الفصل العاشر فی الواجب الکفائی
ینقسم الواجب إلی الواجب العینی والواجب الکفائی ، وهـذا مـمّا لا إشکال فیه ؛ لأنّه لا شبهة فی وجود الواجبات الکفائیة فی الشریعة المقدّسة ، کأکثر أحکام المیّت وتجهیزه ، کما لا إشکال فی وجود الواجبات العینیة فیها ، کالصلاة والصوم وغیرهما .
ولکن وقع الکلام فی هویة الوجوب الکفائی ، وتصویره ، وکیفیة تعلّق الوجوب الکفائی وتوجّهه إلی المکلّفین ، وبیان الفرق بینه وبین الوجوب العینی .
وذلک لأنّ للوجوب الکفائی شأناً بین الواجبات ؛ لأنّه إذا ترک الواجب الکفائی یعاقب الجمیع علیه ، وإن أتی به واحد منهم یثاب علیه ویسقط التکلیف عن البقاقین ، مع أنّ الاعتبار یساعد علی أن یکون الثواب والعقاب علی الفعل أو الترک بالنسبة إلی کلّ أحد ، کما هو الشأن فی الواجب العینی .
ولذا وقعوا فی تصویر الواجب الکفائی فی حیص وبیص :
فقال بعض : إنّـه لا فرق بین الواجب العینی والکفائی إلاّ فی المکلّف بـه ؛ لأنّ المکلّف بـه فـی الـواجب العینی نفس الطبیعـة مقیّـدة بمباشـرة کـلّ مکلّف ، فکـلّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 455
مکلّف له تکلیف یخصّه ، بخلاف الواجب الکفائی ؛ فإنّ متعلّقه نفس الطبیعة .
ولکن فیه : أنّ هذا المقدار لا یشفی العلیل ، ولم یف ببیان ما هو العمدة فیه ؛ وهو تعیین المکلّف ـ بالفتح ـ فی الواجب الکفائی بأنّه صرف وجود المکلّف أو واحد غیر معیّن منهم ، إلی غیر ذلک ، فالعمدة بیان من یتوجّه إلیه التکلیف فی الواجب الکفائی .
وربّما یقال : إنّ الفرق بین الواجبین فی المکلّف ـ بالفتح ـ بأنّه فی الواجب العینی جمیع الأفراد علی نحو الاستغراق ، وفی الواجب الکفائی صرف وجود المکلّف ، وحیث إنّ صرف الوجود صادق علی الجمیع کما یصدق علی البعض ، فإذا أوجد جمیعهم المکلّف به یصدق علیهم صرف وجود المکلّف ، کما أنّه یصدق ذلک إذا أتی به بعضهم ، وإن ترک الجمیع فیعاقبوا أجمع .
وسیظهر لک قریباً ـ إن شاء الله ـ عند تصویر أقسام الواجب الکفائی ، عدم إمکان المساعدة علی ذلک .
قال المحقّق الخراسانی قدس سره : والتحقیق أنّ الواجب الکفائی سنخ من الوجوب ، وله تعلّق بکلّ واحد ، بحیث لو أخلّ بامتثاله الکلّ لعوقبوا علی مخالفته جمیعاً ، وإن سقط عنهم لو أتی به بعضهم . . . إلی آخره .
ولا یخفی : أنّه لم یظهر من کلامه قدس سره إلاّ أنّ الوجوب الکفائی سنخ وجوب شأنه کذا وکذا ، وهذا ممّا لا إشکال فیه ولا کلام .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 456
والکلام إنّما هو فی بیان أنّ المکلّف ـ بالفتح ـ فی الکفائی من هو ؟ هل هو جمیع الأفراد ـ کما کان کذلک فی العینی ـ أو لا ؟ وأنّ المکلّف به فیه هل هو صرف الوجود من الطبیعة ، أو مصداق منه ؟ فلم یکد یفهم ذلک من کلامه هذا .
ولکن حیث إنّ الواجبات الکفائیة لم تکن علی وزان واحد ـ بل تتصوّر علی صور متعدّدة ـ فلابدّ أوّلاً من تصویرها ، ثمّ ملاحظة أنّه هل یمکن تعریفها بنحو یشمل جمیع الصور ، أم لا ؟ ثمّ بیان الفرق بینها وبین الواجب العینی .
فنقول : فمن الواجبات الکفائیة ما لا یمکن أن یوجد ویتحقّق فی الخارج إلاّ فرد واحد منها ، کقتل سابّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم أو المرتدّ ونحوهما .
ومنها : ما یمکن فیه ذلک .
وحینئذٍ فتارة : یکون المطلوب فیه فرداً ومصداقاً من الطبیعة ، بحیث یکون الفرد والمصداق الآخر مزاحماً له فی الوجود أو مبغوضاً معه ، أو لا یکون مبغوضاً ولا محبوباً .
واُخری : لم یکن لخصوصیة الفردیة والمصداقیة دخالة فیه ، بل کان المطلوب صرف الوجود المتحقّق بمصداق أو مصداقین أو أکثر .
ومن الواضح : أنّه لا یمکن التکلیف الاستغراقی وتکلیف جمیع المکلّفین فی عرض واحد فی جمیع هذه الصور .
وذلک : أمّا فیما لا یقبل التکرار ـ کسابّ النبی صلی الله علیه و آله وسلم فواضح ؛ لأنّه لم یکن لقتله إلاّ مصداق واحد ، فلو اجتمعوا علی قتله لا یکون کلّ واحد منهم قاتلاً علی حدة ، بل جارح علیه ؛ لأنّه من الممتنع تکلیف جمیع آحاد المکلّفین وبعثهم فی عرض واحد علی إتیان أمر لا یقبل التکرار .
وبعبارة اُخری : التکلیف المطلق لآحاد المکلّفین فی عرض واحد بالنسبة إلی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 457
ما لا یمکن فیه تحقّق الکثرة لغرض انبعاثهم ممّا لا یمکن ، وهذا واضح .
وکذا یمتنع أن یتعلّق التکلیف بجمیع آحاد المکلّفین لو کان المتعلّق فرداً من الطبیعـة وکـان المصداق الثانی مزاحماً له فی الوجـود ، وهـذا واضح بعد تصوّر الصورة الاُولی . بل وکذا یمتنع ذلک لو کان المصداق الثانی مبغوضاً ، أو لم یکن مبغوضاً ولا محبوباً :
أمّا الأوّل : فلاقتضائه بعث الجمیع إلی المطلوب والمبغوض ، وهو واضح البطلان .
وأمّا الثانی : فلاقتضائه توجّه التکلیف إلی المطلوب وغیره ، ومن الواضح : عدم انقداح إرادة المولی للبعث إلی غیر المطلوب ؛ لاستلزامه الجزاف فی الإرادة ، وهو محال من المولی الحکیم .
نعم ، فیما إذا کان المتعلّق صرف الوجـود مـن الطبیعة القابلـة للتکرار ، فیمکـن بعث جمیع آحاد المکلّفین نحـو إیجاد صرف الوجود مـن الطبیعة ، ولازم ذلک لزوم اجتماعهم علی إیجاد صرف الوجود مجتمعاً ؛ لکونهم مکلّفین به حسب الفرض ، ویسقط بفعل واحد منهم ، ومقتضی ذلک : عقاب المتخلّف لترکه الأمر المطلق بلا عذر .
وبالجملة : لازم تکلیفهم بصرف الوجود من الطبیعة مجتمعاً هو عقاب المتخلّف منهم ؛ للزوم معاونته مع جمیع آحاد المکلّفین علی صرف الوجود من الطبیعة .
فظهر لک جلیاً : أنّه لا یکاد یمکن أن یکون المکلّف فی الواجب الکفائی فی جمیع الصور صرف الوجود من المکلّف الصادق علی الجمیع ، فالتفرقة بین الواجب الکفائی والعینی من هذه الجهة ـ کما یظهر من بعضهم ـ غیر مستقیم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 458
فلابدّ وأن یقال : إنّ المکلّف فی الواجب الکفائی فرد من المکلّفین : إمّا لا بشرط کما فـی بعض الصور ، أو بشرط لا کما فی البعض الآخر . فإن کان فرداً مـن المکلّفین مأخوذاً لا بشرط الجامع مع الاثنین والأکثر فیجتمع ذلک مع کون المکلّف به صرف الوجود مـن الطبیعة ، وأمّـا فیما إذا کان المتعلّق غیر قابل للتکرار ، أو یقبل ذلک ولکن کان الفرد الثانی مزاحماً له أو مبغوضاً أو غیر مطلوب ، فالمکلّف عند ذلک لابدّ وأن یکون الفرد بشرط لا .
إشکال ودفع
وتوهّم : أنّ الفرد غیر المعیّن لا وجود له فی الخارج ؛ لأنّ الوجود مساوق للتشخّص ، وهو ینافی التردّد والإبهام .
مدفوع : بأنّ غیر الموجود فی الخارج هو الفرد المتقیّد بعنوان غیر المعیّن ، ومن الواضح : أنّ غیر المعیّن بالحمل الأوّلی غیر موجود فی الخارج . ولا نرید بواحد من المکلّفین تصویر مفهوم غیر المعیّن ، کما لا یخفی . وأمّا عنوان «فرد من المکلّفین» فمفهومه مبیّن معلوم ، وله وجود فی الخارج .
مثلاً قولک : «بعتُ صاعاً من الصبرة» فکما أنّه یصدق علی کلّ واحد من الأصوع من الصبرة ، ومع ذلک لم یکن جمیع الأصوع مطلوبة فی عرض واحد . وکم فرق بین قولک هذا ، وبین قولک : «بعتُ صاعاً» ، أو «بعت هذا الصاع» ، کما لا یخفی ، فتدبّر .
فالصاع من الصبرة کلّی متقیّد لا یقبل الصدق علی الصاع من غیر هذه الصبرة ، ولکن مع کلّیته لا یقبل الصدق علی أکثر من صاع واحد .
وإن کان فی خواطرک ریبٌ فی تصویر الواحد لا بشرط وبشرط لا ، فنوضحه
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 459
بمثال : اُفرض أنّ لشخص خدماً عدیدة ، فیقول لهم : «فلیجئ أحد خدّامی» ، فإن کان مراده جیئة واحد منهم بشرط لا ، لا یصحّ أن یجیئ إلاّ واحد منهم ، وأمّا إن کان مراده واحداً منهم لا بشرط فیصحّ أن یجیئ اثنان أو أکثر منهم .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّه یمکن أن یقال : إنّ المکلّف ـ بالفتح ـ فی الواجب الکفائی ، واحد من المکلّفین ، ولازمه العقلی هو : أنّه لو خالف جمیع المکلّفین المکلّف به لیعاقبون بأجمعهم ؛ لصدق عنوان الواحد لا بشرط هناک ، وإن أتی به واحد منهم فیسقط التکلیف عن الجمیع ، من دون لزوم إشکال عقلی ، فتدبّر .
ویمکن تصویر الواجب الکفائی بنحو آخر ، نظیر ما تصوّرنا التردید فی المکلّف به فی الواجب التخییری وذببنا الإشکال عنه ، فیکون المکلّف فی الواجب الکفائی هذا ، أو أنت ، أو ذاک ، وهکذا ؛ إمّا بنحو لا بشرط أو بشرط لا .
ولا یخفی : أنّه ربّما لا یکون فی بعض الصور مانع من القول بأنّ المکلّف به صرف وجود الطبیعة ، ولا کون المکلّف صرف الوجود من المکلّفین ـ علی إشکال ـ کصلاة المیّت ، ولازمه تحقّقها بإتیانهم عَرضاً ؛ بأن یصلّوا علیه جماعة ، فیکون الجمیع مطیعین ، کما تتحقّق بإتیان بعضهم ، وتسقط عن الباقین . ولو ترکوها بأجمعهم یکونوا عاصین بأجمعهم .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : إمکان تصویر الواجب الکفائی ، فإن ورد دلیل فی مقام الإثبات ظاهره ذلک فیؤخذ بظاهره ، من دون إشکال .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 460