تصویر التخییر بین الأقلّ والأکثر ودفعه
إذا أحطت خبراً بما ذکرنا یظهر لک النظر فی تصویر بعض الأعاظم ـ دام ظلّه ـ التخییر بین الأقلّ والأکثر . وما أفاده ـ دام ظلّه ـ هو الذی أشار إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره ، ولکنّه ببیان آخر ، حاصله : أنّه یمکن التخییر بین الأقلّ والأکثر فیما إذا کان الأقلّ والأکثر داخلین تحت طبیعة واحدة مشکّکة ، یکون ما به الاشتراک فی الأفراد عین ما به الامتیاز ، وذلک کالخطّ القصیر والطویل إذا تعلّق بهما أمر ؛ فإنّ التخییر بین الفردین منه ممکن ؛ لأنّ الخطّ ما دام متدرّجاً فی الوجود یوجد شیئاً فشیئاً ولا تعیّن له ، ویکون کأنّه منهما قابلاً لکلّ تعیّن ؛ فلا یکون محصّلاً للغرض ، وإنّما یکون محصّلاً له إذا تعیّن فردیته للأقلّ أو الأکثر ، ولیس ذلک إلاّ إذا انقطع مسیره إمّا علی المرتبة القصیرة أو الطویلة . فالخطّ الممتدّ إنّما یکون محصّلاً للغرض إذا تعیّن بأحد الفردین ، وهو لیس إلاّ بانقطاع مسیره ، فیمکن التخییر بینهما .
وبالجملة : التفاوت بین الفردین من الخطّ وإن کان بالأقلّیة والأکثریة ، ولکن صیرورتهما فردین للطبیعة ومُحصّلین للغرض غیر ممکنة إلاّ بتحقّق الفردیة ، وهی متقوّمة بالمحدودیة بالحمل الشائع .
وقال ـ دام ظلّه ـ : إنّه یمکن أن یتصوّر قسم آخر للتخییر بین الأقلّ والأکثر ؛ وهو ما إذا کان کلّ من الأقلّ والأکثر محصّلاً لعنوان یکون ذاک العنوان محصّلاً للغرض ، وذلک کالتخییر بین القصر والإتمام فی بعض الموارد ؛ فإنّه وإن اُمر بهما مخیّراً مع اختلافهما بالأقلّیة والأکثریة ، ولکن اُرید بهما شیء واحد ـ وهو التخشّع
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 451
والتخضّع بنحو العبودیة المعلول لهما فی کلّ مرتبة ـ ففی مثله أیضاً یجوز التخییر .
وبالجملة : کلّ واحد من القصر والتمام محصّل لعنوان واحد ـ وهو عنوان التخشّع والتخضّع لِلّٰه تعالی الذی یترتّب علیه المصلحة ـ فالتخییر بین الأقلّ والأکثر فی مثل هذه الموارد أیضاً ممکن .
توضیح النظر هو : أنّ ما أفاده ـ دام ظلّه ـ أوّلاً : «أنّه لا تحقّق ولا تحصّل للخطّ ما دام متدرّجاً» إن أراد به : أنّ فرد الأقلّ من الخطّ بما أنّه أقلّ لا تحقّق ولا تحصّل له إلاّ بانقطاع مسیره ، أو أنّ الخطّ لم یکن خطّاً ما لم ینقطع .
فإن أراد الأوّل فمسلّم ، ولکنّه خروج عن محطّ البحث فی التخییر بین الأقلّ والأکثر ، ودخول فی المتباینین ، کما أشرنا آنفاً .
وإن أراد الثانی ، ففیه : أنّه قبل تعیّنه للفردیة یصدق علیه الخطّ حقیقة ، فلو کان لنفس القدر المشترک بین القصیر والطویل أثر ، یترتّب علیه وإن لم یتعیّن بالطول والقصر .
وبالجملة : قوله ـ دام ظلّه ـ خلط للطبیعة اللابشرط بالطبیعة بشرط لا ؛ لأنّ مقداراً من الخطّ غیر المتعیّن بأحدهما کما یکون مصداقاً لطبیعة الخطّ یکون مصداقاً لذراع لا بشرط ؛ فلابدّ وأن یحصل به الغرض ، وعند ذلک یکون الزائد علیه ممّا لا دخل له فی حصول الغرض . نعم لم یکن مصداقاً لذراع بشرط لا ، وواضح : أنّه لم یکن ذلک محطّ البحث ، فتدبّر .
وأمّا ما ذکره ـ دام ظلّه ـ ثانیاً ، فلم نکد نفهمه ؛ لأنّ النزاع لم یکن فی حصول الغرض بواسطة العنوان ، بل فی أنّ الغرض هل یحصل بالأقلّ أم لا ؟
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 452
فإذن : الأقلّ اللابشرط إذا وجد فهل یحصل الغرض به ـ ولو بواسطة حصول العنوان المحصّل له ـ أم لا ؟
فإن حصل فیکون الزائد ممّا لا دخل له فی حصول الغرض ، فلا یبقی ، وإن کان حصول الغرض بالأقلّ مشروطاً بوقوعه علی حدّ الأقلّ فیخرج عن محطّ البحث ویدخل فی المتباینین ، فتدبّر .
ولعلّه تحقّق ممّا ذکرنا : أنّه لو کان الأقلّ والأکثر تدریجی الوجود لا معنی للتکلیف التخییری ؛ لأنّ الأقلّ اللابشرط فی جمیع الأحوال یتحقّق ویوجد قبل الأکثر ، فإن کان الغرض واحداً یترتّب علیه ، وإن کان هناک غرضان فلا یمکن للمولی أن یتوصّل إلی الغرض الثانی سواء کان الغرضان متزاحمین فی الوجود ، أو کان جمعهما مبغوضاً للمولی والأمر علیهما واضح ، أو لم یکن کذلک ؛ لأنّ مقتضی التکلیف التخییری هو صحّة إمکان التوصّل بأیّهما شاء ، فبوجود صرف وجود الواجب یتحقّق الأقلّ اللابشرط ، فلا معنی لبقاء الوجوب بعد ؛ لسقوط التکلیف التخییری بإتیان طرف وجود الواجب . هذا کلّه فی التدریجیات .
وأمّا التخییر فی الدفعیات : فإن کان للمولی غرض واحد یحصل بالأقلّ ـ وتوهّم ترتّبه علی الأکثر ـ فإن کان الغرض مترتّباً علی الأقلّ لو وجد منفرداً ، وأمّا إن وجد فی ضمن الأکثر فالغرض مترتّب علی الأکثر ، فیخرج عن محطّ البحث ویدخل فی المتباینین . فلابدّ وأن یتصوّر الأقلّ بنحو یترتّب الغرض علی وجوده ؛ سواء وجد مستقلاًّ ، أو وجد فی ضمن الأکثر .
وبالجملة : لو کان الأقلّ بنحو لو وجد مستقلاًّ یترتّب علیه الغرض ، وأمّا إن وجد فی ضمن الأکثر فلا یترتّب علیه الغرض ، بل علیه وعلی غیره ؛ فلا یکون التخییر بین الأقلّ والأکثر ، بل بین المتباینین ، وإنّما یکون التخییر بین الأقلّ والأکثر
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 453
إذا کان الغرض مترتّباً علی ذات الأقلّ ؛ وجد مستقلاًّ أو مع الأکثر .
وتصوّر ذلک یکفی فی عدم إمکان التخییر هنا ؛ بداهة أنّ المولی إذا رأی أنّ غرضه یحصل بإتیان الأقلّ ـ حتّی إذا کان فی ضمن الأکثر ـ فیکون مؤثّراً فی تحصیل غرضه ، فیکون الزائد من قبیل وضع الحجر جنب الإنسان ، ومحال أن یتعلّق الأمر والإیجاب بما لا یکون له دخالة فی حصول الغرض .
وکذا إذا کان للمولی غرضان یترتّب أحدهما علی الأقلّ والآخر علی الأکثر ، ولکن یکون الغرضان متزاحمین وجوداً ، أو کان الجمع بینهما مبغوضاً له ، فمحال أن یتعلّق أمر المولی بالزائد ؛ ضرورة أنّ أمر المولی للتوصّل إلی غرضه ومطلوبه ، والمفروض أنّ ما یحصل بالأکثر مزاحم أو مبغوض له ، ولا یعقل أن یتوصّل المولی بما یوجب الجمع بین المتزاحمین أو المبغوضین .
وأمّا إذا لم یکن الغرض الآخر المترتّب علی الأکثر مزاحماً ولا مبغوضاللغرض المترتّب علی الأقلّ ، فیمکن التخییر بینهما ، وللمکلّف أن یأتی بأیّهما شاء ؛ فإن أوجد الأکثر فقد أتی بما یکون محصّلاً لغرضه وشیء آخر ، وللمولی أن یختار أیّهما شاء .
فتحصّل ممّا ذکرنا : إمکان تصویر التخییر بین الأقلّ والأکثر فی قسم من الدفعیات فقط ؛ وهو ما إذا کان هناک غرضان قابلان للاجتماع ، ولا یکون لاجتماعهما مبغوضیة ، فإذا أمکن تصویر التخییر بین الأقلّ والأکثر فی مورد ، فحیث إنّه لا اطّلاع لنا علی کیفیة تعلّق الأغراض بمتعلّقات الأحکام ، فإن ورد دلیل ظاهره التخییر بین الأقلّ والأکثر یؤخذ بظاهره ، فلعلّه من هذا القسم .
وأمّا فی التدریجیات فقد عرفت ـ لعلّه بما لا مزید علیه ـ عدم إمکان تصویر التخییر فیها ، فلو ورد ما ظاهره التخییر فلابدّ من التصرّف فیه ؛ إمّا فی الموضوع ، أو فی الحکم . والله الهادی إلی سواء الطریق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 454