التبادر وصحّة السلب
إذا تمهّد لک ما أشرنا إلیه فی الجهة السابقة ـ من عدم إمکان تصویر جامع بین المتلبّس بالمبدأ وما انقضیٰ عنه ـ ظهر لک : أنّ مقتضی القاعدة أن یکون المشتقّ حقیقة ـ فی خصوص المتلبّس بالمبدأ .
ولا یحتاج إلی تجشّم الاستدلال للدلالة علیٰ خصوص المتلبّس بالتبادر ؛ لأنّ ذلک بعد إمکان دعوی الأعمّ ، وقد عرفت عدم إمکان تصویر الجامع .
نعم ، لو سلّم إمکان دعوی الأعمّ فالتمسّک بالتبادر وجیه ، بل هو الدلیل
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75
الوحید فی إثبات المعانی اللغویة . والمتبادر من المشتقّ خصوص المتلبّس منه ؛ بداهة أنّ المتبادر من «زید عالم» تحقّق مبدأ العلم فیه فعلاً . ولا یصدق علیه لو کان متلبّساً به وانقضیٰ عنه ، إلاّ عنایةً ومجازاً .
وربّما یستـدلّ لـذلک : بصحّـة السلب عمّا انقضیٰ عنه ، وصحّـة الحمل للمتلبّس به .
ولکنّه غیر وجیه ؛ لأنّه إمّا ساقط ، أو مسبوق بالتبادر ، کما عرفته بما لا مزید علیه فی باب تشخیص المعنی الموضوع له .
وقد أسمعناک : أنّ البحث فی المشتقّ بحث لغوی ، وفی مفهومه التصوّری ؛ فالاستدلال لإثبات المدّعیٰ بالوجوه العقلیة وبالجری والإطلاق انحراف للمسألة عن مسیرها ؛ بداهة أنّه لا محذور عقلاً فی وضع المشتقّ للأعمّ من المتلبّس بالمبدأ وما انقضیٰ عنه وما یتلبّس بعد ، ویکون محلّ البحث والنزاع فی مفهومه التصوّری . نعم تکون تلک الوجوه مؤیّدات لإثبات المطلب .
وبالجملة : الدلیل الوحید اللائق بالبحث فی إثبات المعانی الحقیقیة هو التبادر . والوجوه العقلیة إن کانت تقریبات للتبادر فوجیه ، وإلاّ فغیر سدید .
فلا بأس بذکر تلک الوجوه التی استدلّت لکون المشتقّ حقیقة فی المتلبّس فعلاً ، والإشارة إلی ما فیها :
الوجه الأوّل :
إنّه لا شبهة فی أنّ العناوین المشتقّة من المبادئ المتضادّة ـ کالقیام والقعود ، والسواد والبیاض مثلاً ـ متضادّة فی نظر العرف ؛ بحیث یرون امتناع اجتماعهما فی موضوع واحد فی وقت واحد . فإذا أخبر أحد عن زید ـ مثلاً ـ بکونه قائماً ، وآخر بأنّه قاعد فی وقت واحد ، یرون هذین الخبرین متنافیین لا یمکن تصدیقهما ، وما ذاک
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76
إلاّ لاعتقادهم بکون مدلول هذه العناوین هو المتلبّس بالمبدأ الذی اشتقّت منه .
وفیه : أنّه إن أراد بـذلک : أنّه حیث یکـون المنسبق مـن عنوان «القائم» ـ مثلاً ـ المتلبّس بالقیام الفعلی ، وکـذا مـن عنوان «القاعـد» المتلبّس بالقعـود فعلاً ، یفهم العـرف التضادّ بینهما . وإن لـم یفهم منهما المتلبّس بالقیام أو القعـود الفعلی لم یکن بینهما تضادّ ؛ لأنّ التضادّ فـی کیفیة القیام والقعـود الواقعیین ، فهـو خارج عـن مسألـة المشتقّ .
وإن أراد : أنّ المشتقّات الحاکیة عـن تلک الکیفیات بحسب ارتکاز العـرف والعقلاء یکون بینهما تضادّ ؛ بحیث لو أخبر أحد بأنّ زیداً قائم فـی وقت ، وشخص آخر بأنّه قاعد فی ذاک الوقت یکون إخباراً بالضدّین ، فکلام صحیح لا غبار علیه . لکنّه تمسّک بالتبادر لا بشیء آخر ؛ لأنّه حیث یتبادر من «القائم» من له القیام ، ومن «القاعد» من له القعود ، لذلک یکون بینهما تضادّ ، وإلاّ فلا .
الوجه الثانی :
إنّ صحّة انتزاع عنوان عن موضوع ، وصحّة حمله وجریه علیه لابدّ وأن یکون لخصوصیة وحیثیة موجودة فی الموضوع ، وإلاّ لصحّ انتزاع کلّ عنوان ومفهوم من کلّ موضوع ، وحمل کلّ عنوان ومفهوم علیٰ کلّ شیء ، وهو خلاف الضرورة .
فمدّعی کـون المشتقّ موضـوعاً للأعمّ : إمّا یقول : إنّ انتزاع عنوان مـن موضوع وحمله علیه لا یحتاج إلی حیثیة وخصوصیة ، وقـد عرفت کونه مخالفاً للضرورة . أو یقول : إنّه یکفی فـی الانتزاع والجری فی الاُمـور الاعتباریة مجـرّد صـدق الحیثیة والخصوصیة ـ وإن لـم یکن باقیاً ـ وهـو أیضاً خـلاف الضرورة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77
وفیه : أنّ هذا تمام فی الاُمور الواقعیة ، ویکون وجهاً عقلیاً لها ؛ بداهة أنّه إذا لم یکن زید ـ مثلاً ـ واجداً لمبدأ العلم لا یصحّ صدق العالم وإطلاقه علیه حقیقة ، ولکن هذا لا یوجب امتناع إطلاق لفظ المشتقّ وجریه علیٰ ما انقضیٰ عنه ؛ لإمکان وضع اللفظ لمعنیً أعمّ ، ولا یلزم من الوضع کذلک محذور .
مع أنّه لنا ألفاظ موضوعة لمعانٍ متضادّة ، کلفظ «القُرْء» للطُهر والحیض .
وغایة ما یمکن أن یقال هنا : إنّ المتبادر من صحّة انتزاع عنوان من موضوع وجریه علیه هو فعلیة الحیثیة والخصوصیة فی الموضوع ، وهو تمام لا غبار علیه ، لکنّه تمسّک بالتبادر ، لا بشیء آخر .
الوجه الثالث :
ما أفاده المحقّق الأصفهانی قدس سره من أنّ مفهوم الوصف بسیط ؛ إمّا علیٰ ما یراه المحقّق الدوانی من اتّحاد المبدأ والمشتقّ ذاتاً واختلافهما اعتباراً ، أو علیٰ نحو آخر علیٰ ما یساعده النظر من کون مفهوم المشتقّ صورة مبهمة متلبّسة بالقیام علی النهج الوحدانی . ومع البساطة بأحد الوجهین لا یعقل الوضع للأعمّ ، ثمّ أخذ فی الاستدلال علی الامتناع .
وفیه : أنّه ـ کما سنشیر إلیه قریباً إن شاء الله ـ أنّ مسألـة بساطة المشتقّ وترکّبه لیست عقلیة ، والوجوه التی اُقیمت لبساطته مخدوشة . بل مسألة لغویة تابعـة لوضع المشتقّ لمعنیً بسیط أو مرکّب ، وقد أشرنا أنّ الطریق الوحید لإثباته التبادر .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ هذه المسألة لغویة راجعة إلیٰ مفهوم لفظ المشتق ، والدلیل الوحید فی إثبات الأوضاع والمعانی اللغویة هو التبادر ، لا العقل .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 78
وغیر خفی علیٰ من لاحظ المشتقّات نفسها ـ من دون کونها محکومة علیها أو بها ـ یریٰ أنّ تلک الهیئات لأجل تلاعب الموادّ وتشکّلها بها ، فهیئات المشتقّ موارد تلاعب المادّة بها وتلبّساتها بها . والإنصاف تبادر التلبّس الفعلی منها ، لا الأعمّ ، علیٰ فرض تصوّره .
والاستدلال بالوجوه العقلیة بمراحل عن الواقع ، إلاّ أن یکون المقصود منها تقریبات لإثبات التبادر ، والله العالم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 79