الجهة الثامنة فی اختلاف مبادئ المشتقّات
لا إشکال فی اختلاف مبادئ المشتقّات من جهة کون بعضها حِرفة وصنعة کالبقّال والعطّار والتاجر والحائک ، وبعضها قوّة وملکة کالمجتهد والطبیب ، وبعضها من الأفعال کالمتحرّک والساکن والضرب والأکل ونحوها من الأفعال إلی غیر ذلک . إلاّ أنّ ذلک لا یوجب اختلافاً فی الجهة المبحوث عنها ـ وهی أنّها هل هی حقیقة فی خصوص المتلبّس بالمبدأ ، أو الأعمّ منه وممّا انقضی عنه ؟ ـ وإنّما الاختلاف فی أنحاء التلبّس والانقضاء .
مثلاً : یطلق التاجر والحائک علی من اتّخذ التجارة والحیاکة حرفة وصنعة له ، وانقضاء المبدأ عنهما لیس بمجرّد ترک عملیة التجارة والحیاکة حتّیٰ یکون إطلاقهما علیه حال کونه نائماً أو مشغولاً بالأکل ـ مثلاً ـ إطلاقاً علی ما انقضی عنه ، بل بذهاب حرفة التجارة وصنعة الحیاکة من یده .
کما هو الشأن فی أسماء الآلات والأمکنة ؛ فإنّها قد تدلّ علیٰ کون الشیء معدّاً لتحقّق الحدث بها أو فیها بنحو القوّة ، لا بنحو فعلیة تحقّق الحدث بها أو فیها ؛ فالمفتاح مفتاح قبل أن یفتح به ، والمسجد مسجد قبل أن یصلّی فیه ، وهکذا .
وبالجملة : اختلاف مبادئ المشتقّات ـ قوّةً وملکةً وحرفةً وصنعةً ـ لا یوجب اختلافاً فی الجهة المبحوث عنها ؛ لأنّ ذلک راجع إلی کیفیة التلبّس .
ولعلّ خلط جهة البحث دعی الأعمّی إلی الاستدلال لمقالته : بأنّه لو لم تکن المشتقّات موضوعة للأعمّ لَما صحّ إطلاق التاجر والحائک والمجتهد والطبیب إلی غیر ذلک علیٰ من لم یکن مشتغلاً بالتجارة والحیاکة والاجتهاد والطبابة فعلاً ، وکان نائماً أو
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 61
قائماً أو ماشیاً ، مع أنّ الوجدان أصدق شاهدٍ علیٰ صحّة الإطلاق حقیقة .
ولکن فی الاستدلال نظر ؛ لأنّه لو کانت الألفاظ موضوعة للأعمّ لابدّ وأن یصحّ إطلاق التاجر والحائک ـ مثلاً ـ علیٰ من هجر التجارة والحیاکة ورفضهما ، وصار من طلبة العلم مشتغلاً به لیلاً ونهاراً ، مع أنّه لا یطلق علیه حقیقة ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : لو تمّ ما ذکره الأعمّی لابدّ وأن یعمّ سائر المشتقّات ، مع أنّه لیس کذلک ، وهو واضح .
وثالثاً : أنّ مجرّد الإطلاق لا یدلّ علیٰ کونه حقیقة فیه ؛ لأنّه قد یطلق علیه مع عدم التلبّس بالمبدأ خارجاً ؛ فیطلق التاجر ـ مثلاً ـ علیٰ من لم یتلبّس بالتجارة بعد ، ولکنّه أعدّ مقدّماته . فلو تمّ ما ذکر یلزم کون المشتقّ حقیقة فی الأعمّ ممّا انقضیٰ عنه المبدأ وما یتلبّس به بعد ، مع أنّه لم یقل به أحد .
فظهر : أنّ تلک الاختلافات ترجع إلی کیفیة التلبّس بالمبدأ ، ولا یضرّ بالجهة المبحوث عنها .
فحینئذٍ : یقع الکلام فی سرّ الاختلاف ووجهه :
یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره : أنّ سرّ اختلاف المشتقّات هو الاختلاف فی المبادئ ؛ لأنّه بإشراب الجهات المذکورة ـ من القوّة والملکة ، والاستعداد والفعلیة ونحوها ـ فی ناحیة المبادئ یختلف التلبّس فی کلّ منها بحسبه .
ولکن فیه أوّلاً : أنّ لازم ذلک هو وضع الموادّ تارة للدلالة علی إفادة الملکة والقوّة ، واُخریٰ للدلالة علی الحرفة والصنعة ، وثالثة للدلالة علی الفعلیة . فیوجب الالتزام بأوضاع متعدّدة فی ذلک ، وهو بعید .
إلاّ أن یقال : إنّ ما أفاده لا یثبت تعدّد الوضع فی ناحیة المبادئ . وغایة ذلک :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 62
هو أنّ اختلاف المبادئ موجب لاختلاف المشتقّات ؛ فکما یمکن أن یکون ذلک بالوضع والحقیقة ، فکذلک یمکن أن یکون ذلک بنحو العنایة والمجاز .
وثانیاً : أنّه نریٰ موادّ تلک المشتقّات ولم یؤخذ فیها ذلک ؛ ضرورة أنّ المفتاح یدلّ علیٰ کون الشیء معدّاً لتحقّق الحدث به ـ وهو الفتح ـ بنحو القوّة ، ولم یؤخذ فی فَتَح یَفتَحُ ذلک ، وهو واضح . وهکذا غیرها .
ویظهر من المحقّق الأصفهانی قدس سره وجهاً آخر ؛ فإنّه قدس سره ـ بعد أن نفی کون الوجه ما أشار إلیه اُستاذه المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» ـ کما هو ظاهر غیر واحد من الأصحاب ـ من إشراب الفعلیة والقوّة والملکة والاستعداد ونحوها فی ناحیة المبادئ ، ولم یلتزم بالتصرّف فی ناحیة المبادئ أیضاً ـ قال : بل بوجه آخر یساعده دقیق النظر ، فقد ذکر فی عبارته الطویلة عناوین أربع ، لا یرتبط بما نحن فیه إلاّ عنوانین منها ، فقال ما ملخّصه :
الأوّل : ما یکون مثل حمل المقتضیٰ ـ بالفتح ـ علی المقتضی ـ بالکسر ـ مثل «النار حارّة» و«الشمس مشرقة» و«السمّ قاتل» ، إلیٰ غیر ذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 63
والنظر فی هذا القسم من العناوین لیس إلاّ مجرّد اتّحاد الموضوع والمحمول فی الوجود ، لا إلی اتّحادهما فی حال ؛ لیقال : إنّه إطلاق علیٰ غیر المتلبّس .
الثانی : ما یکون مثل أسماء الأمکنة والأزمنة والآلات کـ «هذا مذبح ، أو مسلخ ، أو مفتاح» ؛ فإنّ الجری فیها بلحاظ القابلیة والاستعداد ؛ لأنّ التصرّف فی المادّة أو الهیئة غیر ممکن فیها :
أمّا فی المادّة ؛ فلأنّ الآلة ـ مثلاً ـ فاعل ما به الفتح فی المفتاح ، وفاعل ما به الکنس فی المکنسة ، ولا معنی لکون الشیء فاعلاً لقابلیة الفتح أو الکنس ، أو لاستعدادهما . فلا معنی لإشراب القابلیة والإعداد والاستعداد فی المادة .
وأمّا فی الهیئة ؛ فلأنّ مفاد الهیئة نسبة الفاعلیة فی اسم الآلة ، ونسبة الظرفیة الزمانیة والمکانیة فی اسمی الزمان والمکان .
الثالث : ما یکون مثل الخیّاط والنسّاج والکاتب ـ إذا کانت الکتابة حرفة له ـ ونحوها من الأوصاف الدالّة علی الصنعة والحرفة ، وکان المبدأ فیها قابلاً للانتساب إلی الذات بذاته .
وسرّ الإطلاق فیها مع عدم التلبّس بنفس المبدأ : أنّه باتّخاذه تلک المبادئ حرفة فکأنّه ملازم للمبدأ دائماً .
الرابع : ما یکون کالتامر واللابن والبقّال ممّا لم یکن المبدأ فیها قابلاً للانتساب بذاته ؛ لأنّ مبادئها أسماء الأعیان ؛ فلابدّ من الالتزام بأنّ الربط الملحوظ بینها وبین الذات ربط تبعی لا بالذات ؛ بمعنی أنّ طبیعة الربط أوّلاً وبالذات بین الذات واتّخاذه بیع التمر واللَبَن والبَقْل حرفةً وشغلاً ، إلاّ أنّ التمر واللبن والبقل صارت مربوطة بالذات بالتبع ، لا بالذات .
ومن هذا القبیل الحدّاد ؛ فإنّ الحدید مربوط بالذات باتّخاذ صنعة الحدید حرفةً لا بالذات ، فهذه الهیئة کسائر الهیئات فی أصل المفهوم والمعنیٰ ، غایة الأمر : أنّ الربط
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 64
فیها ربط مخصوص من شأنه صدق الوصف علی الذات ما دام الربط الذاتی المصحّح لهذا الربط باقیاً ، لا أنّ المبدأ اتّخاذ الحرفة ، ولا أنّ الهیئة موضوعة للأعمّ ، انتهی .
أقول : لعلّه ـ کما أشرنا ـ لم یخف علیک : أنّ العنوان الأوّل والرابع المذکورین فی کلامه قدس سره خارجان عمّا نحن فیه ، فلا نحوم حوله فعلاً . والمربوط بما نحن فیه عنوانی الثانی والثالث . وحاصل ما أفاده فی العنوان الثانی فی سرّ الاختلاف إنّما هو بلحاظ الاختلاف فی الجری علی الذات .
وأمّا فی الثالث فسرّ الإطلاق مع عدم التلبّس بنفس المبدأ : أنّه باتّخاذه تلک المبادئ حرفة فکأنّه ملازم للمبدأ دائماً ، هذا .
ویظهر من المحقّق العراقی وشیخنا العلاّمة الحائری : أنّ سرّ الاختلاف هو الذی أشار إلیه المحقّق الأصفهانی قدس سره فی العنوان الثالث .
فإنّه قال المحقّق العراقی قدس سره : إنّ العرف یریٰ أنّ من یزاول هذه الأعمال عن ملکةٍ أو حرفةٍ ؛ متلبّساً بتلک الأعمال دائماً ، ولا یرون تخلّل الفترات بین تلک الأعمال موجباً لانقطاعها لینتفی التلبّس بها فیبطل الصدق علی القول بکون المشتقّ حقیقة فی المتلبّس .
وهذا هو السرّ فی صدق مثل التاجر والصائغ والشاعر علیٰ متّخذ التجارة والصیاغة والشعر حرفة ، ولا یستلزم ذلک صحّة إسناد الأفعال المشتقّة من تلک المبادئ فی تلک الفترات ؛ لکی یقال : إنّه لا یصحّ ذلک بالوجدان ؛ وذلک لأنّ النظر فی الأفعال متوجّه إلیٰ نفس صدور الحدث ، ومعه لا یبقیٰ موقع لإسناد الأفعال فی حال الفترات المزبورة . بخلاف الأسماء المشتقّة ؛ فإنّ النظر فیها متوجّه إلی الذات المتّصفة بالمبدأ ، وحیث لا یری العرف تلک الفترات بین الأعمال موجباً لانقطاعها کانت الذات متلبّسة بالمبدأ فی نظره ؛ حتّی فی حال الفترة المتخلّلة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 65
وقال شیخنا العلاّمة الحائری قدس سره : إنّ صحّة إطلاقها علیٰ من لیس متلبّساً بالمبدأ فعلاً ـ بل متلبّساً قبل ذلک من دون إشکال ـ من جهة أحد أمرین :
إمّا استعمال اللفظ الدالّ علی المبدأ فی ملکة ذلک أو حرفته أو صنعته .
وإمّا من جهة تنزیل الشخص منزلة المتّصف بالمبدأ دائماً ؛ لاشتغاله به غالباً ؛ بحیث یُعدّ زمان فراغه کالعدم ، أو لکونه ذا قوّة قریبة بالفعل ؛ بحیث یتمکّن من تحصیله عن سهولة ؛ فیصحّ أن یدّعیٰ أنّه واجد له .
والظاهر هو الثانی ، انتهی .
أقول : أمّا ما أفاده المحقّق الأصفهانی قدس سره فیما یرتبط بالمقام : فلنا کلام معه ؛ تارة فی الوجه المختصّ به ، واُخریٰ فی الوجه الذی اشترک معه العلمان :
أمّا فیما اختصّ به فنقول : لازم ما أفاده هوأنّه لا تکون للمشتقّات المذکورة مع قطع النظر عن الجری والحمل ـ أی بمفاهیمها التصوّریة ـ هذه المعانی المتعارفة ، مع أنّ الضرورة قاضیة بأنّه یفهم منها تلک المعانی مع عدم الجری والحمل أیضاً ؛ ضرورة أنّ مَن تصوّر المسجد بمفهومه التصوّری ینتقل ذهنه إلی المکان المتهیّئ للسجدة .
وأمّا الوجه الذی اشترک معه قدس سره العلمان ـ مع اختلاف عبائرهم ـ فهو : أنّ لازم قوله : «اتّخاذ تلک المبادئ حرفة کأنّه ملازم للمبدأ دائماً» ، وقول المحقّق العراقی : «لایری العرف تخلّل الفترات بین تلک الأعمال موجباً لانقطاعها» ، وقول شیخنا العلاّمة : «تنزیل الشخص منزلة المتّصف بالمبدأ دائماً ؛ لاشتغاله به غالباً» ، هو أنّ إطلاق التاجر والحائک علی من لم یتلبّس فعلاً بالمبدأ ؛ بمعنیٰ کونه الآن مشغولاً بالتجارة والحیاکة ، مع أنّ المتبادر من إطلاق التاجر والحائک علی شخص هو کون التجارة والحیاکة شغلاً له ، لا أنّه مشغول بهما فعلاً ، کما لا یخفیٰ .
فتحصّل : أنّ ما أفادوه فی وجه ذلک غیر وجیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 66
والذی یمکن أن یقال : إنّ بعض المشتقّات ـ وهو الکثیر منها ـ قد اُلغی عنها معنی الوصفیة وصارت بمنزلة أسماء الجوامد وأسماء أجناس کالمنارة والمسجد والمحراب ونحوها ؛ فإنّه لا ینقدح فی الذهن بسماع تلک الألفاظ موضع النور من المنارة ، ومحلّ السجدة من المسجد ، ومکان الحرب من المحراب ، بل المتبادر منها عند العرف ذوات تلک الحقائق ، ولا ینسبق المبادئ إلی الذهن أصلاً . بل المفتاح أیضاً کذلک ؛ لأنّه لا یفهم منه إلاّ الشیء المخصوص .
وأمّا المشتقّات التی لم یلغ عنها معنی الوصفیة ـ کالتاجر والصائغ ونحوهما ـ ویتبادر منها الصنعة والحرفة ، فبعد کون الالتزام بتعدّد الوضع بعیداً یمکن أن یقال : إنّه استعملت مجموع المادّة والهیئة فـی تلک المعانـی أوّلاً بنحـو المـجاز بمناسبةٍ ـ مثل المجاز المشهور ـ حتّیٰ صارت حقیقة فیها .
هذا ما ذهبنا إلیه فی الدورة السابقة ، ولکنّه لا یتمّ علی طریقتنا فی باب المجاز ؛ لأنّه قلنا : إنّه لم یستعمل اللفظ فی المجاز فی غیر ما وضع له ، بل استعمل فیما وضع له ، من دون تأوّل وادّعاء ، والادّعاء إنّما هو فی التطبیق .
ویشکل التفکیک بین أقسام المجاز بأن یقال : إنّه فی غیر ما نحن فیه یکون الادّعاء فی التطبیق ، وأمّا فی ما نحن فیه فاستعملت فی غیر ما وضع له . بل الأمر فی جمیع المجازات واحد ، وجمیعها ترتضع من ثدی واحد ، وعلیٰ وزان فارد .
والـذی ینبغی أن یقال علیٰ طریقتنا : هـو أنّه کثر تطبیـق معانیها المستعملـة فیها علیٰ تلک المعانـی المجازیـة ؛ حتّیٰ صارت بواسطـة کثـرة الاستعمال مصادیـق حقیقیـة لها .
وبالجملة : لم یستعمل اللفظ فی الحرفة أو الصنعة مجازاً ، بل استعمل فی معناه الموضوع له ، لکنّه انطبق المعنی الموضوع له علیها مجازاً . وتکرّر ذلک الانطباق حتّیٰ صارت مصداقاً حقیقیاً له ، من دون تأوّل وتجوّز ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 67