الجهة الاُولی : فی إمکان الاشتراک
یظهـر من بعض الوجـوه التی استـدلّ بها القائل بامتناع الاشتـراک : أنّ الاشتراک ممتنع عقلاً .
کما أنّه یظهـر من بعضـها الآخـر ـ الـذی أشار إلیـه المحقّق الخـراسانی قدس سره مـن لزوم اللغویة والإجمال ـ أنّ امتناعه عقلانی .
وکیف کان : ما یمکن أن یستدلّ به القائل بامتناع الاشتراک عقلاً وجهان :
الوجه الأوّل : ما أشار إلیه المحقّق العـراقی قدس سره وأجاب عنه .
هـذا الوجـه ملتئم مـن مقدّمتین :
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 9
الاُولیٰ : أنّ فی وضع اللفظ لمعنیً لایکون شخص اللفظ موضوعاً لشخص المعنیٰ ؛ ضرورة أنّ تشخّص اللفظ باستعماله ، وهو متأخّر عن الوضع ، بل الوضع یتعلّق بطبیعی اللفظ بنحو القضیة الحقیقیة ، بإزاء طبیعی المعنی أیضاً بنحو القضیة الحقیقیة ؛ ولذا یکون کلّ فرد من أفراد طبیعی اللفظ موضوعاً بإزاء فرد من أفراد طبیعی المعنیٰ .
الثانیة : أنّ الوضع لیس جعل اللفظ علامة للمعنیٰ ، بل هو عبارة عن جعل اللفظ مرآة للمعنیٰ وفانیةً فیه ؛ بحیث لا یری السامع وجود اللفظ فی الخارج إلاّ وجود المعنیٰ ؛ ولذا یسری استهجان المعنیٰ إلی اللفظ ، ویصیر اللفظ مستهجناً .
إذا تمهّد لک هاتین المقدّمتین : فلازم تعدّد الوضع والاشتراک هو کون لفظ من أفراد طبیعی اللفظ مرآةً وفانیاً دفعةً واحدةً ؛ فناءین فی أمرین متباینین ، وهو غیر معقول کما لا یعقل أن یکون وجود واحد ، وجود ماهیتین .
ولا یمکن أن یقال : إنّ الواضـع خصّص طائفة مـن أفراد طبیعـی اللفظ بمعنیً ، وطائفـة اُخـریٰ منها بمعنیً آخـر ؛ لما قلنا فـی المقدّمة الاُولی : أنّ الوضـع یسـری إلـی جمیع وجـودات طبیعی اللفظ بنحو القضیـة الحقیقیة ـ أی جمیع الأفـراد المقـدّرة والمحقّقـة ـ ومعـه کیف یعقل اختصاص طائفـة مـن أفراد طبیعی اللفظ بمعنیً ، والطائفة الاُخـریٰ منها بمعنیً آخـر ؟ ! لأنّ التخصیص إن کان مـع تمییز تلک الطائفة عن غیرها بمائز یتقوّم به اللفظ الموضوع خرج اللفظ عن الاشتراک ، وإن کان المائز الاستعمال المتعلّق باللفظ فلا یعقل أن یتقوّم اللفظ الموضوع بما هو متوقّف علی الوضع ؛ لأنّ استعمال اللفظ الموضوع فیما وضع له متأخّر عن اللفظ ووضعـه فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 10
یظهر مـن الجواب الثانـی مـن المحقّق العراقی قدس سره عـن الإشکال : بأنّه یـریٰ تمامیة المقدّمـة الاُولی وکبری المقدّمـة الثانیة ، ولکن ناقش فـی کون ما نحن فیه مـن صغـریٰ تلک الکبریٰ ؛ لأنّه قال : لا نسلّم أنّ وضـع اللفظ للمعنیٰ یوجب کونـه مـرآةً لـه بالفعل ، بل الوضـع یـوجب استعداد اللفظ المـوضوع للحکایـة عـن المعنیٰ عند الاستعمال ، وبالاستعمال یخـرج مـن القـوّة إلـی الفعلیة فـی الحکایـة والمرآتیة .
فعلیٰ هذا : إذا استعمل اللفظ فـی المعنی الآخـر ثانیاً یوجد فـرد جدید مـن طبیعی اللفظ ، ویصیر مرآةً للمعنی الآخر ، فلم یکن لفظ واحد شخصی مرآتین لمعنیین ، ولو فی آنین .
ولکن الذی یقتضیه التحقیق : هو عدم استقامة کلتا المقدّمتین ، مع عدم الاحتیاج فی أصل الإشکال إلی المقدّمة الاُولی ؛ وذلک :
أمّا المقدّمة الاُولیٰ ففیها :
أوّلاً : أنّه لو کان وضع اللفظ للمعنیٰ بالکیفیة التی ذکرها یلزم أن یکون الوضع والموضوع خاصّین فی جمیع الأوضاع ـ حتّیٰ فی أسماء الأجناس ـ وهو کما تریٰ .
بل الوضع عبارة عن جعل نفس طبیعی اللفظ لطبیعی المعنیٰ ، من دون لحاظ الکثرات ؛ لا من ناحیة اللفظ ولا من ناحیة المعنیٰ بنحو القضیة الحقیقیة .
ألا تریٰ أنّ فی وضع لفظة «الإنسان» مثلاً للماهیة المعلومة لم یلحظ فی ناحیة اللفظ کلّ ما یوجد للإنسان لفظة ، ولا فی ناحیة المعنیٰ کذلک ، بل وضعت طبیعی تلک اللفظة لطبیعی تلک المعنی والماهیة فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 11
وثانیاً : ـ کما أشـرنا وسیمـرّ بک مفصّلاً ـ أنّ تفسیر القضیـة الحقیقیة بما ذکـره لا تخلو عن إشکال ، وأنّه غیر ما اصطلحوا علیه فیها أرباب المعقول ، الذین هم المأخذ فیها ، فارتقب .
وثالثاً : النقض بالأعلام الشخصیة ؛ بداهة أنّها لم تکن کذلک ، کما لایخفیٰ .
ورابعاً : أنّ المستعمِل لا یستعمل شخص اللفظ فـی المعنیٰ ، بل یستعمل طبیعی اللفظ فی طبیعی المعنیٰ ، مثلاً عندما قال المستعمِل : «هذه حنطة» استُعملت طبیعی لفظة «الحنطة» فی طبیعی المعنیٰ ، لکن حمل الطبیعی علی الموضوع حملاً شائعاً یقضی بانطباق طبیعی المعنیٰ علی الهذیة ، لا استعمال اللفظة الشخصیة فی معنیً شخصی ، کما لایخفیٰ .
وبالجملة : فرق بین تطبیق المعنیٰ علی المصداق وبین استعمال اللفظ الجزئی فی المعنی الجزئی .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ المقدّمة الاُولیٰ مخدوشة . مع أنّها غیر محتاجة إلیها لإتیان الإشکال ؛ بداهة أنّه یمکن تنظیم صورة الإشکال أیضاً علی مذهبنا ـ من کون الوضع عبارة عن جعل طبیعی اللفظ لطبیعی المعنیٰ ـ کما لایخفیٰ .
وأمّا المقدّمة الثانیة ففیها : أنّه إن اُرید بفناء اللفظ فی المعنیٰ فناء الکیف المسموع فی المعنیٰ ، فلا یخفیٰ أنّه لا محصّل له ؛ لأنّ مرجعه إلیٰ فناء موجود خارجی فی موجود آخر ، وهو غیر معقول .
وإن اُرید بالفناء : أنّه عند الاستعمال یکون التوجّه والالتفات إلی المعنیٰ ـ کما لعلّ هذا هو الظاهر من قولهم بالفناء ـ ففیه : أنّ هذا فی الحقیقة إشکال علی استعمال اللفظ فـی أکثر مـن معنیً واحـد ، وسیظهر لک جلیاً فـی الأمر التالی إمکانـه ، وأنّیٰ له وللوضع لأکثر مـن معنیً واحد ؟ ! ضرورة أنّ الوضع ـ کما تقـدّم ـ هـو جعل اللفظ قبال المعنیٰ وعلامة له ، لا إفناء اللفظ فی المعنیٰ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 12
ولا یعقل الإفناء فی ناحیة الوضع ؛ بداهة أنّ الواضع عند وضعه اللفظ للمعنیٰ لابدّ وأن یلاحظ کلاًّ من اللفظ والمعنیٰ مستقلاًّ ، ومنحازاً کلاًّ منهما عن الآخر ، ثمّ یجعل اللفظ علامة للمعنیٰ ، وهذا المعنیٰ غیر حاصل فیما لو کان اللفظ فانیاً فی المعنیٰ ؛ ضرورة أنّه لم یلحظ الفانی إلاّ مرآةً وتبعاً للمعنیٰ .
فظهر : أنّ الواضع بوضعه ـ مع قطع النظر عن الاستعمال ـ لا یمکنه إفناء اللفظ فی المعنیٰ ، وبلحاظ استعمال المستعملین اللاحق للوضع ؛ حیث إنّه بمنزلة ملاحظة الشرط الخارج عن متن العقد لا یجب اتّباعه ، کما لا یخفیٰ .
مضافاً إلی أنّه سیمرّ بک : أنّ الاستعمال لا یکون إفناء اللفظ فی المعنیٰ ؛ خصوصاً فی أوائل الاستعمالات بعد الوضع .
نعم ، قـد توجب کثـرة الاستعمال واُنس الـذهن غفلة الشخـص عـن اللفظ وتوجّهـه إلـی المعنیٰ ، وهـذا غیـر إفناء اللفظ فـی المعنیٰ ، کما لا یخفـیٰ .
وبما ذکرنا تظهر : المناقشة فی جواب المحقّق العراقی قدس سره ؛ فإنّه لم یکن باب الاستعمال باب إفناء اللفظ فی المعنیٰ ، بل لو کثرت الاستعمالات توجب ذلک غفلة المستعمل عن اللفظ ، وقد أشرنا أنّه غیر الفناء ، فتدبّر .
الوجـه الثانی : أنّ الـوضع عبارة عـن جعل الملازمـة الذهنیة بین اللفظ والمعنیٰ أو ما یستلزمها ؛ فإذن بوضع اللفظ لمعنیین یوقـع ملازمتین مستقلّتین : إحداهما ملازمـة بین اللفظ ومعنیً .
والاُخـریٰ ملازمـة اُخـری بین ذلک اللفظ ومعنیً آخر .
فعلیه : لـو تصـوّر ذلک اللفظ یلزم انتقالان مستقلاّن ، وحضـور المعنیین دفعـةً واحدةً فی الذهن ، وهو محال .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 13
وفیه أوّلاً : أنّ غایة ما یقتضیه وضع اللفظ لمعنیً هو جعل اللفظ قبال المعنیٰ وعلامةً له ، ولم یکن هناک من الملازمة عین ولا أثر .
وثانیاً : أنّه لو سلّم ذلک ، وأنّ الواضع بوضعه اللفظ للمعنیٰ یوقع ملازمة ذهنیة بینهما فنقول : مرادکم بعدم إمکان حضور المعنیین إن کان عدم إمکان تصوّر معنیین أو أکثر دفعةً واحدةً فالحقّ ـ کما یتّضح فی الأمر التالی ـ عدم امتناعه .
وإن کان أنّه بعد الوضع لابدّ وأن یوجد کلّ من المعنیین مستقلاًّ بدون الآخر کما کانا حال الوضع .
ففیه : أنّ معنی استقلال المعنیٰ هو أن لا یکون معناه مرتبطاً بالآخر ، وهذا لاینافی حصول المعنی الآخر مقارناً لحصوله .
وبالجملة : فرق بین الاستقلال والانحصار ، والأوّل لا ینافی حضور المعنی الآخر مقارناً له بخلاف الثانی ، وهو أوّل الکلام ، فتدبّر .
والحاصل : أنّه لم یقم دلیل علیٰ کون الاستقلال بمعنیٰ عدم وجود انتقال آخر معه ـ الذی هو معنی الانحصار ـ بل معناه أنّ معناه لم یکن مرتبطاً بالمعنی الآخر ؛ فلاینافی حصول المعنی الآخر مقارناً لحصوله .
مضافاً إلی أنّ مرجع هذا الإشکال إلی عدم جواز استعمال اللفظ فی أکثر من معنیً واحد ، وهذا غیر الوضع للکثیر الذی نحـن بصدد إثبات إمکانه فعلاً ؛ لأنّ غایة ما یقتضیه ذلک هی صیرورة اللفظ مجملاً .
فظهر ممّا ذکر : أنّه لا محذور عقلاً فی الاشتراک .
ولکن ربّما یظهر مـن بعضهم : أنّ الاشتراک واجب ، بلحاظ أنّ الألفاظ
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 14
والتراکیب المؤلّفة منها متناهیـة ؛ لترکّبها مـن الحـروف الهجاء ، وهـی متناهٍ ، والمـرکّب مـن المتناهی متناهٍ . وأمّا المعانـی فغیر متناهیـة ، والحاجـة ماسّة إلیٰ تفهیم المعانـی جمیعاً بالألفاظ ؛ فلابدّ مـن الاشتراک لئلاّ یبقـیٰ معنیً بلا لفظ دالٍّ علیـه .
وفیه : أنّه إن اُرید من عدم التناهی معناه الحقیقی فیرد علیه :
أوّلاً : أنّه لا معنیٰ لعـدم تناهیها فـی نفس الأمـر ، کما لا یخفیٰ .
وثانیاً : لو سلّم عدم تناهی المعانی فی نفس الأمر وإمکان صدور الوضع لها من الله تعالیٰ غیر المتناهی فنقول : بعدم الحاجة إلیٰ تفهیمها جمیعاً ؛ لأنّ الحاجة إلیٰ تفهیمهم ما یتعلّق بأغراضهم متناهیة .
وإن اُرید بعدم التناهی : معناه العرفی ـ وهو الکثیر کما هو الظاهر ـ فنمنع کون الألفاظ من المعانی والطبائع الکلّیة کذلک .
نعم بالنسبة إلی المعانـی الجزئیـة ، کانت المعانی کثیرة بالنسبة إلی الألفاظ ؛ ولذا یوجـد الاشتراک فـی الأعلام الشخصیـة .
فتحصّل ممّا ذکر : أنّه لا دلیل علی امتناع الاشتراک ، کما لا دلیل علیٰ وجوبه . فالحقّ إمکان الاشتراک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۲): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15