الأمر الثالث عشر استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد

الأمر الثالث عشر استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد[1]

‏ ‏

‏الحقّ : جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد .‏

‏ولکن ذهب جماعة إلی امتناعه عقلاً‏‎[2]‎‏ ، کما ذهب بعضهم إلی امتناعه بحسب‏‎ ‎‏القواعد الأدبیة‏‎[3]‎‏ .‏

‏ولیعلم : أنّ محلّ البحث وما ینبغی أن یکون مـورداً للنقض والإبـرام ـ کما‏‎ ‎‏أشار إلیه المحقّق الخراسانـی ‏‏قدس سره‏‎[4]‎‏ ـ هـو أن یستعمل اللفظ ویـراد به کلّ مـن المعنیین‏‎ ‎‏أو المعانـی مستقلاًّ ومنفرداً ؛ بحیث یکـون کلّ مـن المعنیین أو المعانـی متعلّقاً للنفـی‏‎ ‎‏أو الإثبات بحیاله .‏

‏فاستعمال اللفظ فی الجامع القابل للانطباق علی أفراد متکثّرة ، أو فی المرکّب ذی‏‎ ‎‏أجزاء ـ نظیر العامّ المجموعی ـ خارج عن محلّ البحث .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 19
ولا یخفیٰ :‏ أنّ عـدم جواز استعمال اللفظ فـی الأکثر ـ نظراً إلی اعتبار‏‎ ‎‏الـوحدة فی المعنی الموضوع له ، أو کـون الوضع تحقّق فی حال الـوحدة واستعمال‏‎ ‎‏اللفظ فـی الأکثر استعمال له فی غیـر ما وضع له ، أو فی خلاف ما هـو المعهود مـن‏‎ ‎‏الـوضع ـ ممّا لا یعتنیٰ به ؛ لما تقرّر فی محلّه : أنّه لا دلیل علی اعتبار الـواضع قید‏‎ ‎‏الوحدة فی المعنی الموضـوع له ، کما لا دلیل علی أنّ تحقّق الـوضع حال وحـدة المعنی‏‎ ‎‏لا یمنع عن استعماله فی الأکثر .‏

وعمدة ما یمکن أن یناقش فی الجواز :‏ هو الإشکال العقلی الذی أشار إلیه‏‎ ‎‏المحقّق الخراسانی ‏‏قدس سره‏‏ وغیره :‏

حاصله :‏ أنّ الاستعمال لیس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنیٰ ، بل عبارة‏‎ ‎‏عن إفناء المستعمِل اللفظ فی المعنیٰ ؛ بحیث یکون اللفظ عنواناً للمعنیٰ ، بل بوجهٍ‏‎ ‎‏نفسه ؛ ولذا یسری قبح المعنیٰ وحسنه إلی اللفظ ، کما لا یخفیٰ .‏

‏فإذا کان اللفظ وجهاً وفانیاً فی معنیً لا یمکن أن یکون فانیاً فی معنیً آخر فی‏‎ ‎‏نفس الوقت ؛ لاستلزام ذلک إلیٰ جمع اللحاظین فی زمان واحد ، ولا یکاد یمکن أن‏‎ ‎‏یکون فی استعمال واحد أن یلاحظ لفظ واحد وجهاً لمعنیین وفانیاً فی اثنین إلاّ أن‏‎ ‎‏یکون اللاحظ أحول العینین‏‎[5]‎‏ .‏

‏ویمکن تقریب الإشکال بوجوه ، وإن کان بعضها لا یساعد ظاهر هذا الکلام :‏

التقریب الأوّل ـ‏ ولعلّه الظاهر من هذا الکلام ـ وهو : أنّ الاستعمال جعل‏‎ ‎‏اللفظ فانیاً فی المعنیٰ ، ففی استعمال اللفظ فی المعنیٰ یلاحظ اللفظ تبعاً لملاحظة المعنی‏‎ ‎‏الملحوظ مستقلاًّ . فلو جاز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد یلزم اجتماع‏‎ ‎‏اللحاظین التبعیین ، وهما ـ کلحاظ الأمرین المستقلّین ـ محال .‏

التقریب الثانی :‏ هو أنّه لابدّ فی استعمال اللفظ فی المعنیٰ أن یلاحظ کلّ من‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 20
‏اللفظ والمعنیٰ ، غایة الأمر یلاحظ اللفظ آلةً لملاحظة المعنیٰ ، والمعنیٰ ملحوظ مستقلاًّ .‏‎ ‎‏فلو استعمل لفظ واحد فی معنیین یلزم لحاظ اللفظ مرّتین ؛ فیجتمع اللحاظان فی‏‎ ‎‏زمان واحد .‏

‏والفرق بین التقریبین واضح ؛ فإنّ لحاظ اللفظ تبعاً لملاحظة المعنیٰ عبارة عن‏‎ ‎‏اندکاک لحاظه فی لحاظ المعنیٰ ، وهذا بخلاف لحاظ اللفظ آلةً لملاحظة المعنیٰ ؛ فإنّه‏‎ ‎‏یلحظ اللفظ مستقلاًّ ، کما یلحظ المعنیٰ ، غایته : أنّ لحاظه آلة وواسطة للحاظ المعنیٰ .‏

‏وکیف کان : وجه استحالة الجمع بین اللحاظین هو أنّ الملحوظ بالذات فی‏‎ ‎‏الذهن قبل الاستعمال هو المعنیٰ ، وبعد تصوّر المعنیین فالملحوظ بالذات اللفظ بوجوده‏‎ ‎‏الذهنی .‏

‏والملحوظ بالذات یتشخّص باللحاظ ، کما أنّ اللحاظ یتعیّن بالملحوظ . نظیر ما‏‎ ‎‏فی الخارج ؛ فإنّ الماهیة فی الخارج تتشخّص بالوجود حقیقةً ، والوجود یتعیّن بالماهیة‏‎ ‎‏عرضاً .‏

‏وبالجملة : وزان الماهیة الذهنیة وزان الماهیـة الخارجیـة ؛ فکما أنّ الماهیـة‏‎ ‎‏الخارجیـة تتشخّص بالـوجود فکذلک الماهیة الذهنیـة تتشخّص باللحاظ . فنفس‏‎ ‎‏اللحاظ توجـد الشیء فی الـذهن ، لا أنّ هناک شیئاً تعلّق به اللحاظ ، فإذا اجتمع‏‎ ‎‏لحاظان فـی شیء واحـد یلزم أن یکـون شـیء واحـد شیئین .‏

‏هـذا فـی المعلوم بالذات .‏

‏وکذلک بالنسبة إلی المعلوم بالعرض ؛ وذلک لأنّ المعلوم بالعرض تابع للمعلوم‏‎ ‎‏بالذات فی الانکشاف ؛ فیلزم أن یکون الموجود الخارجی منکشفاً بانکشافین :‏‎ ‎‏أحدهما بلحاظٍ ، والآخر بلحاظٍ آخر فی آنٍ واحد ، وهو محال .‏

التقریب الثالث :‏ هو أنّ استعمال اللفظ فی المعنیٰ إفناؤه فیه ؛ فلو أفنی اللفظ فی‏‎ ‎‏معنیین یلزم أن یکون شیء واحد موجوداً بوجودین .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 21
‏وبعبارة اُخریٰ : استعمال اللفظ فی المعنیٰ هو إفناؤه بتمامه فی المعنیٰ ؛ فلو استعمل‏‎ ‎‏فی معنیین یلزم إفناؤه بتمامه فی آنٍ واحد فی معنیین ، وهو غیر معقول .‏

التقریب الرابع :‏ هو أنّ اللفظ وجود تنزیلی للمعنیٰ ولذا یقال : إنّ للشیء‏‎ ‎‏وجودات : 1 ـ وجـود عینـی 2 ـ وجود ذهنـی 3 ـ وجود کتبـی 4 ـ وجود لفظـی‏‎ ‎‏فلو استعمل اللفظ فی معنیین ـ مثلاً ـ یلزم أن یکون لفظ واحد وجوداً تنزیلیاً‏‎ ‎‏لاثنین ؛ فکما لا یعقل لشیء واحد وجودین خارجیین فکذلک ما هو منزّل بمنزلته .‏

‏ولکن الإشکال ـ بتقاریره الأربعة ـ غیر وجیه ؛ لأنّه لم یکن للاستعمال ذلک‏‎ ‎‏المقام . وحدیث فناء اللفظ فی المعنی أجنبی عن باب الاستعمال ؛ لأنّ الاستعمال جعل‏‎ ‎‏اللفظ علامة للمعنیٰ ، والمتلفّظ بلفظٍ یتوجّه إلیه ؛ توجّهاً تامّاً ، کما یکون متوجّهاً إلی‏‎ ‎‏المعنی کذلک .‏

‏نعم ، قـد توجب کثرة الاستعمال والممارسـة الغفلـة عـن اللفظ وعـدم‏‎ ‎‏الالتفات إلیه حین التلفّظ به ؛ ولـذا قـد یعـدّ بعض الألفاظ قبیحاً أو حسناً ، وهـذا‏‎ ‎‏غیـر الفناء .‏

‏وإلاّ لو کان ذلک لأجل السرایة وفناء اللفظ فی المعنیٰ ینبغی أن یسری کلّ ما‏‎ ‎‏للمسمّیٰ إلی اللفظ ؛ مثلاً لابدّ وأن تسری نجاسة العذرة أو الکلب والخنزیر وقذارتها‏‎ ‎‏إلی ألفاظها ، وهو کما تریٰ .‏

‏وبالجملة : الاستعمال لم یکن إفناء اللفظ فی المعنیٰ حتّیٰ تلزم تلک المحاذیر‏‎ ‎‏المتوهّمة ، بل حین الاستعمال یکون اللفظ والمعنیٰ ملحوظین ؛ خصوصاً فی ابتداء تعلّم‏‎ ‎‏لغة وتمرّنها ، وهو من الوضوح بمکان . فیجعل اللفظ علامة لمعنیً وکاشفاً عنه ؛ بسبب‏‎ ‎‏وضع الواضع اللفظ للمعنیٰ ، أو کثرة استعمال اللفظ فی معنیً ، ومن الواضح إمکان‏‎ ‎‏جعل شیء علامة لأشیاء متعدّدة .‏

‏فإذن : لا یجتمع اللحاظان ؛ لا من جانب المتکلّم ، ولا من جانب المخاطب :‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 22
‏أمّا من جانب المتکلّم ؛ فلأنّه یرتّب المعانی فی ذهنه أوّلاً ، ثمّ ینتقل منها إلی‏‎ ‎‏الألفاظ ، فیعبّر عن مقصوده بالألفاظ .‏

‏وأمّا من جانب المخاطب : فهو بعکس المتکلّم ؛ فهو یتوجّه أوّلاً إلی الألفاظ ، ثمّ‏‎ ‎‏إلی المعانی . فإذا کان للفظ واحد معنیان فالانتقال من کلّ من المعنیین إلی اللفظ نظیر‏‎ ‎‏الانتقال من لازمین إلی ملزوم واحد ، کالحرارة والضوء بالنسبة إلی الشمس ؛ فکما‏‎ ‎‏أنّه تارة ینتقل من ملاحظة کلّ من اللازمین مع الغفلة عن الآخر إلی الملزوم ، فکذلک‏‎ ‎‏فیما نحن فیه قد ینتقل المتکلّم من ملاحظة معنیً إلی اللفظ کما ربّما ینتقل من ملاحظة‏‎ ‎‏المعنیین إلی اللفظ .‏

‏هذا حال الانتقال من المعنی إلی اللفظ .‏

‏وکـذا الانتقال مـن اللفظ إلی المعنیٰ ، نظیـر الانتقال مـن الملزوم إلی اللازم ؛‏‎ ‎‏فکما أنّه ینتقل تارة مـن ملزوم إلی لازم واحـد ، واُخـری منه إلی لازمیه ، فکذلک‏‎ ‎‏ینتقل المخاطب مـن اللفظ تارة إلی معنیً واحـد ، واُخـریٰ ینتقل منـه إلی معنییه‏‎ ‎‏دفعـة واحدة .‏

فبعدما أحطت خبراً بما ذکرنا :‏ ظهر لک الخلل فی التقریبین الأوّلیین ، بل یظهر‏‎ ‎‏لک الخلل فی التقریب الثالث أیضاً ؛ لأنّ الاستعمال ـ کما أشرنا ـ هو إلقاء اللفظ وإرادة‏‎ ‎‏المعنیٰ ، لا إفناؤه فیه .‏

‏وبعبارة اُخری : الاستعمال طلب عمل اللفظ لإفهام المعنیٰ ، ومن الممکن ذکر‏‎ ‎‏لفظ وإرادة معنیین ، أو إفهام معنیین .‏

‏وأمّا التقریب الـرابع : فهو أشبه بالخطابة مـن البرهان ؛ لأنّه إن اُریـد بذلک :‏‎ ‎‏أنّ اللفظ وجـود تنزیلی للمعنیٰ غیر کـون اللفظ موضـوعاً للمعنیٰ فلا نسلّمه ؛‏‎ ‎‏بداهـة أنّه أنّیٰ للفظ «زید» وأن یکـون وجـوداً تنزیلیاً للمسمّیٰ بزید ؟ ! وبینهما مـن‏‎ ‎‏المباینة ما لایخفیٰ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 23
‏وإن اُرید بذلک : أنّ اللفظ بعد وضعه للمعنیٰ یحکی عنه فواضح أنّه لا یمتنع أن‏‎ ‎‏یحکی لفظ واحد عن معنیین ، ولولا ذلک لامتنع وضع اللفظ للأکثر من معنیً واحد ،‏‎ ‎‏وقد فرغنا عن إمکانه ووقوعه .‏

فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه :‏ أنّ الوجدان حاکم بعدم محذور عقلی فی استعمال اللفظ‏‎ ‎‏فی أکثر من معنیً واحد . مضافاً إلی وقوع ذلک فی کلمات الاُدباء والشعراء .‏

إذا أحطت خبراً بما ذکرنا :‏ یظهر لک الضعف فی التفصیل الذی ذکره المحقّق‏‎ ‎‏العراقی ‏‏قدس سره‏‏ ؛ وهو عدم جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً بحسب القواعد الأدبیة لو‏‎ ‎‏کان کلّ من المعنیین أو المعانی ملحوظاً بلحاظ خاصّ به ، والجواز لو کان المعنیین أو‏‎ ‎‏المعانی ملحوظاً بلحاظ واحد ؛ بحیث یکون اللفظ حاکیاً عن مفهومین ملحوظین‏‎ ‎‏بلحاظ واحد‏‎[6]‎‏ ، انتهی .‏

‏وهو من عجیب القول فی المسألة وخروج عن موضوع البحث ، فلا ینبغی‏‎ ‎‏التعرّض لردّه بعدما أشرنا ، وقد أشرنا بوقوع استعمال اللفظ فی الأکثر فی کلمات‏‎ ‎‏الشعراء والبلغاء .‏

فالحقّ‏ ـ کما أشرنا إلیه ـ جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد مطلقاً .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 24

  • )) کان تاریخ الشروع فی هذا الأمر یوم 23 رجب 1378 هـ . ق .
  • )) کفایة الاُصول : 53 ، حاشیة کفایة الاُصول ، المشکینی 1 : 207 ، نهایة الدرایة 1 : 152 .
  • )) معالم الدین : 33 ، قوانین الاُصول 1 : 67 / السطر23 .
  • )) راجع کفایة الاُصول : 53 .
  • )) کفایة الاُصول : 53 .
  • )) اُنظر بدائع الأفکار 1 : 146 و 150 .