المقصد الأوّل فی الأوامر

الجهة الثالثة‏: فی اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مادّة الأمر

الجهة الثالثة : فی اعتبار العلوّ والاستعلاء فی مادّة الأمر

‏ ‏

‏هل مادّة الأمر موضوعة لمطلق ما یطلب ، أو للجامع بین الطلبات الصادرة من‏‎ ‎‏العالی ولو لم یکن مستعلیاً ـ بأن کان طلبه بصورة الالتماس والاستدعاء ـ أو لمطلق ما‏‎ ‎‏یطلب مستعلیاً ولو لم یکن عالیاً ، أو لما یصدر من العالی بما أنّه عالٍ ، فیستفاد منه‏‎ ‎‏الاستعلاء ؟ وجوه ، بل أقوال .‏

‏والذی یتبادر من مادّة الأمر السائرة فی هیئات أمَرَ ویأمر وآمر وهکذا هو‏‎ ‎‏اعتبار العلوّ فیها . بل اعتبار العلوّ بما هو عالٍ ، ولا یقال لمن طلب ولم یکن عالیاً إنّه‏‎ ‎‏أمر . وکذا العالی لو طلب بنحو الالتماس والاستدعاء ، لا یعدّ طلبه أمراً .‏

‏ولذا یذمّ العقلاء خطاب المساوی والسافل لمن هو مساوٍ معه أو أعلی منه بلفظ‏‎ ‎‏الأمر ، وهو آیة أخذ العلوّ فیه . ولا یقال لطلب العالی إذا کان بصورة الالتماس‏‎ ‎‏والاستدعاء أمراً .‏

ولا یخفیٰ :‏ أنّ العلوّ أمر اعتباری ، له منشأ عقلائی یختلف بحسب الزمان‏‎ ‎‏والمکان . والملاک فی ذلک هو کون الشخص نافذ الکلمة والسلطة والقدرة ؛ بحیث‏‎ ‎‏یقتدر علیٰ إجراء أوامره وتکالیفه .‏

‏فالسلطان المحبوس المتجـرّد من النفوذ وإعمال القـدرة لا یُعـدّ إنشاؤه أمـراً ،‏‎ ‎‏بل طلباً والتماساً . بل رئیس المحبس النافـذ رأیه فـی محیطـه یکون آمـراً بالنسبة‏‎ ‎‏إلیه . وواضـح : أنّه لا تعـدّ مکالمـة المـولیٰ مـع عبیده علـی طریق الالتماس‏‎ ‎‏والاستدعاء أمراً .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 115
وبالجملة :‏ معنی الأمر بالفارسیة هو «فرمان» ، ولا یطلق ذلک لکلّ طلب من‏‎ ‎‏کلّ أحد ، ولو لم یکن عالیاً ، أو کان عالیاً ولم یکن مستعلیاً ، بل إنّما یطلق إذا طلب‏‎ ‎‏العالی ؛ مستعلیاً .‏

‏ولعلّ ما ذکرنا واضح لمن تأمّل موارد استعمالهما فی اللغتین العربیة والفارسیة .‏

‏فعلیٰ هذا : لابدّ وأن یقال : إنّ مفهوم مادّة الأمر معنیً مضیّق ، لا ینطبق إلاّ علی‏‎ ‎‏الطلب الصادر من العالی المستعلی عند التحلیل .‏

‏ ‏

نقل وتعقیب

‏ ‏

‏ولبعـض الأکابـر‏‎[1]‎‏ ـ دامت برکاتـه ـ هنا مقالاً لا بأس بذکـره والإشارة‏‎ ‎‏إلـیٰ ما فیه .‏

فقال ما حاصله :‏ إنّ حقیقة الأمر بنفسه یغایر الالتماس والدعاء ، لا أنّ المغایرة‏‎ ‎‏بینهما باعتبار کون الطالب عالیاً أو مستعلیاً ؛ بحیث تکون مادّة الأمر موضوعة للطلب‏‎ ‎‏من العالی بما أنّه عالٍ ؛ بحیث یکون هناک قیداً .‏

‏وذلک لأنّ الطلب بنفسه ینقسم إلی قسمین :‏

الأوّل :‏ الطلب الذی قصد الطالب انبعاث المطلوب منه من نفس هذا الطلب ؛‏‎ ‎‏بحیث یکون داعیه ومحرّکه إلی الامتثال نفس هذا الطلب ، من دون شیء آخر .‏‎ ‎‏ویسمّی هذا القسم من الطلب أمراً .‏

والثانی : ‏الطلب الذی لم یقصد الطالب فیه انبعاث المطلوب منه من نفس‏‎ ‎‏طلبه ، بل قصد انبعاث المطلوب منه من هذا الطلب منضمّـاً ببعض المقارنات التی‏‎ ‎‏توجب وجود الداعی فی نفسه ، کطلب الفقیر من الغنی شیئاً ؛ فإنّه لا یقصد انبعاث‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 116
‏الغنی من نفس طلبه وتحریکه ؛ لعلمه بعدم کفایة بعثه فی تحریک الغنی ؛ ولذا یقارنه‏‎ ‎‏ببعض ما له دخل فی انبعاثه ، کالتضرّع والدعاء لنفس الغنی وما یتعلّق به . ویسمّیٰ‏‎ ‎‏هذا القسم من الطلب التماساً أو دعاءً .‏

‏فظهر : أنّ الطلب حقیقـةً علی قسمین ، غایـة الأمر : أنّ القسم الأوّل منه حـقّ‏‎ ‎‏مَن کان عالیاً ولا ینبغی صـدوره إلاّ من العالی المستعلی ، وهـو غیر الأخـذ فی‏‎ ‎‏المفهـوم . کما أنّ القسم الثانی شأن مـن یکون سافلاً ولو صدر مـن العالی یعدّ ذلک‏‎ ‎‏منه تواضعاً .‏

‏ومـع ذلک لو صـدر القسم الأوّل مـن السافل بالنسبة إلـی العالی کان أمراً ،‏‎ ‎‏ولکـن یذمّه العقلاء علی طلبه الـذی لیس شأناً له ؛ فیقـولون له : أتأمره ؟ ! کما أنّه‏‎ ‎‏لـو صـدر القسم الثانی مـن العالی لـم یکن أمـراً عندهم ، بل التماساً منه ، ویـرون أنّ‏‎ ‎‏هـذا منه تواضعاً .‏

‏فحقیقة الطلب علیٰ قسمین : فقسم منه یناسب العالی ؛ وهو الذی یسمّونه‏‎ ‎‏أمراً ؛ وهو الذی یعبّر عنه بالفارسیة بـ «فرمان» . کما أنّ القسم الآخر منه یناسب‏‎ ‎‏السافل ؛ وهو الذی یسمّونه التماساً أو دعاءً ؛ وهو الذی یعبّر عنه فیها بـ «خواهش و‏‎ ‎‏درخواست»‏‎[2]‎‏ ، انتهی .‏

وفیه :‏ أنّ هذا منه عجیب ، وکأنّه لا یرجع إلیٰ محصّل ؛ وذلک لأنّه ـ دامت‏‎ ‎‏برکاته ـ لا یریٰ کون الوضع فی مادّة الأمر بنحو الوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ،‏‎ ‎‏ولم یلتزم به أحد ـ مع أنّه لو التزم به أیضاً لا یتمّ ما أفاده ـ بل یریٰ أنّ الوضع‏‎ ‎‏والموضوع له فیها کلاهما عامّان .‏

‏فإذا کانت مادّة الأمـر موضوعـة لمطلق الطلب فلا معنی لعـدم صدقه علـی‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 117
‏الطلب الصادر مـن السافل أو المساوی ؛ ضرورة أنّ دلالة الألفاظ علـی معانیها ـ‏‎ ‎‏بعـدما لم تکن ذاتیـة ـ لم تکن جزافیـة ، بل تکون مرهونـة بالوضـع .‏

‏فعـدم صـدق الأمـر إلاّ علی الطلب من العالی المستعلی لا یکاد یعقل إلاّ مـع‏‎ ‎‏تقییـد فی مـدلولـه ومفهومـه ، مثل تقییـد مدلولـه بالطلب الصادر مـن العالی‏‎ ‎‏المستعلـی ، أو الطلب الـذی لیس مـن السافل أو المساوی ، إلـی غیـر ذلک . وإلاّ فمع‏‎ ‎‏عدم تقیید مدلوله بقیدٍ لا یصلح أن لا ینطبق إلاّ علیٰ فـرد منه ؛ وهـو الطلب مـن‏‎ ‎‏العالی المستعلی .‏

‏فعـدم صـدق الأمـر علـی الصادر مـن السافل أو المساوی یکشف عـن‏‎ ‎‏تضیّق فـی مفهومـه ، وإلاّ کان ذلک ـ مـع کون الوضـع فیه عامّاً والموضـوع لـه‏‎ ‎‏کذلک ـ جزافیاً وبلا وجه .‏

وبالجملة :‏ الأمر یدور بین وضع مادّة الأمر لمطلق الطلب أو لخصوص الطلب‏‎ ‎‏الصادر من العالی المستعلی .‏

‏فعلی الأوّل لا یتمّ قوله ـ دامت برکاته ـ إنّ الأمر الکذائی لا ینبغی صدوره‏‎ ‎‏خارجاً إلاّ من العالی المستعلی ، وکأنّه لا یرجع إلی محصّل .‏

‏وعلی الثانی لا محیص عن الالتزام بتقییده بقید حتّی لا یصدق علی غیرهما .‏

‏فإن کنت مـع ذلک فی ریب ممّا ذکرنا فاختبر نفسک حال الحیوان ؛ فإنّ له‏‎ ‎‏أنواعاً کثیرة ، فلو لم یقیّد الحیوان بالناطقیة ـ مثلاً ـ لا یمکن أن لا یصدق إلاّ علی‏‎ ‎‏الإنسان ، بل یکون صدقه علی الإنسان فی عرض صدقه علی الفرس والبقر والإبل‏‎ ‎‏وسائر الأنواع .‏

فظهر :‏ أنّ عـدم صـدق الأمـر علی الطلب الذی لم یصـدر من العالی مستعلیاً ،‏‎ ‎‏وذمّ العقلاء علیٰ طلبه یکشف إنّاً عـن تضییق فـی المفهوم . وکـذلک بالنسبة إلی‏‎ ‎‏الالتماس والدعاء .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 118

  • )) عنیٰ به اُستاذنا الأعظم العلاّمة البروجردی ، دام ظلّه [المقرّر حفظه الله ] .
  • )) لاحظ نهایة الاُصول : 86 .