الأمر الثالث عشر استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد
الحقّ : جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد .
ولکن ذهب جماعة إلی امتناعه عقلاً ، کما ذهب بعضهم إلی امتناعه بحسب القواعد الأدبیة .
ولیعلم : أنّ محلّ البحث وما ینبغی أن یکون مـورداً للنقض والإبـرام ـ کما أشار إلیه المحقّق الخراسانـی قدس سره ـ هـو أن یستعمل اللفظ ویـراد به کلّ مـن المعنیین أو المعانـی مستقلاًّ ومنفرداً ؛ بحیث یکـون کلّ مـن المعنیین أو المعانـی متعلّقاً للنفـی أو الإثبات بحیاله .
فاستعمال اللفظ فی الجامع القابل للانطباق علی أفراد متکثّرة ، أو فی المرکّب ذی أجزاء ـ نظیر العامّ المجموعی ـ خارج عن محلّ البحث .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 19
ولا یخفیٰ : أنّ عـدم جواز استعمال اللفظ فـی الأکثر ـ نظراً إلی اعتبار الـوحدة فی المعنی الموضوع له ، أو کـون الوضع تحقّق فی حال الـوحدة واستعمال اللفظ فـی الأکثر استعمال له فی غیـر ما وضع له ، أو فی خلاف ما هـو المعهود مـن الـوضع ـ ممّا لا یعتنیٰ به ؛ لما تقرّر فی محلّه : أنّه لا دلیل علی اعتبار الـواضع قید الوحدة فی المعنی الموضـوع له ، کما لا دلیل علی أنّ تحقّق الـوضع حال وحـدة المعنی لا یمنع عن استعماله فی الأکثر .
وعمدة ما یمکن أن یناقش فی الجواز : هو الإشکال العقلی الذی أشار إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره وغیره :
حاصله : أنّ الاستعمال لیس مجرّد جعل اللفظ علامة لإرادة المعنیٰ ، بل عبارة عن إفناء المستعمِل اللفظ فی المعنیٰ ؛ بحیث یکون اللفظ عنواناً للمعنیٰ ، بل بوجهٍ نفسه ؛ ولذا یسری قبح المعنیٰ وحسنه إلی اللفظ ، کما لا یخفیٰ .
فإذا کان اللفظ وجهاً وفانیاً فی معنیً لا یمکن أن یکون فانیاً فی معنیً آخر فی نفس الوقت ؛ لاستلزام ذلک إلیٰ جمع اللحاظین فی زمان واحد ، ولا یکاد یمکن أن یکون فی استعمال واحد أن یلاحظ لفظ واحد وجهاً لمعنیین وفانیاً فی اثنین إلاّ أن یکون اللاحظ أحول العینین .
ویمکن تقریب الإشکال بوجوه ، وإن کان بعضها لا یساعد ظاهر هذا الکلام :
التقریب الأوّل ـ ولعلّه الظاهر من هذا الکلام ـ وهو : أنّ الاستعمال جعل اللفظ فانیاً فی المعنیٰ ، ففی استعمال اللفظ فی المعنیٰ یلاحظ اللفظ تبعاً لملاحظة المعنی الملحوظ مستقلاًّ . فلو جاز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد یلزم اجتماع اللحاظین التبعیین ، وهما ـ کلحاظ الأمرین المستقلّین ـ محال .
التقریب الثانی : هو أنّه لابدّ فی استعمال اللفظ فی المعنیٰ أن یلاحظ کلّ من
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 20
اللفظ والمعنیٰ ، غایة الأمر یلاحظ اللفظ آلةً لملاحظة المعنیٰ ، والمعنیٰ ملحوظ مستقلاًّ . فلو استعمل لفظ واحد فی معنیین یلزم لحاظ اللفظ مرّتین ؛ فیجتمع اللحاظان فی زمان واحد .
والفرق بین التقریبین واضح ؛ فإنّ لحاظ اللفظ تبعاً لملاحظة المعنیٰ عبارة عن اندکاک لحاظه فی لحاظ المعنیٰ ، وهذا بخلاف لحاظ اللفظ آلةً لملاحظة المعنیٰ ؛ فإنّه یلحظ اللفظ مستقلاًّ ، کما یلحظ المعنیٰ ، غایته : أنّ لحاظه آلة وواسطة للحاظ المعنیٰ .
وکیف کان : وجه استحالة الجمع بین اللحاظین هو أنّ الملحوظ بالذات فی الذهن قبل الاستعمال هو المعنیٰ ، وبعد تصوّر المعنیین فالملحوظ بالذات اللفظ بوجوده الذهنی .
والملحوظ بالذات یتشخّص باللحاظ ، کما أنّ اللحاظ یتعیّن بالملحوظ . نظیر ما فی الخارج ؛ فإنّ الماهیة فی الخارج تتشخّص بالوجود حقیقةً ، والوجود یتعیّن بالماهیة عرضاً .
وبالجملة : وزان الماهیة الذهنیة وزان الماهیـة الخارجیـة ؛ فکما أنّ الماهیـة الخارجیـة تتشخّص بالـوجود فکذلک الماهیة الذهنیـة تتشخّص باللحاظ . فنفس اللحاظ توجـد الشیء فی الـذهن ، لا أنّ هناک شیئاً تعلّق به اللحاظ ، فإذا اجتمع لحاظان فـی شیء واحـد یلزم أن یکـون شـیء واحـد شیئین .
هـذا فـی المعلوم بالذات .
وکذلک بالنسبة إلی المعلوم بالعرض ؛ وذلک لأنّ المعلوم بالعرض تابع للمعلوم بالذات فی الانکشاف ؛ فیلزم أن یکون الموجود الخارجی منکشفاً بانکشافین : أحدهما بلحاظٍ ، والآخر بلحاظٍ آخر فی آنٍ واحد ، وهو محال .
التقریب الثالث : هو أنّ استعمال اللفظ فی المعنیٰ إفناؤه فیه ؛ فلو أفنی اللفظ فی معنیین یلزم أن یکون شیء واحد موجوداً بوجودین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 21
وبعبارة اُخریٰ : استعمال اللفظ فی المعنیٰ هو إفناؤه بتمامه فی المعنیٰ ؛ فلو استعمل فی معنیین یلزم إفناؤه بتمامه فی آنٍ واحد فی معنیین ، وهو غیر معقول .
التقریب الرابع : هو أنّ اللفظ وجود تنزیلی للمعنیٰ ولذا یقال : إنّ للشیء وجودات : 1 ـ وجـود عینـی 2 ـ وجود ذهنـی 3 ـ وجود کتبـی 4 ـ وجود لفظـی فلو استعمل اللفظ فی معنیین ـ مثلاً ـ یلزم أن یکون لفظ واحد وجوداً تنزیلیاً لاثنین ؛ فکما لا یعقل لشیء واحد وجودین خارجیین فکذلک ما هو منزّل بمنزلته .
ولکن الإشکال ـ بتقاریره الأربعة ـ غیر وجیه ؛ لأنّه لم یکن للاستعمال ذلک المقام . وحدیث فناء اللفظ فی المعنی أجنبی عن باب الاستعمال ؛ لأنّ الاستعمال جعل اللفظ علامة للمعنیٰ ، والمتلفّظ بلفظٍ یتوجّه إلیه ؛ توجّهاً تامّاً ، کما یکون متوجّهاً إلی المعنی کذلک .
نعم ، قـد توجب کثرة الاستعمال والممارسـة الغفلـة عـن اللفظ وعـدم الالتفات إلیه حین التلفّظ به ؛ ولـذا قـد یعـدّ بعض الألفاظ قبیحاً أو حسناً ، وهـذا غیـر الفناء .
وإلاّ لو کان ذلک لأجل السرایة وفناء اللفظ فی المعنیٰ ینبغی أن یسری کلّ ما للمسمّیٰ إلی اللفظ ؛ مثلاً لابدّ وأن تسری نجاسة العذرة أو الکلب والخنزیر وقذارتها إلی ألفاظها ، وهو کما تریٰ .
وبالجملة : الاستعمال لم یکن إفناء اللفظ فی المعنیٰ حتّیٰ تلزم تلک المحاذیر المتوهّمة ، بل حین الاستعمال یکون اللفظ والمعنیٰ ملحوظین ؛ خصوصاً فی ابتداء تعلّم لغة وتمرّنها ، وهو من الوضوح بمکان . فیجعل اللفظ علامة لمعنیً وکاشفاً عنه ؛ بسبب وضع الواضع اللفظ للمعنیٰ ، أو کثرة استعمال اللفظ فی معنیً ، ومن الواضح إمکان جعل شیء علامة لأشیاء متعدّدة .
فإذن : لا یجتمع اللحاظان ؛ لا من جانب المتکلّم ، ولا من جانب المخاطب :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 22
أمّا من جانب المتکلّم ؛ فلأنّه یرتّب المعانی فی ذهنه أوّلاً ، ثمّ ینتقل منها إلی الألفاظ ، فیعبّر عن مقصوده بالألفاظ .
وأمّا من جانب المخاطب : فهو بعکس المتکلّم ؛ فهو یتوجّه أوّلاً إلی الألفاظ ، ثمّ إلی المعانی . فإذا کان للفظ واحد معنیان فالانتقال من کلّ من المعنیین إلی اللفظ نظیر الانتقال من لازمین إلی ملزوم واحد ، کالحرارة والضوء بالنسبة إلی الشمس ؛ فکما أنّه تارة ینتقل من ملاحظة کلّ من اللازمین مع الغفلة عن الآخر إلی الملزوم ، فکذلک فیما نحن فیه قد ینتقل المتکلّم من ملاحظة معنیً إلی اللفظ کما ربّما ینتقل من ملاحظة المعنیین إلی اللفظ .
هذا حال الانتقال من المعنی إلی اللفظ .
وکـذا الانتقال مـن اللفظ إلی المعنیٰ ، نظیـر الانتقال مـن الملزوم إلی اللازم ؛ فکما أنّه ینتقل تارة مـن ملزوم إلی لازم واحـد ، واُخـری منه إلی لازمیه ، فکذلک ینتقل المخاطب مـن اللفظ تارة إلی معنیً واحـد ، واُخـریٰ ینتقل منـه إلی معنییه دفعـة واحدة .
فبعدما أحطت خبراً بما ذکرنا : ظهر لک الخلل فی التقریبین الأوّلیین ، بل یظهر لک الخلل فی التقریب الثالث أیضاً ؛ لأنّ الاستعمال ـ کما أشرنا ـ هو إلقاء اللفظ وإرادة المعنیٰ ، لا إفناؤه فیه .
وبعبارة اُخری : الاستعمال طلب عمل اللفظ لإفهام المعنیٰ ، ومن الممکن ذکر لفظ وإرادة معنیین ، أو إفهام معنیین .
وأمّا التقریب الـرابع : فهو أشبه بالخطابة مـن البرهان ؛ لأنّه إن اُریـد بذلک : أنّ اللفظ وجـود تنزیلی للمعنیٰ غیر کـون اللفظ موضـوعاً للمعنیٰ فلا نسلّمه ؛ بداهـة أنّه أنّیٰ للفظ «زید» وأن یکـون وجـوداً تنزیلیاً للمسمّیٰ بزید ؟ ! وبینهما مـن المباینة ما لایخفیٰ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 23
وإن اُرید بذلک : أنّ اللفظ بعد وضعه للمعنیٰ یحکی عنه فواضح أنّه لا یمتنع أن یحکی لفظ واحد عن معنیین ، ولولا ذلک لامتنع وضع اللفظ للأکثر من معنیً واحد ، وقد فرغنا عن إمکانه ووقوعه .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : أنّ الوجدان حاکم بعدم محذور عقلی فی استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد . مضافاً إلی وقوع ذلک فی کلمات الاُدباء والشعراء .
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا : یظهر لک الضعف فی التفصیل الذی ذکره المحقّق العراقی قدس سره ؛ وهو عدم جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً بحسب القواعد الأدبیة لو کان کلّ من المعنیین أو المعانی ملحوظاً بلحاظ خاصّ به ، والجواز لو کان المعنیین أو المعانی ملحوظاً بلحاظ واحد ؛ بحیث یکون اللفظ حاکیاً عن مفهومین ملحوظین بلحاظ واحد ، انتهی .
وهو من عجیب القول فی المسألة وخروج عن موضوع البحث ، فلا ینبغی التعرّض لردّه بعدما أشرنا ، وقد أشرنا بوقوع استعمال اللفظ فی الأکثر فی کلمات الشعراء والبلغاء .
فالحقّ ـ کما أشرنا إلیه ـ جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد مطلقاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 24