منشأ ظهور الصیغة فی الوجوب
إذا تمهّد لک ما ذکرنا : فیقع الکلام فی أنّه هل وضعت صیغة الأمر وهیئته للإغراء والبعث اللزومی ، أو بانصرافها إلیه ، أو لا هذا ولا ذاک ، بل لکشفها عن ذلک ؛ کشفاً عقلائیاً نظیر سائر الأمارات العقلائیة ، أو لکون ذلک بمقدّمات الحکمة ، أو لیس لشیء من ذلک ، بل من جهة أنّ بعث المولیٰ حجّة علی العبد بحکم العقل والعقلاء ، ولا عذر للعبد فی ترکه لو طابق الواقع ؟ وجوه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 140
لا وجه للقول : بوضع هیئة الأمر للبعث الوجوبی بأیّ معنیً فرض وذلک لأنّه :
إمّا یراد : أنّها موضوعة له بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ؛ فنقول : إنّ الوضع کذلک وإن کان ممکناً ، کما سبق منّا فی وضع الحروف ؛ بأنّه وإن لا یمکن تصویر جامع حقیقی بین معانی الحروف برمّتها ؛ لأنّ الجامع الحرفی لابدّ وأن یکون ربطاً بالحمل الشائع ، وإلاّ یصیر جامعاً اسمیاً ، والربط الکذائی أمر شخصی لا یقبل الجامعیة ، إلاّ أنّه یمکن تصویر جامع اسمی عرضی .
فعلی هذا : وإن یمکن تصویر جامع عرضی بین أفراد البعوث الناشئة عن الإرادات الجدّیة ، ثمّ وضع الهیئة بإزاء مصادیقه .
ولکنّه خلاف التبادر ؛ لأنّ المتبادر من هیئة الأمر ـ کما تقدّم ـ هو الإغراء بالحمل الشائع ، نظیر إشارة الأخرس ؛ فکما لا یستعمل إشارة الأخرس فی المعنی الکلّی ، ویکون المتبادر منها الإغراء بالحمل الشائع ، فکذلک المتبادر من هیئة الأمر البعث والإغراء بالحمل الشائع .
فعلی هذا : لا معنیٰ لتقیید البعث بالوجوب ؛ فإنّ التقیید إنّما یتصوّر فیما إذا تصوّر أمراً مطلقاً . ففیما یکون الشیء آلة لإیجاد أمر خارجی فلا معنیٰ لتقییده بعد إیجاده . نعم یمکن أن یوجد أمراً مقیّداً .
وبالجملة : لو کانت هیئة الأمر بعثاً بالحمل الشائع فلا یکون قابلاً للتقیید بالإرادة الحتمیة أو بالوجوب ؛ لعدم تقیید المصداق الخارجی والوجود الکذائی بالمفهوم والعنوان .
وبعبارة اُخری : القابل للتقیید هو العناوین والمفاهیم الکلّیة لا المصادیق والموجودات الخارجیة ، فتدبّر .
وإمّا یراد : بأنّ الموضوع البعثُ المتقیّد بالإرادة الواقعیة الحتمیة .
ففیه أیضاً إشکال ؛ لأنّ الإرادة من مبادئ البعث ، والبعث متأخّر عنها ، بل
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 141
الإرادة بمنزلة العلّة للبعث ؛ فلا یعقل أن یتقیّد البعث المتأخّر ذاتاً بما یکون متقدّماً علیه برتبة أو رتبتین .
وبالجملة : لا یعقل تقیید المعلول بعلّتـه ، فضلاً عـن علّة علّتـه ، أو کعلّتـه فـی التقدّم ؛ للزوم کون المتأخّر متقدّماً أو بالعکس .
مضافاً إلی أنّه ـ کما أشرنا آنفاً ـ لا معنی لتقیید الموجود الخارجی بما هو موجود بالمفهوم ، وما یقبل التقیید هو المفهوم . نعم یمکن أن یوجد الشیء مقیّداً ، وهو غیر ما نحن بصدده ، هذا .
ولکنّه یمکن أن یتصوّر بنحو لا یکون فیه إشکال ثبوتی ، ولکنّه خلاف التبادر ؛ وذلک لأنّ الإنسان قد یرید شیئاً بإرادة قویة ؛ بحیث یصحّ انتزاع الوجوب منه . وقد یریده بإرادة ضعیفة یصحّ انتزاع الاستحباب منه .
فالأوامر فی متن الواقع علیٰ قسمین : إمّا من إرادة قویة وجوبیة ، أو من إرادة ضعیفة استحبابیة .
فللواضع تصوّر قسم منه ؛ وهو الصادر من إرادة وجوبیة : إمّا بالنحو الکلّی فیضع الهیئة لکلّ ما یکون مثلاً له حتّیٰ یکون الوضع عامّاً والموضوع له خاصّاً .
کما له تصوّر قسم آخر منه ؛ وهو خصوص الصادر من إرادة وجوبیة ویعطف غیره علیه ، حتّیٰ یکون الوضع والموضوع خاصّین .
وبالجملة : الإرادة حیث تکون بحسب التکوین والتشریع علیٰ قسمین فللأمر الصادر من الإرادة القویة ـ التی لا یرضیٰ بترکها ـ تحصّلٌ ، غیر ما یکون متحصّلاً عمّا یصدر عن إرادة غیر قویة .
فیمکن وضـع هیئة الأمـر لخصوص قسم منه ؛ إمّا بنحو الوضـع العامّ والموضـوع له الخاصّ ، أو بنحو الوضـع والموضـوع له الخاصّین ، فلا یکون فـی المسألة محذور ثبوتی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 142
ولکنّه ـ کما أشرنا ـ خلاف التبادر والمتفاهم العرفی ؛ ضرورة أنّ المتفاهم من هیئة الأمر لیس إلاّ البعث والإغراء ، کإشارة المشیر لإغراء غیره ، وکإغراء الجوارح من الطیور وغیرها . فکأنّ لفظة هیئة الأمر قائمة مقام الإشارة وذلک الإغراء ، فتدبّر .
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا : تعرف النظر فیما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره ؛ من تبادر الوجوب من استعمال صیغة الأمر مع قوله بوضعها للوجوب ؛ لما أشرنا من عدم إمکان ادّعائه ثبوتاً ، فکیف یدّعی التبادر فی مقام الإثبات ؟ ! فتدبّر .
هذا کلّه بالنسبة إلیٰ وضع صیغة الأمر للوجوب .
وأمّا القول بکون صیغة الأمر موضوعة لمطلق الطلب أو البعث ، لکنّه ینصـرف إلـی الطلب والبعث الوجـوبی ، ولعلّ هـذا أحـد محتملات کـلام صاحب «الفصول» قدس سره .
ففیه أوّلاً : أنّ دعوی الانصراف بمعناه المعروف إنّما یمکن لو کان الموضوع له الطلب الکلّی ، وأمّا لو کان الموضوع له الطلب بالحمل الشائع فلا یمکن دعواه ، ولعلّه أوضح من أن یخفیٰ ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّه لو سلّم إمکان دعوی الانصراف فلابدّ وأن یکون فی مورد یکثر استعماله فیه ؛ بحیث یوجب اُنس الذهن به ؛ بحیث یوجب انقلاب الذهن وتوجّهه إلیه متی انقدح فی ذهنه ذلک اللفظ ، ویکون المعنی مغفولاً عنه ومهجوراً .
وواضح : أنّ هذا المعنیٰ مفقود فیما نحن فیه ؛ لکثرة استعمال صیغة الأمر فی الطلب الندبی أیضاً ، کاستعمالها فی الطلب الوجوبی ؛ فلا وجه لدعوی الانصراف إلی الطلب الوجوبی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 143
بل کما صرّح صاحب «المعالم» قدس سره : أنّ استعمال صیغة الأمر فی الاستحباب أکثر منه فی الوجوب ، فکان ینبغی انصرافها إلی الطلب الندبی .
إلاّ أن یقال : إنّ أکثریة استعمالها فی الاستحباب إنّما هو فی الأوامر الشرعیـة . وأمّا فی الأوامر العرفیة فلا یبعد دعویٰ أکثریة استعمالها فی الوجوب ولعلّه مراد القائل به .
ولکن ذلک لا یثبت الانصراف ، بل لا معنیٰ له بعد معهودیة استعمالها ، بل أکثریتها فی الأوامر الشرعیة ، فتدبّر .
ومن هنا یظهر الخلل فی القول بکون صیغة الأمر منصرفة إلی البعث الناشئ من الإرادة الحتمیة ـ وهو الوجوب ـ لما أشرنا أنّ منشأ الانصراف لابدّ وأن یکون لاُنس الذهن الحاصل من کثرة الاستعمال فیه ؛ بحیث یوجب انصراف الذهن عن غیره ؛ بحیث یکون احتماله عقلیاً لا عقلائیاً .
وقـد أشرنا آنفاً : أنّ استعمال صیغـة الأمر فـی الاستحباب لـو لم یکن أکثر منه فـی الوجـوب یکون فی رتبـة استعمالها فی الوجـوب ؛ فلا معنیٰ لـدعوی انصرافها إلی الوجوب .
ولو أراد مدّعی الانصراف : أکملیة البعث الناشئ من الإرادة الحتمیة من غیره من أفراد البعث ، فینصرف الذهن إلیه عند إطلاق الصیغة .
ففیه : أنّ مجـرّد الأکملیة لا تصلح لذلک ، ولا یوجب الانصراف ، ولعلّه أوضـح من أن یخفیٰ .
وأمّا القول بأنّ منشأ ظهور الصیغة فی الوجوب مقدّمات الحکمة فهو مختار المحقّق العراقی قدس سره ، وقد قرّبه بتقریبین ، وذکر التقریبین فی کلّ من مادّة الأمر وصیغته ، لکن مع تفاوت بینهما :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 144
التقریب الأوّل :
أمّا جریان مقدّمات الحکمة فی استفادة الوجوب من مادّة الأمر .
فحاصله : أنّ مادّة الأمر وإن کانت موضوعة للجامع ومطلق الطلب ـ بشهادة التبادر وغیره ـ إلاّ أنّ جریان مقدّمات الحکمة فی الطلب الإلزامی أخفّ من جریانها فی الطلب غیر الإلزامی .
فلو کان المتکلّم فی مقام البیان فإذا ألقت مادّة الأمر بدون القید فینقدح فی الذهن ما یکون أخفّ مؤونة ؛ وهو الطلب الإلزامی .
أمّا کـون الإرادة الإلزامی أخفّ ؛ فلأنّ امتیازها عـن الإرادة الندبیة بالشـدّة ؛ فیکون ما به الامتیاز عین ما به الاشتراک . بخلاف الإرادة الندبیة فإنّما تفترق عـن الوجـوبیة بالضعف ، فکأنّه طلب وإرادة ناقصـة ؛ فما به الامتیاز غیر ما به الاشتـراک . فإرادة الضعیفة محتاجة إلیٰ بیان زائد ، ففی صورة إطلاق الأمر یحمل علی الإرادة القویة .
وأمّا جریان مقدّمات الحکمة فی صیغة الأمر : فقد یشکل جریانها من جهة أنّ مفهوم الصیغة هو البعث الملحوظ نسبة بین الذات ـ أعنی به المبعوث ـ وبین المبعوث إلیه ـ أعنی به المادّة ـ والبعث المزبور لا یقبل الشدّة والضعف ؛ لکونه فی الأمر الوجوبی مثله فی الأمر الندبی ، فلا إطلاق ولا تقیید ؛ فلا تجری مقدّمات الحکمة من هذه الجهة . وکذا فی الإرادة ؛ لکونها أمراً شخصیاً جزئیاً لا یتصوّر فیه الإطلاق والتقیید لیتوسّل بمقدّمات الحکمة إلیٰ بیان ما اُرید منهما فیها .
وتوهّم : أنّ الأمـر بلحاظ المفهوم وإن لم یکن موضـوعاً للإطلاق والتقیید لکنّه بلحاظ الأحوال یکون موضـوعاً لها ، ویمکن أن تکـون الشدّة والضعف المتواردین علـی الإرادة الخارجیـة مـن أحوالها وطواریها ؛ فتکـون باعتبارهما مجـریٰ مقـدّمات الحکمة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 145
مدفوع : بأنّ الشدّة والضعف لیستا من أطوار الإرادة بعد وجودها ، بل هما من مشخّصات وجودها ؛ لأنّها إذا وجدت فإمّا شدیدة أو ضعیفة .
ولکن التحقیق فی حلّ الإشکال : هو أن یقال بجریان مقدّمات الحکمة بنحو آخر ؛ وذلک لأنّ مقدّمات الحکمة کما یجری فی مفهوم الکلام ؛ لتشخّصه من حیث سعته وضیقه ، کذلک تجری فی تشخیص الفرد الخاصّ فیما لو اُرید بالکلام فرداً مشخّصاً ، ولم یکن فیه ما یدلّ علیٰ ذلک بخصوصه ، وکان أحدهما یستدعی مؤونة فی البیان أکثر من الآخر .
وذلک مثل الإرادة الوجوبیة والندبیة ؛ فإنّ افتراق الاُولیٰ عن الثانیة بالشدّة ؛ فیکون ما به الامتیاز عین ما به الاشتراک . وأمّا افتراق الإرادة الندبیة عن الوجوبیة إنّما هی بالضعف ؛ فما به الامتیاز فیها غیر ما به الاشتراک .
فالإرادة الوجوبیة مطلقة من حیث الوجود الذی به الوجوب ، بخلاف الإرادة الندبیة فإنّها محدودة بحدّ خاصّ . فالإرادة الندبیة محتاجة إلیٰ دالّین ، بخلاف الإرادة الوجوبیة ، انتهی محرّراً .
وفیه أوّلاً : أنّه سبق الکلام علی المادّة ، وأنّ البحث فیها فی مادّة «أ م ر» الموجودة فی «أمر یأمر آمر» وهکذا ، لا فی الأمر بالصیغة ، فالبحث غیر مربوط بجریان مقدّمات الحکمة ، وقد أشرنا أنّ ذلک منه عجیب ، فراجع .
وثانیاً : لـو سلّم جـریان مقـدّمات الحکمـة فمقتضاها هـی کـون صیغـة الأمـر والطلب الجامـع بین الوجـوب والندب مطلوباً ، لا الطلب الوجـوبی ؛ لأنّه محتاج إلیٰ بیان زائد ، کما لایخفـیٰ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 146
وثالثاً : أنّ قولـه قدس سره : إنّ الإرادة الوجوبیـة حیث لا حـدّ لها لا یحتاج إلی البیان ، بخـلاف الإرادة الندبیـة فإنّها محتاجـة إلی البیان ؛ فلو اُطلـق یُحمل علی الإرادة الوجوبیة .
غیر سدید ؛ لأنّه إمّا یریٰ أنّ بین المقسم والقسم فرقاً فی عالم القسمة ، أم لا ؟ وبعبارة اُخریٰ : هل یریٰ بین أصل الإرادة والإرادة الوجوبیة فی لحاظ التقسیم ـ وإن کانت متّحدة فی الخارج ـ فرق أم لا ؟
ومن الواضح : أنّه لا سبیل له إلی القول بعدم الفرق ، وإلاّ لا معنیٰ للتقسیم ؛ لاتّحاد القسم مع مقسمه ، وإن کان بینهما فرق ـ کما هو کذلک ـ فعلیٰ زعمه لو تمّت مقدّمات الحکمة فمقتضاها وجود الإرادة بنفسها ، وأمّا کونها وجوبیة أو ندبیة فلا .
وإن کان بعدما ذکرنا فی نفسک ریب فلاحظ الوجود الذی اُنیط به الأشیاء ، فتریٰ أنّه فی مقام التقسیم یقسم الوجود إلی الواجب والممکن ، وإن کان فی الخارج متّحداً مع أحدهما .
ولابدّ وأن یکون بین نفس الوجود ، والوجود الواجب والوجود الممکن فرق ، کما یکون بین الأخیرین فرق . وإلاّ لو لم یکن بینهما فرق فی مقام التقسیم یلزم تقسیم الشیء إلی نفسه وغیره ، وهو فاسد .
فالوجود الجامع غیر وجود الواجب ووجود الممکن ، ولا ینطبق الجامع بما هو جامع إلاّ علی أحدهما ، لا خصوص الواجب منهما .
فإذن نقول : نفس الإرادة لا وجوبیـة ولا ندبیـة ؛ ولـذا تکون وجوبیـة تارة وندبیـة اُخـریٰ ، فنفس الجامـع لا یحتاج إلی البیان . وأمّا الإرادة الوجوبیـة أو الندبیة فمحتاجـة إلی البیان ، ومقدّمات الحکمـة لو جـرت فمقتضاها إثبات الجامـع بین الإرادتین ، لا خصوص الإرادة الوجوبیـة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 147
ورابعاً : نقطع بعدم وجود الجامع بین الإرادتین فی متن الواقع ؛ لأنّ ما فیه إمّا إرادة وجوبیة أو إرادة ندبیة ؛ بداهة أنّ صیغة الأمر بعث وإغراء خارجی ، نظیر إشارة الأخرس ، فهو إمّا بعث وجوبی أو ندبی ، ولا معنیٰ لوجود الجامع بین الإرادتین ، والجامع إنّما هو فی الماهیات والمفاهیم .
فعلیٰ هـذا : تسقط مقـدّمات الحکمـة ؛ لأنّ مقتضاها أمر نقطـع بعدمـه فـی الخارج .
وخامساً : أنّه یتوجّه علیه إشکال آخـر ، ولعلّه عبارة اُخـریٰ عمّا ذکـرنا ، حاصلـه : أنّه لـو سلّم أنّ ما به الامتیاز فـی الإرادة الوجوبیـة عین ما بـه الاشتراک ـ بخـلاف الإرادة الندبیـة ؛ فإنّها غیره ـ فإنّما هـو فی الواقـع ونفس الأمـر ، ولکـن لا یوجب ذلک عـدم احتیاج إفهام الإرادة الوجوبیـة إلی البیان فـی مقام المعرّفیـة ، بل کلّ منهما فـی مقام المعرّفیـة یحتاج إلی البیان . ألا تـری أنّه تعالیٰ وجـود صـرف لا یشوبه نقص أصلاً ، وغیره تعالی وجود ناقص ، ومع ذلک إذا اُرید بیان أحدهما فیحتاج إلی البیان ، فتدبّر .
وسادساً : أنّ قوله : إنّ ما به الامتیاز فی الإرادة الوجوبیة عین ما به الاشتراک دون الإرادة الندبیة ، لا یرجع إلیٰ محصّل ؛ لأنّ مورد قولهم بعینیة ما به الامتیاز مع ما بـه الاشتراک إنّما هـو فیما لم یکن هناک ترکّب ، وفـی الحقائـق کالنور ، فکما أنّ امتیاز النور القـوی عـن النور الضعیف بنفس ذاتـه ، فکذلک امتیاز نـور الضعیف عن النـور القوی بنفس ذاته ؛ فالنور ـ مثلاً ـ موجود وحقیقة ذات مراتب تمتاز کلّ مرتبة منه عن المرتبة الاُخریٰ .
فعلی هذا : لو کان ما به الامتیاز فی الإرادة الوجوبیة عین ما به الاشتراک فلیکن کذلک فی الإرادة الندبیة ، فلا وجه للتفصیل ، فتدبّر واغتنم .
هذا کلّه فی تقریبه الأوّل .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148
التقریب الثانی :
ولیعلم : أنّ ما قرّره مقرّره ـ دام بقاءه ـ غیر ما ذکره المحقّق العراقی قدس سره فی «مقالاته» ، وإن کان قریباً منه :
أمّا ما ذکر فی تقریر بحثه فحاصله : أنّ کلّ أحد إذا طلب من غیره أمراً فغرضه هو حصوله فی الخارج وتحقّقه ، فلابدّ وأن یکون طلبه إیّاه فی حدّ ذاته لا قصور فیه فی مقام التوسّل إلی إیجاده .
ولیس ذلک إلاّ الطلب الإلزامی الموجب فعله الثواب وترکه استحقاق العقاب . وأمّا الطلب الاستحبابی فلا یصلح لذلک ، وإنّما یصلح مجرّد الثواب لفعله .
ولو کان هناک ما یقتضی قصوره عن التأثیر التامّ فی وجود المطلوب ـ ولو لقصور المصلحة أو لمانع یوجب قصورها عرضاً ـ لوجب علیه أن یطلبه بتلک المرتبة ؛ فإن أشار إلیها فی مقام البیان فهو ، وإلاّ فقد أخلّ فی بیان ما یحصل به غرضه .
فعلیه : یکون إطلاق الأمر دلیلاً علیٰ طلبه الذی یتوسّل به الطالب إلی إیجاد مطلوبه بلا تسامح فیه ، ولیس هو إلاّ الطلب الوجوبی .
وأمّا الذی ذکره المحقّق العراقی قدس سره فـی «المقالات» فهـو أسلم ممّا ذکـر فی تقـریر بحثـه ؛ لأنّه قال : یکفـی لإثبات الوجـوب ظهـور إطلاقـه فی کونـه فـی مقام حفظ المطلـوب ، ولـو بکونه حافظاً لمبادئ اختیاره من جهـة إحداثه الـداعی علـیٰ الفـرار مـن العقاب أیضاً ، بخـلاف الاستحبابی فإنّه لمحض إحداث الـداعی علیٰ تحصّل الثـواب ؛ فلا یوجب مثلـه حفظ مبادئ اختیار العبـد للإیجاد بمقـدار ما یقتضیـه الطلب الوجـوبی ؛ ولـذا یکون فـی مقام حفظ الوجـود أنقص ، فإطـلاق الحافظیة یقتضی حمله علیٰ ما یکون حافظیته أشمل .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149
أقول : وفی کلا التقریبین إشکال ، وإن کان فیما ذکره المقرّر ـ دام بقاءه ـ إشکالات ؛ وذلک لأنّه :
إن أراد بقوله : «إنّه لا ریب أنّ کلّ طالب أمراً من غیره فإنّما یأمره به لأجل إیجاده فی الخارج» التحقّق والوجود الحتمی فی الخارج .
ففیه : أنّه لیس کذلک ؛ بداهة أنّ الأوامر الصادرة من الموالی علی صنفین :
1 ـ أوامر وجوبیة .
2 ـ أوامر ندبیة ؛ فانتقض کلّیة قوله : «إنّ کلّ طالب من غیره یرید تحقّق مطلوبه علیٰ سبیل التحتّم» .
مضافاً إلی أنّ کلامه لا یخلو عن مصادرة ؛ لأنّ النزاع إنّما هو فی ذلک ، ولو علمنا ذلک لما کان للنزاع موقف .
وإن أراد بذلک : إیجاد مطلوبه بالأعمّ من الحتم وغیره فکلام لا غبار علیه ؛ فتکون مفاد هذه المقدّمة : أنّ من یأمر غیره یرید تحقّق مطلوبه فی الخارج بالأعمّ من الوجوبی والندبی ، ومقتضاه : أنّ أوامر المولی قسمین : فبعضها لزومی وبعضها ندبی .
ولکن لا تتمّ قوله فی المقدّمة الثانیة : لابدّ وأن یکون طلبه إیّاه فی حدّ ذاته لا قصور فیه فی مقام التوسّل إلی إیجاده فی الخارج ، وهو واضح .
مضافاً إلیٰ أنّه غیر مربوط بالمقدّمة الاُولی . ولو تمّت المقدّمة الاُولیٰ یتمّ المطلب ، من دون احتیاج إلیٰ ضمّ هذه المقدّمة إلیها ، فتدبّر .
وإن أراد بقوله فی المقدّمة الثانیة : إنّ الطلب الوجوبی تامّ لا نقص فیه ، بخلاف الطلب الاستحبابی فإنّه ضعیف ؛ فیرجع إلی التقریب الأوّل ، فقد عرفت بما لا مزید علیه ضعفه ، فلا یکون تقریباً آخر .
ثمّ إنّ قوله : لو کان هناک ما یقتضی قصوره عن التأثیر التامّ فی وجود المطلوب . . . إلی قوله : فقد أخلّ فی بیان ما یحصل به غرضه . . . إلی آخره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150
لا یخلو عن النظر ؛ لأنّه یمکن أن یقال : إنّ الأمـر بعکس ما ذکـره ؛ وذلک لأنّ الآمر الملتفت إلی أنّ الأمـر لمطلق البعث الجامـع بین الوجـوب والندب لـو کان غـرضه الإلزام فلابدّ لـه البیان ، وإلاّ لأخلّ بغـرضه ، وحیث لم یبیّن فیستکشف عدمه إنّاً . بخـلاف ما لو لم یکـن غرضه الإلزام ؛ فإنّه لا یحتاج إلی البیان ؛ لأنّ الإخلال به غیر مضرّ .
وبالجملة : الأمر دائر بین الوجوب والندب بعد کون الأمر موضوعاً للجامع ، فلو کان غرضه تحقّقه فی الخارج حتماً فلابدّ له من بیانه ، وإلاّ لأخلّ بغرضه ، والإخلال بالغرض الإلزامی غیر جائز . وأمّا لو لم یکن غرضه تحقّقه فی الخارج حتماً فالإخلال به غیر ضائر ، ولا إشکال فیه .
فظهر : أنّ کلامه لو تمّ فإنّما هو لإثبات الاستحباب أولیٰ من إثبات الوجوب ، فتدبّر واغتنم .
وأمّا ما أفاده فی «المقالات» وإن کان أسلم ممّا ذکر فی «التقریرات» إلاّ أنّه یتوجّه علیه أنّه :
إن أراد بالطلب إرادة العبد نحو مطلوبه الأعمّ من الوجوب والاستحباب فهو وإن کان کذلک إلاّ أنّه لا ینفعه لإثبات الوجوب .
وإن أراد : أنّ مقتضی إطلاق الطلب حمله علی ما یکون أشمل فهو أوّل الکلام . ومجرّد الأشملیة لا یوجب صرف الإطلاق إلیها . هذا إذا اُرید بقوله ذلک بیان وجه مستقلّ لإثبات مقصوده .
وأمّا إن لم یرد بذلک بیان وجه مستقلّ ، بل أراد تتمیم الوجه الأوّل : فقد أشرنا أنّ وجه الأوّل غیر تام ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 151
ذکر وتعقیب
ثمّ إنّ شیخناالعلاّمة الحائری قدس سره بعدأن قوّی کون صیغة الأمرحقیقة فی الوجوب والندب بالاشتراک المعنوی ذهب إلی أنّه عند إطلاق الصیغة تحمل علی الوجوب .
وقال : لعلّ السرّ فی ذلک : أنّ الإرادة المتوجّهة إلی الفعل تقتضی وجوده لیس إلاّ ، والندب إنّما یأتی من قبل الإذن فی الترک منضمّـاً إلی الإرادة المذکورة فاحتاج الندب إلی قید زائد . بخلاف الوجوب فإنّه یکفی فیه تحقّق الإرادة وعدم انضمام الرخصة فی الترک إلیها .
ثمّ قال : إنّ الحمل علی الوجوب عند الإطلاق غیر محتاج إلیٰ مقدّمات الحکمة ، بل تحمل علیه عند تجرّد القضیة اللفظیة من القید المذکور ؛ فإنّ العرف والعقلاء أقویٰ شاهدٍ بعدم صحّة اعتذار العبد عن المخالفة باحتمال الندب وعدم کون الآمر فی مقام بیان القید الدالّ علی الرخصة فی الترک .
وهذا نظیر القضایا المسوّرة بلفظ الکلّ وأمثاله ؛ لأنّها موضوعة لبیان عموم أفراد مدخولها ؛ سواء کان مطلقاً أو مقیّداً .
وفیه : أنّه قد أشرنا أنّ لازم القول بالاشتراک المعنوی هو کون الوضع والموضوع له عامّین ، وقد عرفت : أنّ مفاد الهیئة لیس إلاّ البعث والإغراء ، نظیر إشارة الأخرس . فالموضوع له لابدّ وأن یکون خاصّاً لو لم یکن الوضع أیضاً خاصّاً .
ثمّ إنّ مراده قدس سره بالإرادة المتوجّهة إلی الفعل الإرادة الواقعیة ؛ لأنّه کان ینکر الإرادة الاعتباریة والإنشائیة . فإذن نسأل من سماحته : هل واقع الإرادة الوجوبیة عین الإرادة الندبیة ، أو غیرها ؟
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 152
لا مجال للعینیة ؛ بداهة أنّ الإرادة الملزمة غیر الإرادة غیر الملزمة ؛ لعدم إمکان الترخیص فی الترک فی الإرادة الملزمة ، وإمکانه فی غیر الملزمة . فکلّ منهما منبعثة عن مبادئ مخصوصة بها .
وبعبارة اُخریٰ : الإرادة الندبیة مرتبة ضعیفة من الإرادة ، کما أنّ الإرادة الإلزامیة مرتبة قویة منها ؛ فلا تکون الإرادة فیهما واحدة والاختلاف بأمر خارجی ؛ فهما مختلفتان بالذات فی الرتبة .
فللإرادة اللزومیة نحو اقتضاء غیر ما تقتضیه الإرادة الندبیة ؛ فلا یلائم إرادة إحداهما دون الاُخریٰ بمجرّد الإطلاق ، کما لا یخفیٰ ، فتدبّر .
ثمّ إنّ ما أفاده ـ من عدم احتیاج الحمل علی الوجوب إلی مقدّمات الحکمة ، نظیر القضیة المسوّرة بلفظة «کلّ» ـ قیاس مع الفارق .
إجماله : ـ وسیوافیک تفصیله فی مباحث المطلق والمقید والعام والخاص ـ أنّ الألفاظ الدالّة بالوضع علی الاستغراق إذا استعملت فلا محالة یکون المتکلّم بها فی مقام بیان حکم الأفراد المدخولة لها ؛ فإنّها بمنزلة تکرار الأفراد .
وبالجملة : القضیة المسوّرة بیان لفظی ، ومتعرّضة لکلّ فردٍ فردٍ بنحو الجمع فی التعبیر ، ومع ذلک لا معنی لإجراء مقدّمات الحکمة ، بخلاف المقام .
نعم ، أحوال الأفراد فی القضایا المسوّرة لابدّ لها من إجراء مقدّمات الحکمة ، وهو کلام آخر ، فتدبّر .
فذلکة البحث
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا فی هذه الجهة دریت : أنّه لایفهم من صیغة الأمر إلاّ کونها آلة للبعث والإغراء ، نظیر إشارة الأخرس .
ولا دلالة لها علی الإرادة الحتمیة أو الندبیة أو الجامع بینهما ؛ لا لفظاً بأن تکون
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 153
الصیغة مستعملة فیه ، ولا عقلاً ، ولا بانتزاع معنیً من الإرادة الإلزامیة ـ أی حتمیة الإرادة ـ ولا من غیرها .
لما أشرنا أنّ الإرادة من مبادئ الطلب والبعث فکیف تکون الصیغة دالّة علیها ، وحتمیة الإرادة متأخّرة عن الاستعمال ، وعرفت : أنّ مقدّمات الحکمة لم تتمّ فی المقام ، ولو تمّت تفید غیر ما علیه المحقّق العراقی قدس سره وغیره ؛ لأنّ غایة ما تقتضیه المقدّمات : هی أنّ المولیٰ إذا کان فی مقام بیان أمره ولم یقیّده بقید یستکشف منه أنّ الشیء من حیث هو مراده ، ففیما نحن فیه لو جرت المقدّمات فیمکن استکشاف إرادة الجامع بین الإرادتین عند إطلاق الصیغة ، لا الإرادة الحتمیة .
ولکن عرفت : أنّه لم یکن لنا فی الواقع ونفس الأمر بعنوان الجامع بین الإرادتین شیءٌ ؛ لأنّ الذی هناک إمّا إرادة وجوبیة أو ندبیة ، وکلّ منهما غیر الاُخریٰ . نعم مفهوم الإرادة مشترک بینهما .
وواضح : أنّه لم تکن حقیقة الإرادة وواقعها الجامعة بین الإرادتین موجودة فی الخارج ، فلا یمکن احتجاج العبد علیٰ مولاه أو بالعکس فی إرادة الجامع .
والذی یمکن أن یقال ویقتضیه العقل والعقلاء ـ ولعلّه مراد الأعلام ، کالنائینی والعراقی والحائری وغیرهم قدس سرهم ، وإن کانت عباراتهم غیر خالیة عن الإشکال والنظر ، کما أشرنا ـ هو أنّ الأوامر الصادرة من المولیٰ واجب الإطاعة ، ولیس للعبد الاعتذار باحتمال کونه ناشئاً من المصلحة غیر الملزمة والإرادة غیر الحتمیة . ولا یکون ذلک لدلالة لفظیة أو انصراف أو مقدّمات الحکمة .
وبعبارة اُخریٰ : استقرّت دیدن العقلاء فیما إذا أمر المولیٰ عبده بصیغة الأمر کما إذا أشار إلیه بالید علیٰ لزوم امتثاله ، ولا یرونه معذوراً فی ترکه ، بل یوبّخونه ما لم یرد فیه ترخیص .
فنفس صدور البعث والإغراء من المولیٰ ـ بأیّ دالٍّ کان ـ موضوع حکمهم
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 154
بلزوم الطاعة ، مع عدم وضع لها ، وعدم کشفه عن الإرادة الحتمیة ، ولم تجر فیه مقدّمات الحکمة .
بل یکون لزوم الامتثال بمجرّد البعث والإغراء ـ بأیّ دالٍّ کان ـ أشبه شیء بلزوم مراعاة أطراف المعلوم بالإجمال .
فکما أنّ لزوم إتیان جمیع الأطراف لا یکشف عن إرادة حتمیة فی کلّ طرف ، ولکن لو ترک طرفاً منها فصادف الواجب الواقعی یعاقب علیه ، فکذلک فیما نحن فیه لا عذر للعبد عند بعث المولی وإغرائه فی ترکه .
فظهر لک : الفرق بین کون شیء أمارة علی الواقع ، وبین کونه حجّة علیه . ولعلّ ما ذکرنا کلّه لا سترة فیه عند العرف والعقلاء ، وإن لم نفهم وجه ذلک وسرّه ، وهو لایضرّ بما نحن بصدده ، فتدبّر واغتنم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155