الأمر الرابع عشر فـی المشتـق

التبادر وصحّة السلب

التبادر وصحّة السلب 

‏ ‏

‏إذا تمهّد لک ما أشرنا إلیه فی الجهة السابقة ـ من عدم إمکان تصویر جامع بین‏‎ ‎‏المتلبّس بالمبدأ وما انقضیٰ عنه ـ ظهر لک : أنّ مقتضی القاعدة أن یکون المشتقّ‏‎ ‎‏حقیقة ـ فی خصوص المتلبّس بالمبدأ .‏

‏ولا یحتاج إلی تجشّم الاستدلال للدلالة علیٰ خصوص المتلبّس بالتبادر ؛ لأنّ‏‎ ‎‏ذلک بعد إمکان دعوی الأعمّ ، وقد عرفت عدم إمکان تصویر الجامع .‏

‏نعم ، لو سلّم إمکان دعوی الأعمّ فالتمسّک بالتبادر وجیه ، بل هو الدلیل‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 75
‏الوحید فی إثبات المعانی اللغویة . والمتبادر من المشتقّ خصوص المتلبّس منه ؛ بداهة‏‎ ‎‏أنّ المتبادر من «زید عالم» تحقّق مبدأ العلم فیه فعلاً . ولا یصدق علیه لو کان متلبّساً‏‎ ‎‏به وانقضیٰ عنه ، إلاّ عنایةً ومجازاً .‏

‏وربّما یستـدلّ لـذلک : بصحّـة السلب عمّا انقضیٰ عنه ، وصحّـة الحمل‏‎ ‎‏للمتلبّس به .‏

‏ولکنّه غیر وجیه ؛ لأنّه إمّا ساقط ، أو مسبوق بالتبادر ، کما عرفته بما لا مزید‏‎ ‎‏علیه فی باب تشخیص المعنی الموضوع له .‏

‏وقد أسمعناک : أنّ البحث فی المشتقّ بحث لغوی ، وفی مفهومه التصوّری ؛‏‎ ‎‏فالاستدلال لإثبات المدّعیٰ بالوجوه العقلیة وبالجری والإطلاق انحراف للمسألة عن‏‎ ‎‏مسیرها ؛ بداهة أنّه لا محذور عقلاً فی وضع المشتقّ للأعمّ من المتلبّس بالمبدأ‏‎ ‎‏وما انقضیٰ عنه وما یتلبّس بعد ، ویکون محلّ البحث والنزاع فی مفهومه التصوّری .‏‎ ‎‏نعم تکون تلک الوجوه مؤیّدات لإثبات المطلب .‏

‏وبالجملة : الدلیل الوحید اللائق بالبحث فی إثبات المعانی الحقیقیة هو التبادر .‏‎ ‎‏والوجوه العقلیة إن کانت تقریبات للتبادر فوجیه ، وإلاّ فغیر سدید .‏

فلا بأس بذکر تلک الوجوه‏ التی استدلّت لکون المشتقّ حقیقة فی المتلبّس فعلاً ،‏‎ ‎‏والإشارة إلی ما فیها :‏

الوجه الأوّل :

‏إنّه لا شبهة فی أنّ العناوین المشتقّة من المبادئ المتضادّة ـ کالقیام والقعود ،‏‎ ‎‏والسواد والبیاض مثلاً ـ متضادّة فی نظر العرف ؛ بحیث یرون امتناع اجتماعهما فی‏‎ ‎‏موضوع واحد فی وقت واحد . فإذا أخبر أحد عن زید ـ مثلاً ـ بکونه قائماً ، وآخر‏‎ ‎‏بأنّه قاعد فی وقت واحد ، یرون هذین الخبرین متنافیین لا یمکن تصدیقهما ، وما ذاک‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 76
‏إلاّ لاعتقادهم بکون مدلول هذه العناوین هو المتلبّس بالمبدأ الذی اشتقّت منه‏‎[1]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّه إن أراد بـذلک : أنّه حیث یکـون المنسبق مـن عنوان «القائم»‏‎ ‎‏ـ مثلاً ـ المتلبّس بالقیام الفعلی ، وکـذا مـن عنوان «القاعـد» المتلبّس بالقعـود فعلاً ،‏‎ ‎‏یفهم العـرف التضادّ بینهما . وإن لـم یفهم منهما المتلبّس بالقیام أو القعـود الفعلی لم یکن‏‎ ‎‏بینهما تضادّ ؛ لأنّ التضادّ فـی کیفیة القیام والقعـود الواقعیین ، فهـو خارج عـن‏‎ ‎‏مسألـة المشتقّ .‏

‏وإن أراد : أنّ المشتقّات الحاکیة عـن تلک الکیفیات بحسب ارتکاز العـرف‏‎ ‎‏والعقلاء یکون بینهما تضادّ ؛ بحیث لو أخبر أحد بأنّ زیداً قائم فـی وقت ، وشخص‏‎ ‎‏آخر بأنّه قاعد فی ذاک الوقت یکون إخباراً بالضدّین ، فکلام صحیح لا غبار علیه .‏‎ ‎‏لکنّه تمسّک بالتبادر لا بشیء آخر ؛ لأنّه حیث یتبادر من «القائم» من له القیام ، ومن‏‎ ‎‏«القاعد» من له القعود ، لذلک یکون بینهما تضادّ ، وإلاّ فلا .‏

الوجه الثانی :

‏إنّ صحّة انتزاع عنوان عن موضوع ، وصحّة حمله وجریه علیه لابدّ‏‎ ‎‏وأن یکون لخصوصیة وحیثیة موجودة فی الموضوع ، وإلاّ لصحّ انتزاع کلّ‏‎ ‎‏عنوان ومفهوم من کلّ موضوع ، وحمل کلّ عنوان ومفهوم علیٰ کلّ شیء ، وهو‏‎ ‎‏خلاف الضرورة .‏

‏فمدّعی کـون المشتقّ موضـوعاً للأعمّ : إمّا یقول : إنّ انتزاع عنوان مـن‏‎ ‎‏موضوع وحمله علیه لا یحتاج إلی حیثیة وخصوصیة ، وقـد عرفت کونه مخالفاً‏‎ ‎‏للضرورة . أو یقول : إنّه یکفی فـی الانتزاع والجری فی الاُمـور الاعتباریة مجـرّد‏‎ ‎‏صـدق الحیثیة والخصوصیة ـ وإن لـم یکن باقیاً ـ وهـو أیضاً خـلاف الضرورة .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 77
‏وفیه : أنّ هذا تمام فی الاُمور الواقعیة ، ویکون وجهاً عقلیاً لها ؛ بداهة أنّه إذا‏‎ ‎‏لم یکن زید ـ مثلاً ـ واجداً لمبدأ العلم لا یصحّ صدق العالم وإطلاقه علیه حقیقة ،‏‎ ‎‏ولکن هذا لا یوجب امتناع إطلاق لفظ المشتقّ وجریه علیٰ ما انقضیٰ عنه ؛ لإمکان‏‎ ‎‏وضع اللفظ لمعنیً أعمّ ، ولا یلزم من الوضع کذلک محذور .‏

‏مع أنّه لنا ألفاظ موضوعة لمعانٍ متضادّة ، کلفظ «القُرْء» للطُهر والحیض .‏

‏وغایة ما یمکن أن یقال هنا : إنّ المتبادر من صحّة انتزاع عنوان من موضوع‏‎ ‎‏وجریه علیه هو فعلیة الحیثیة والخصوصیة فی الموضوع ، وهو تمام لا غبار علیه ، لکنّه‏‎ ‎‏تمسّک بالتبادر ، لا بشیء آخر‏‎[2]‎‏ .‏

الوجه الثالث :

‏ما أفاده المحقّق الأصفهانی ‏‏قدس سره‏‏ من أنّ مفهوم الوصف بسیط ؛ إمّا علیٰ ما یراه‏‎ ‎‏المحقّق الدوانی من اتّحاد المبدأ والمشتقّ ذاتاً واختلافهما اعتباراً ، أو علیٰ نحو آخر علیٰ‏‎ ‎‏ما یساعده النظر من کون مفهوم المشتقّ صورة مبهمة متلبّسة بالقیام علی النهج‏‎ ‎‏الوحدانی . ومع البساطة بأحد الوجهین لا یعقل الوضع للأعمّ ، ثمّ أخذ فی الاستدلال‏‎ ‎‏علی الامتناع‏‎[3]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّه ـ کما سنشیر إلیه قریباً إن شاء الله ـ أنّ مسألـة بساطة المشتقّ‏‎ ‎‏وترکّبه لیست عقلیة ، والوجوه التی اُقیمت لبساطته مخدوشة . بل مسألة لغویة تابعـة‏‎ ‎‏لوضع المشتقّ لمعنیً بسیط أو مرکّب ، وقد أشرنا أنّ الطریق الوحید لإثباته التبادر .‏

فتحصّل ممّا ذکرنا :‏ أنّ هذه المسألة لغویة راجعة إلیٰ مفهوم لفظ المشتق ،‏‎ ‎‏والدلیل الوحید فی إثبات الأوضاع والمعانی اللغویة هو التبادر ، لا العقل .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 78
‏وغیر خفی علیٰ من لاحظ المشتقّات نفسها ـ من دون کونها محکومة علیها أو‏‎ ‎‏بها ـ یریٰ أنّ تلک الهیئات لأجل تلاعب الموادّ وتشکّلها بها ، فهیئات المشتقّ موارد‏‎ ‎‏تلاعب المادّة بها وتلبّساتها بها . والإنصاف تبادر التلبّس الفعلی منها ، لا الأعمّ ، علیٰ‏‎ ‎‏فرض تصوّره .‏

‏والاستدلال بالوجوه العقلیة بمراحل عن الواقع ، إلاّ أن یکون المقصود منها‏‎ ‎‏تقریبات لإثبات التبادر ، والله العالم .‏

‏ ‏

‎ ‎

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 79

  • )) استدلّ المحقّق العراقی قدس سره فیما أحضره عجالةً بهذا الوجه ؛ ولذا نقلنا عین عبارته التی استدلّ بها ، لاحظ بدائع الأفکار 1 : 183 .
  • )) قلت : مضافاً إلی أنّ محلّ البحث ، کما أفاده سماحة الاُستاذ ـ دام ظلّه ـ فی الدورة السابقة فی لفظة المشتقّ ومعناها التصوّری الإفرادی ، فالحمل والجری متأخّران عن الوضع ، فتدبّر .
  • )) نهایة الدرایة 1 : 194 ـ 195 .