت موضوعة للجامع ومطلق الطلب ـ بشهادة‏‎ ‎‏التبادر وغیره ـ إلاّ أنّ جریان مقدّمات الحکمة فی الطلب الإلزامی أخفّ من جریانها‏‎ ‎‏فی الطلب غیر الإلزامی .‏

‏فلو کان المتکلّم فی مقام البیان فإذا ألقت مادّة الأمر بدون القید فینقدح فی‏‎ ‎‏الذهن ما یکون أخفّ مؤونة ؛ وهو الطلب الإلزامی .‏

‏أمّا کـون الإرادة الإلزامی أخفّ ؛ فلأنّ امتیازها عـن الإرادة الندبیة بالشـدّة ؛‏‎ ‎‏فیکون ما به الامتیاز عین ما به الاشتراک . بخلاف الإرادة الندبیة فإنّما تفترق عـن‏‎ ‎‏الوجـوبیة بالضعف ، فکأنّه طلب وإرادة ناقصـة ؛ فما به الامتیاز غیر ما به‏‎ ‎‏الاشتـراک . فإرادة الضعیفة محتاجة إلیٰ بیان زائد ، ففی صورة إطلاق الأمر یحمل علی‏‎ ‎‏الإرادة القویة .‏

وأمّا ‏جریان مقدّمات الحکمة فی صیغة الأمر : فقد یشکل جریانها من جهة أنّ‏‎ ‎‏مفهوم الصیغة هو البعث الملحوظ نسبة بین الذات ـ أعنی به المبعوث ـ وبین المبعوث‏‎ ‎‏إلیه ـ أعنی به المادّة ـ والبعث المزبور لا یقبل الشدّة والضعف ؛ لکونه فی الأمر‏‎ ‎‏الوجوبی مثله فی الأمر الندبی ، فلا إطلاق ولا تقیید ؛ فلا تجری مقدّمات الحکمة من‏‎ ‎‏هذه الجهة . وکذا فی الإرادة ؛ لکونها أمراً شخصیاً جزئیاً لا یتصوّر فیه الإطلاق‏‎ ‎‏والتقیید لیتوسّل بمقدّمات الحکمة إلیٰ بیان ما اُرید منهما فیها .‏

‏وتوهّم : أنّ الأمـر بلحاظ المفهوم وإن لم یکن موضـوعاً للإطلاق والتقیید‏‎ ‎‏لکنّه بلحاظ الأحوال یکون موضـوعاً لها ، ویمکن أن تکـون الشدّة والضعف‏‎ ‎‏المتواردین علـی الإرادة الخارجیـة مـن أحوالها وطواریها ؛ فتکـون باعتبارهما‏‎ ‎‏مجـریٰ مقـدّمات الحکمة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 145
‏مدفوع : بأنّ الشدّة والضعف لیستا من أطوار الإرادة بعد وجودها ، بل هما من‏‎ ‎‏مشخّصات وجودها ؛ لأنّها إذا وجدت فإمّا شدیدة أو ضعیفة .‏

‏ولکن التحقیق فی حلّ الإشکال : هو أن یقال بجریان مقدّمات الحکمة بنحو‏‎ ‎‏آخر ؛ وذلک لأنّ مقدّمات الحکمة کما یجری فی مفهوم الکلام ؛ لتشخّصه من حیث‏‎ ‎‏سعته وضیقه ، کذلک تجری فی تشخیص الفرد الخاصّ فیما لو اُرید بالکلام فرداً‏‎ ‎‏مشخّصاً ، ولم یکن فیه ما یدلّ علیٰ ذلک بخصوصه ، وکان أحدهما یستدعی مؤونة فی‏‎ ‎‏البیان أکثر من الآخر .‏

‏وذلک مثل الإرادة الوجوبیة والندبیة ؛ فإنّ افتراق الاُولیٰ عن الثانیة بالشدّة ؛‏‎ ‎‏فیکون ما به الامتیاز عین ما به الاشتراک . وأمّا افتراق الإرادة الندبیة عن الوجوبیة‏‎ ‎‏إنّما هی بالضعف ؛ فما به الامتیاز فیها غیر ما به الاشتراک .‏

‏فالإرادة الوجوبیة مطلقة من حیث الوجود الذی به الوجوب ، بخلاف الإرادة‏‎ ‎‏الندبیة فإنّها محدودة بحدّ خاصّ . فالإرادة الندبیة محتاجة إلیٰ دالّین ، بخلاف الإرادة‏‎ ‎‏الوجوبیة‏‎[4]‎‏ ، انتهی محرّراً .‏

وفیه أوّلاً :‏ أنّه سبق الکلام علی المادّة ، وأنّ البحث فیها فی مادّة «أ م ر»‏‎ ‎‏الموجودة فی «أمر یأمر آمر» وهکذا ، لا فی الأمر بالصیغة ، فالبحث غیر مربوط‏‎ ‎‏بجریان مقدّمات الحکمة ، وقد أشرنا أنّ ذلک منه عجیب ، فراجع‏‎[5]‎‏ .‏

وثانیاً :‏ لـو سلّم جـریان مقـدّمات الحکمـة فمقتضاها هـی کـون صیغـة‏‎ ‎‏الأمـر والطلب الجامـع بین الوجـوب والندب مطلوباً ، لا الطلب الوجـوبی ؛ لأنّه‏‎ ‎‏محتاج إلیٰ بیان زائد ، کما لایخفـیٰ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 146
وثالثاً :‏ أنّ قولـه ‏‏قدس سره‏‏ : إنّ الإرادة الوجوبیـة حیث لا حـدّ لها لا یحتاج إلی‏‎ ‎‏البیان ، بخـلاف الإرادة الندبیـة فإنّها محتاجـة إلی البیان ؛ فلو اُطلـق یُحمل علی‏‎ ‎‏الإرادة الوجوبیة .‏

‏غیر سدید ؛ لأنّه إمّا یریٰ أنّ بین المقسم والقسم فرقاً فی عالم القسمة ، أم لا ؟‏‎ ‎‏وبعبارة اُخریٰ : هل یریٰ بین أصل الإرادة والإرادة الوجوبیة فی لحاظ التقسیم ـ وإن‏‎ ‎‏کانت متّحدة فی الخارج ـ فرق أم لا ؟‏

‏ومن الواضح : أنّه لا سبیل له إلی القول بعدم الفرق ، وإلاّ لا معنیٰ للتقسیم ؛‏‎ ‎‏لاتّحاد القسم مع مقسمه ، وإن کان بینهما فرق ـ کما هو کذلک ـ فعلیٰ زعمه لو تمّت‏‎ ‎‏مقدّمات الحکمة فمقتضاها وجود الإرادة بنفسها ، وأمّا کونها وجوبیة أو ندبیة فلا .‏

‏وإن کان بعدما ذکرنا فی نفسک ریب فلاحظ الوجود الذی اُنیط به الأشیاء ،‏‎ ‎‏فتریٰ أنّه فی مقام التقسیم یقسم الوجود إلی الواجب والممکن ، وإن کان فی الخارج‏‎ ‎‏متّحداً مع أحدهما .‏

‏ولابدّ وأن یکون بین نفس الوجود ، والوجود الواجب والوجود الممکن فرق ،‏‎ ‎‏کما یکون بین الأخیرین فرق . وإلاّ لو لم یکن بینهما فرق فی مقام التقسیم یلزم تقسیم‏‎ ‎‏الشیء إلی نفسه وغیره ، وهو فاسد .‏

‏فالوجود الجامع غیر وجود الواجب ووجود الممکن ، ولا ینطبق الجامع بما هو‏‎ ‎‏جامع إلاّ علی أحدهما ، لا خصوص الواجب منهما .‏

‏فإذن نقول : نفس الإرادة لا وجوبیـة ولا ندبیـة ؛ ولـذا تکون وجوبیـة تارة‏‎ ‎‏وندبیـة اُخـریٰ ، فنفس الجامـع لا یحتاج إلی البیان . وأمّا الإرادة الوجوبیـة أو‏‎ ‎‏الندبیة فمحتاجـة إلی البیان ، ومقدّمات الحکمـة لو جـرت فمقتضاها إثبات الجامـع‏‎ ‎‏بین الإرادتین ، لا خصوص الإرادة الوجوبیـة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 147
ورابعاً :‏ نقطع بعدم وجود الجامع بین الإرادتین فی متن الواقع ؛ لأنّ ما فیه إمّا‏‎ ‎‏إرادة وجوبیة أو إرادة ندبیة ؛ بداهة أنّ صیغة الأمر بعث وإغراء خارجی ، نظیر إشارة‏‎ ‎‏الأخرس ، فهو إمّا بعث وجوبی أو ندبی ، ولا معنیٰ لوجود الجامع بین الإرادتین ،‏‎ ‎‏والجامع إنّما هو فی الماهیات والمفاهیم .‏

‏فعلیٰ هـذا : تسقط مقـدّمات الحکمـة ؛ لأنّ مقتضاها أمر نقطـع بعدمـه فـی‏‎ ‎‏الخارج .‏

وخامساً :‏ أنّه یتوجّه علیه إشکال آخـر ، ولعلّه عبارة اُخـریٰ عمّا ذکـرنا ،‏‎ ‎‏حاصلـه : أنّه لـو سلّم أنّ ما به الامتیاز فـی الإرادة الوجوبیـة عین ما بـه الاشتراک‏‎ ‎‏ـ بخـلاف الإرادة الندبیـة ؛ فإنّها غیره ـ فإنّما هـو فی الواقـع ونفس الأمـر ، ولکـن لا‏‎ ‎‏یوجب ذلک عـدم احتیاج إفهام الإرادة الوجوبیـة إلی البیان فـی مقام المعرّفیـة ، بل‏‎ ‎‏کلّ منهما فـی مقام المعرّفیـة یحتاج إلی البیان . ألا تـری أنّه تعالیٰ وجـود صـرف لا‏‎ ‎‏یشوبه نقص أصلاً ، وغیره تعالی وجود ناقص ، ومع ذلک إذا اُرید بیان أحدهما‏‎ ‎‏فیحتاج إلی البیان ، فتدبّر .‏

وسادساً :‏ أنّ قوله : إنّ ما به الامتیاز فی الإرادة الوجوبیة عین ما به الاشتراک‏‎ ‎‏دون الإرادة الندبیة ، لا یرجع إلیٰ محصّل ؛ لأنّ مورد قولهم بعینیة ما به الامتیاز مع ما‏‎ ‎‏بـه الاشتراک إنّما هـو فیما لم یکن هناک ترکّب ، وفـی الحقائـق کالنور ، فکما أنّ امتیاز‏‎ ‎‏النور القـوی عـن النور الضعیف بنفس ذاتـه ، فکذلک امتیاز نـور الضعیف عن‏‎ ‎‏النـور القوی بنفس ذاته ؛ فالنور ـ مثلاً ـ موجود وحقیقة ذات مراتب تمتاز کلّ مرتبة‏‎ ‎‏منه عن المرتبة الاُخریٰ .‏

‏فعلی هذا : لو کان ما به الامتیاز فی الإرادة الوجوبیة عین ما به الاشتراک‏‎ ‎‏فلیکن کذلک فی الإرادة الندبیة ، فلا وجه للتفصیل ، فتدبّر واغتنم .‏

‏هذا کلّه فی تقریبه الأوّل .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148
التقریب الثانی :

‏ولیعلم : أنّ ما قرّره مقرّره ـ دام بقاءه ـ غیر ما ذکره المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ فی‏‎ ‎‏«مقالاته» ، وإن کان قریباً منه :‏

أمّا ما ذکر فی تقریر بحثه فحاصله :‏ أنّ کلّ أحد إذا طلب من غیره أمراً فغرضه‏‎ ‎‏هو حصوله فی الخارج وتحقّقه ، فلابدّ وأن یکون طلبه إیّاه فی حدّ ذاته لا قصور فیه‏‎ ‎‏فی مقام التوسّل إلی إیجاده .‏

‏ولیس ذلک إلاّ الطلب الإلزامی الموجب فعله الثواب وترکه استحقاق العقاب .‏‎ ‎‏وأمّا الطلب الاستحبابی فلا یصلح لذلک ، وإنّما یصلح مجرّد الثواب لفعله .‏

‏ولو کان هناک ما یقتضی قصوره عن التأثیر التامّ فی وجود المطلوب ـ ولو‏‎ ‎‏لقصور المصلحة أو لمانع یوجب قصورها عرضاً ـ لوجب علیه أن یطلبه بتلک المرتبة ؛‏‎ ‎‏فإن أشار إلیها فی مقام البیان فهو ، وإلاّ فقد أخلّ فی بیان ما یحصل به غرضه .‏

‏فعلیه : یکون إطلاق الأمر دلیلاً علیٰ طلبه الذی یتوسّل به الطالب إلی إیجاد‏‎ ‎‏مطلوبه بلا تسامح فیه ، ولیس هو إلاّ الطلب الوجوبی‏‎[6]‎‏ .‏

وأمّا الذی ذکره المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ فـی «المقالات»‏‏ فهـو أسلم ممّا ذکـر فی‏‎ ‎‏تقـریر بحثـه ؛ لأنّه قال : یکفـی لإثبات الوجـوب ظهـور إطلاقـه فی کونـه فـی‏‎ ‎‏مقام حفظ المطلـوب ، ولـو بکونه حافظاً لمبادئ اختیاره من جهـة إحداثه الـداعی‏‎ ‎‏علـیٰ الفـرار مـن العقاب أیضاً ، بخـلاف الاستحبابی فإنّه لمحض إحداث الـداعی‏‎ ‎‏علیٰ تحصّل الثـواب ؛ فلا یوجب مثلـه حفظ مبادئ اختیار العبـد للإیجاد بمقـدار ما‏‎ ‎‏یقتضیـه الطلب الوجـوبی ؛ ولـذا یکون فـی مقام حفظ الوجـود أنقص ، فإطـلاق‏‎ ‎‏الحافظیة یقتضی حمله علیٰ ما یکون حافظیته أشمل‏‎[7]‎‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149
أقول : وفی کلا التقریبین إشکال‏ ، وإن کان فیما ذکره المقرّر ـ دام بقاءه ـ‏‎ ‎‏إشکالات ؛ وذلک لأنّه :‏

‏إن أراد بقوله : «إنّه لا ریب أنّ کلّ طالب أمراً من غیره فإنّما یأمره به لأجل‏‎ ‎‏إیجاده فی الخارج» التحقّق والوجود الحتمی فی الخارج .‏

‏ففیه : أنّه لیس کذلک ؛ بداهة أنّ الأوامر الصادرة من الموالی علی صنفین :‏

‏1 ـ أوامر وجوبیة .‏

‏2 ـ أوامر ندبیة ؛ فانتقض کلّیة قوله : «إنّ کلّ طالب من غیره یرید تحقّق‏‎ ‎‏مطلوبه علیٰ سبیل التحتّم» .‏

‏مضافاً إلی أنّ کلامه لا یخلو عن مصادرة ؛ لأنّ النزاع إنّما هو فی ذلک ، ولو‏‎ ‎‏علمنا ذلک لما کان للنزاع موقف .‏

‏وإن أراد بذلک : إیجاد مطلوبه بالأعمّ من الحتم وغیره فکلام لا غبار علیه ؛‏‎ ‎‏فتکون مفاد هذه المقدّمة : أنّ من یأمر غیره یرید تحقّق مطلوبه فی الخارج بالأعمّ من‏‎ ‎‏الوجوبی والندبی ، ومقتضاه : أنّ أوامر المولی قسمین : فبعضها لزومی وبعضها ندبی .‏

‏ولکن لا تتمّ قوله فی المقدّمة الثانیة : لابدّ وأن یکون طلبه إیّاه فی حدّ ذاته لا‏‎ ‎‏قصور فیه فی مقام التوسّل إلی إیجاده فی الخارج ، وهو واضح .‏

‏مضافاً إلیٰ أنّه غیر مربوط بالمقدّمة الاُولی . ولو تمّت المقدّمة الاُولیٰ یتمّ‏‎ ‎‏المطلب ، من دون احتیاج إلیٰ ضمّ هذه المقدّمة إلیها ، فتدبّر .‏

‏وإن أراد بقوله فی المقدّمة الثانیة : إنّ الطلب الوجوبی تامّ لا نقص فیه ، بخلاف‏‎ ‎‏الطلب الاستحبابی فإنّه ضعیف ؛ فیرجع إلی التقریب الأوّل ، فقد عرفت بما لا مزید‏‎ ‎‏علیه ضعفه ، فلا یکون تقریباً آخر .‏

ثمّ إنّ قوله :‏ لو کان هناک ما یقتضی قصوره عن التأثیر التامّ فی وجود‏‎ ‎‏المطلوب . . . إلی قوله : فقد أخلّ فی بیان ما یحصل به غرضه . . . إلی آخره .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150
لا یخلو عن النظر ؛‏ لأنّه یمکن أن یقال : إنّ الأمـر بعکس ما ذکـره ؛ وذلک لأنّ‏‎ ‎‏الآمر الملتفت إلی أنّ الأمـر لمطلق البعث الجامـع بین الوجـوب والندب لـو کان‏‎ ‎‏غـرضه الإلزام فلابدّ لـه البیان ، وإلاّ لأخلّ بغـرضه ، وحیث لم یبیّن فیستکشف‏‎ ‎‏عدمه إنّاً . بخـلاف ما لو لم یکـن غرضه الإلزام ؛ فإنّه لا یحتاج إلی البیان ؛ لأنّ‏‎ ‎‏الإخلال به غیر مضرّ .‏

‏وبالجملة : الأمر دائر بین الوجوب والندب بعد کون الأمر موضوعاً للجامع ،‏‎ ‎‏فلو کان غرضه تحقّقه فی الخارج حتماً فلابدّ له من بیانه ، وإلاّ لأخلّ بغرضه ،‏‎ ‎‏والإخلال بالغرض الإلزامی غیر جائز . وأمّا لو لم یکن غرضه تحقّقه فی الخارج حتماً‏‎ ‎‏فالإخلال به غیر ضائر ، ولا إشکال فیه .‏

‏فظهر : أنّ کلامه لو تمّ فإنّما هو لإثبات الاستحباب أولیٰ من إثبات الوجوب ،‏‎ ‎‏فتدبّر واغتنم .‏

وأمّا ما أفاده فی «المقالات»‏ وإن کان أسلم ممّا ذکر فی «التقریرات» إلاّ أنّه‏‎ ‎‏یتوجّه علیه أنّه :‏

‏إن أراد بالطلب إرادة العبد نحو مطلوبه الأعمّ من الوجوب والاستحباب فهو‏‎ ‎‏وإن کان کذلک إلاّ أنّه لا ینفعه لإثبات الوجوب .‏

‏وإن أراد : أنّ مقتضی إطلاق الطلب حمله علی ما یکون أشمل فهو أوّل الکلام .‏‎ ‎‏ومجرّد الأشملیة لا یوجب صرف الإطلاق إلیها . هذا إذا اُرید بقوله ذلک بیان وجه‏‎ ‎‏مستقلّ لإثبات مقصوده .‏

‏وأمّا إن لم یرد بذلک بیان وجه مستقلّ ، بل أراد تتمیم الوجه الأوّل : فقد أشرنا‏‎ ‎‏أنّ وجه الأوّل غیر تام ، فتدبّر .‏

‏ ‏

‏ ‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 151

ذکر وتعقیب

‏ ‏

ثمّ إنّ شیخناالعلاّمة الحائری ‏قدس سره‏‏ بعدأن قوّی کون صیغة الأمرحقیقة فی الوجوب‏‎ ‎‏والندب بالاشتراک المعنوی ذهب إلی أنّه عند إطلاق الصیغة تحمل علی الوجوب .‏

‏وقال : لعلّ السرّ فی ذلک : أنّ الإرادة المتوجّهة إلی الفعل تقتضی وجوده لیس‏‎ ‎‏إلاّ ، والندب إنّما یأتی من قبل الإذن فی الترک منضمّـاً إلی الإرادة المذکورة فاحتاج‏‎ ‎‏الندب إلی قید زائد . بخلاف الوجوب فإنّه یکفی فیه تحقّق الإرادة وعدم انضمام‏‎ ‎‏الرخصة فی الترک إلیها .‏

‏ثمّ قال : إنّ الحمل علی الوجوب عند الإطلاق غیر محتاج إلیٰ مقدّمات‏‎ ‎‏الحکمة ، بل تحمل علیه عند تجرّد القضیة اللفظیة من القید المذکور ؛ فإنّ العرف‏‎ ‎‏والعقلاء أقویٰ شاهدٍ بعدم صحّة اعتذار العبد عن المخالفة باحتمال الندب وعدم کون‏‎ ‎‏الآمر فی مقام بیان القید الدالّ علی الرخصة فی الترک .‏

‏وهذا نظیر القضایا المسوّرة بلفظ الکلّ وأمثاله ؛ لأنّها موضوعة لبیان عموم‏‎ ‎‏أفراد مدخولها ؛ سواء کان مطلقاً أو مقیّداً‏‎[8]‎‏ .‏

وفیه :‏ أنّه قد أشرنا أنّ لازم القول بالاشتراک المعنوی هو کون الوضع‏‎ ‎‏والموضوع له عامّین ، وقد عرفت : أنّ مفاد الهیئة لیس إلاّ البعث والإغراء ، نظیر‏‎ ‎‏إشارة الأخرس . فالموضوع له  لابدّ وأن یکون خاصّاً لو لم یکن الوضع أیضاً خاصّاً .‏

‏ثمّ إنّ مراده ‏‏قدس سره‏‏ بالإرادة المتوجّهة إلی الفعل الإرادة الواقعیة ؛ لأنّه کان ینکر‏‎ ‎‏الإرادة الاعتباریة والإنشائیة . فإذن نسأل من سماحته : هل واقع الإرادة الوجوبیة‏‎ ‎‏عین الإرادة الندبیة ، أو غیرها ؟‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 152
‏لا مجال للعینیة ؛ بداهة أنّ الإرادة الملزمة غیر الإرادة غیر الملزمة ؛ لعدم إمکان‏‎ ‎‏الترخیص فی الترک فی الإرادة الملزمة ، وإمکانه فی غیر الملزمة . فکلّ منهما منبعثة عن‏‎ ‎‏مبادئ مخصوصة بها .‏

‏وبعبارة اُخریٰ : الإرادة الندبیة مرتبة ضعیفة من الإرادة ، کما أنّ الإرادة‏‎ ‎‏الإلزامیة مرتبة قویة منها ؛ فلا تکون الإرادة فیهما واحدة والاختلاف بأمر خارجی ؛‏‎ ‎‏فهما مختلفتان بالذات فی الرتبة .‏

‏فللإرادة اللزومیة نحو اقتضاء غیر ما تقتضیه الإرادة الندبیة ؛ فلا یلائم إرادة‏‎ ‎‏إحداهما دون الاُخریٰ بمجرّد الإطلاق ، کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .‏

ثمّ إنّ ما أفاده‏ ـ من عدم احتیاج الحمل علی الوجوب إلی مقدّمات الحکمة ،‏‎ ‎‏نظیر القضیة المسوّرة بلفظة «کلّ» ـ قیاس مع الفارق .‏

‏إجماله : ـ وسیوافیک تفصیله فی مباحث المطلق والمقید والعام والخاص ـ أنّ‏‎ ‎‏الألفاظ الدالّة بالوضع علی الاستغراق إذا استعملت فلا محالة یکون المتکلّم بها فی‏‎ ‎‏مقام بیان حکم الأفراد المدخولة لها ؛ فإنّها بمنزلة تکرار الأفراد .‏

‏وبالجملة : القضیة المسوّرة بیان لفظی ، ومتعرّضة لکلّ فردٍ فردٍ بنحو الجمع فی‏‎ ‎‏التعبیر ، ومع ذلک لا معنی لإجراء مقدّمات الحکمة ، بخلاف المقام .‏

‏نعم ، أحوال الأفراد فی القضایا المسوّرة لابدّ لها من إجراء مقدّمات الحکمة ،‏‎ ‎‏وهو کلام آخر ، فتدبّر .‏

‏ ‏

فذلکة البحث

‏ ‏

‏إذا أحطت خبراً بما ذکرنا فی هذه الجهة دریت : أنّه لایفهم من صیغة الأمر إلاّ‏‎ ‎‏کونها آلة للبعث والإغراء ، نظیر إشارة الأخرس .‏

‏ولا دلالة لها علی الإرادة الحتمیة أو الندبیة أو الجامع بینهما ؛ لا لفظاً بأن تکون‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 153
‏الصیغة مستعملة فیه ، ولا عقلاً ، ولا بانتزاع معنیً من الإرادة الإلزامیة ـ أی حتمیة‏‎ ‎‏الإرادة ـ ولا من غیرها .‏

‏لما أشرنا أنّ الإرادة من مبادئ الطلب والبعث فکیف تکون الصیغة دالّة علیها ،‏‎ ‎‏وحتمیة الإرادة متأخّرة عن الاستعمال ، وعرفت : أنّ مقدّمات الحکمة لم تتمّ فی المقام ،‏‎ ‎‏ولو تمّت تفید غیر ما علیه المحقّق العراقی ‏‏قدس سره‏‏ وغیره ؛ لأنّ غایة ما تقتضیه المقدّمات :‏‎ ‎‏هی أنّ المولیٰ إذا کان فی مقام بیان أمره ولم یقیّده بقید یستکشف منه أنّ الشیء من‏‎ ‎‏حیث هو مراده ، ففیما نحن فیه لو جرت المقدّمات فیمکن استکشاف إرادة الجامع بین‏‎ ‎‏الإرادتین عند إطلاق الصیغة ، لا الإرادة الحتمیة .‏

ولکن عرفت :‏ أنّه لم یکن لنا فی الواقع ونفس الأمر بعنوان الجامع بین‏‎ ‎‏الإرادتین شیءٌ ؛ لأنّ الذی هناک إمّا إرادة وجوبیة أو ندبیة ، وکلّ منهما غیر الاُخریٰ .‏‎ ‎‏نعم مفهوم الإرادة مشترک بینهما .‏

‏وواضح : أنّه لم تکن حقیقة الإرادة وواقعها الجامعة بین الإرادتین موجودة فی‏‎ ‎‏الخارج ، فلا یمکن احتجاج العبد علیٰ مولاه أو بالعکس فی إرادة الجامع .‏

والذی یمکن أن یقال ویقتضیه العقل والعقلاء‏ ـ ولعلّه مراد الأعلام ، کالنائینی‏‎ ‎‏والعراقی والحائری وغیرهم ‏‏قدس سرهم‏‏ ، وإن کانت عباراتهم غیر خالیة عن الإشکال‏‎ ‎‏والنظر ، کما أشرنا ـ هو أنّ الأوامر الصادرة من المولیٰ واجب الإطاعة ، ولیس للعبد‏‎ ‎‏الاعتذار باحتمال کونه ناشئاً من المصلحة غیر الملزمة والإرادة غیر الحتمیة . ولا‏‎ ‎‏یکون ذلک لدلالة لفظیة أو انصراف أو مقدّمات الحکمة .‏

‏وبعبارة اُخریٰ : استقرّت دیدن العقلاء فیما إذا أمر المولیٰ عبده بصیغة الأمر کما‏‎ ‎‏إذا أشار إلیه بالید علیٰ لزوم امتثاله ، ولا یرونه معذوراً فی ترکه ، بل یوبّخونه ما لم یرد‏‎ ‎‏فیه ترخیص .‏

‏فنفس صدور البعث والإغراء من المولیٰ ـ بأیّ دالٍّ کان ـ موضوع حکمهم‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 154
‏بلزوم الطاعة ، مع عدم وضع لها ، وعدم کشفه عن الإرادة الحتمیة ، ولم تجر فیه‏‎ ‎‏مقدّمات الحکمة .‏

‏بل یکون لزوم الامتثال بمجرّد البعث والإغراء ـ بأیّ دالٍّ کان ـ أشبه شیء‏‎ ‎‏بلزوم مراعاة أطراف المعلوم بالإجمال .‏

‏فکما أنّ لزوم إتیان جمیع الأطراف لا یکشف عن إرادة حتمیة فی کلّ طرف ،‏‎ ‎‏ولکن لو ترک طرفاً منها فصادف الواجب الواقعی یعاقب علیه ، فکذلک فیما نحن فیه‏‎ ‎‏لا عذر للعبد عند بعث المولی وإغرائه فی ترکه .‏

‏فظهر لک : الفرق بین کون شیء أمارة علی الواقع ، وبین کونه حجّة علیه . ولعلّ‏‎ ‎‏ما ذکرنا کلّه لا سترة فیه عند العرف والعقلاء ، وإن لم نفهم وجه ذلک وسرّه ، وهو‏‎ ‎‏لایضرّ بما نحن بصدده ، فتدبّر واغتنم .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155

  • )) کفایة الاُصول : 92 .
  • )) الفصول الغرویة : 64 / السطر 31 .
  • )) معالم الدین : 48 ـ 49 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 197 و 213 ـ 214 .
  • )) تقدّم فی الصفحة 121 ـ 122 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 197 .
  • )) مقالات الاُصول 1 : 208 .
  • )) درر الفوائد ، المحقّق الحائری : 74 .