المقصد الأوّل فی الأوامر

الأمر الأوّل‏: فی قبول الإرادة مع بساطتها للشدة والضعف

الأمر الأوّل : فی قبول الإرادة مع بساطتها للشدة والضعف

‏ ‏

قال المحقّق النائینی ‏قدس سره‏‏ ما حاصله : إنّ الإرادة بما أنّها شوق مؤکّد مستتبع‏‎ ‎‏لتصدّی النفس لحرکة العضلات لا تقبل الشدّة والضعف ، بل هی فی جمیع الأفعال‏‎ ‎‏الصادرة من الإنسان علیٰ نسق واحد .‏

‏ولیس هذا من الاُمور التی ترجع فیها إلی اللغة ، بل العرف ببابک ، فهل تریٰ‏‎ ‎‏من نفسک اختلاف تصدّی نفسک وحملتها نحو ما کان فی منتهیٰ درجة المصلحة وقوّة‏‎ ‎‏الملاک کتصدّی نفسک نحو شرب الماء الذی به نجاتک ، أو نحو ما کان فی أوّل درجة‏‎ ‎‏المصلحة ، کتصدّی نفسک لشرب الماء لمحض التبرید ؟‏

‏کلاّ ! لا یختلف تصدّی النفس المستتبع لحرکة العضلات باختلاف ذلک ، بل‏‎ ‎‏بعث النفس للعضلات فی کلا المقامین علیٰ نسق واحد‏‎[1]‎‏ ، انتهیٰ .‏

وفرّق المحقّق العراقی ‏قدس سره‏‏ بین الإرادة التکوینیة والإرادة التشریعیة ، فقال : إنّ‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 136
‏الإرادة التی لا یتصوّر فیها الشدّة والضعف هی الإرادة التکوینیة ، وأمّا الإرادة‏‎ ‎‏التشریعیة فهی تابعة للمصلحة التی تنشأ منها ؛ فإن کانت المصلحة لزومیة کانت‏‎ ‎‏الإرادة الناشئة منها إلزامیة ، ویعبّر عنها بالإرادة الوجوبی ، وإن کانت المصلحة غیر‏‎ ‎‏لزومیة کانت الإرادة أیضاً غیر إلزامیة ، ویعبّر عنها بالإرادة الاستحبابی‏‎[2]‎‏ .‏

أقول :‏ لم یقیما العلمان دلیلاً وبرهاناً علیٰ مدّعاهما ، وغایة ما یظهر منهما هی أنّ‏‎ ‎‏الإرادة هی الشوق المؤکّد الذی لا تکون فوقها مرتبة . نعم ادّعی المحقّق النائینی ‏‏قدس سره‏‎ ‎‏شهادة الوجدان علیٰ مقالته .‏

‏فنقول من رأس : کون الإرادة عبارة عن الشوق المؤکّد وإن وقع فی کلام‏‎ ‎‏کثیر‏‎[3]‎‏ ـ حتّی من الفلاسفة‏‎[4]‎‏ ـ ولکنّه غیر صحیح ؛ وذلک لأنّه قد ترید شیئاً ولا‏‎ ‎‏تکون مشتاقاً إلیه ، فضلاً عن تأکّده ، بل کنت تکرهه ، هذا .‏

‏مضافاً إلی اختلافهما من حیث المقولة ؛ لأنّ الإرادة صفة فعلیة ـ ویعبّر عنها‏‎ ‎‏بتجمّع النفس وهمّتها ونحوهما ـ والاشتیاق صفة انفعالیة .‏

‏وإن کنت فی ریب ممّا ذکرنا : فاختبر نفسک حال من فسد عینه ، وقال الطبیب‏‎ ‎‏الحاذق : إن أردت السلامة والعافیة فلابدّ من قلعها .‏

‏فالمـریض العاقل یتصـوّر قلع عینه ویصدق بفائـدته ، فیرجّح القلـع علـیٰ‏‎ ‎‏بقائها ؛ لأنّ سلامته وعافیتـه علـیٰ قلعها . ولکنّه مـع ذلک لـم یکن مشتاقاً إلیٰ‏‎ ‎‏قلعها ، وهذا أوضح من أن یخفیٰ .‏

‏نعـم ، قـد یرید شیئاً ، ویکـون مشتاقاً إلیه أیضاً ، کمـن یریـد إنقاذ محبوبـه‏‎ ‎‏من الغرق .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 137
‏وبالجملة : قد یرید الإنسان ما یشتاق إلیه نفسه ، وقد یرید ما یکرهه ؛ لحکم‏‎ ‎‏العقل وإغرائه علیٰ ترجیح المصلحة القویة علی المصلحة الضعیفة ، وکم فرق بین‏‎ ‎‏ترجیح العقل أحد طرفی الفعل علی الآخر ، وبین اشتیاقه لأحدهما دون الآخر ! بداهة‏‎ ‎‏أنّ الترجیح حکم العقل ، والاشتیاق من صفات النفس .‏

فتحصّل :‏ أنّ الشوق المـؤکّد غیـر الإرادة ، بل لـم یکن مـن مبادئها دائماً ،‏‎ ‎‏ونفـس الاشتیاق ـ بلـغ ما بلغ ـ ما لـم تضمّ إلیه أمـر آخـر لا یـوجب تحقّق الفعل‏‎ ‎‏خارجاً .‏

‏ولو سلّم کون الاشتیاق من مبادئ الإرادة ، أو أنّها هی الشوق المؤکّد لکن‏‎ ‎‏الضرورة قاضیة بوجود الشدّة والضعف فی الإرادة ؛ بداهة أنّ إرادة إنقاذ المحبوب عن‏‎ ‎‏الغرق أقویٰ من إرادة شرب الماء للتبرید .‏

‏وکم فرق بین إرادة الحکومة والسلطنة علی الناس ، وبین إرادة کنس البیت !‏‎ ‎‏ولذا قد لا یبالی للوصول إلیٰ مراده فی الاُولی من لا تَقْویٰ له لهلاک نفس أو نفوس‏‎ ‎‏کثیرة ، دون الثانیة .‏

‏وبالجملة : یختلف إرادة الفاعل فیما یصدر منه قوّةً وضعفاً حسب اختلاف أهمّیة‏‎ ‎‏المصالح والغایات المطلوبة منه ؛ فالإرادة المحرّکة لنجاة نفسه أقویٰ من المحرّکة لها للقاء‏‎ ‎‏محبوبه ، وهی أقویٰ من المحرّکة لها للتفرّج والتفریح ، وهکذا . . .‏

‏فظهر : أنّ الذی یقتضیه الوجدان ، بل علیه البرهان هو أنّ الإرادة لها مراتب ،‏‎ ‎‏وهی غیر الاشتیاق ، والاشتیاق ـ بأیّ مرتبة کانت ـ لا یوجب بعثاً ، وهذا ممّا لا‏‎ ‎‏إشکال فیه .‏

‏والإشکال إنّما هـو فـی کیفیة قبـول الإرادة للشـدّة والضعف ، مـع أنّها‏‎ ‎‏حقیقـة بسیطـة ، کما اُورد ذلک الإشکال فـی الوجـود والعلم وغیـرهما مـن‏‎ ‎‏الحقائـق البسیطة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 138
وقد أجابوا عـن الإشکال فـی جمیع المـوارد :‏ بأنّ ما بـه الاشتراک فیها عین‏‎ ‎‏ما به الامتیاز .‏

‏ولا یکون الاختلاف بینهما بتمام الذات المستعملة فی الماهیات أو بعضها أو بأمر‏‎ ‎‏خارج عنها ؛ ضرورة عدم التباین الذاتی بین الإرادة القویة والضعیفة . ولا یکون‏‎ ‎‏اختلافهما ببعض الذات ؛ لبساطتها . ولا بأمر خارج حتّیٰ تکونا فی مرتبة واحدة ،‏‎ ‎‏والشدّة والضعف لاحقان به .‏

‏فالإرادة ـ کسائر الحقائق البسیطة ـ تکون افتراق مراتبها کاشتراکها بتمام‏‎ ‎‏الذات ، وتکون ذات عرض عریض ومراتب شتّیٰ . ولا یهمّنا التعرّض لتحقیق الأمر‏‎ ‎‏فی ذلک هنا ، ومن أراد حقیقة الحال فلیراجع مظانّه .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 139

  • )) فوائد الاُصول 1 : 135 .
  • )) بدائع الأفکار 1 : 212 .
  • )) کفایة الاُصول : 86 ، فوائد الاُصول 1 : 132 ، نهایة الدرایة 1 : 279 .
  • )) اُنظر الحکمة المتعالیة 4 : 113 ـ 114 ، شرح المنظومة (قسم الحکمة) : 184 .