امتناع تصویر الواجب التخییری والجواب عنه
قد یقال بامتناع تعلّق الأمر بأحد الشیئین أو الأشیاء علی نحو التردید ؛ بأن یکون الواجب هو المردّد بینهما أو بینها .
ویقال فی تقریبه : إنّ الإرادة ـ کالعلم ونحوه ـ من الصفات الحقیقیة ذات الإضافة ، لها نحو تعلّق بالمرید والمراد ـ کما أنّ للعلم نحو تعلّق بالعالم والمعلوم ـ فلا یمکن تحقّق الإرادة بدون المراد ، کما لم تکد تتحقّق بدون المرید ، وهذا واضح .
ومن الواضح أیضاً المحقّق فی محلّه : أنّ الوجود ـ ذهنیاً کان أو خارجیاً ـ یساوق الوحدة والتعیّن والتشخّص ، والوجود المتردّد واقعاً والمبهم کذلک بین شیئین أو الأشیاء لا یکاد یعقل تحقّقه لا خارجاً ولا ذهناً .
فإذن : طرف إضافة الإرادة ـ أعنی المراد ـ لا یکاد یعقل أن یکون معدوماً ؛ بداهة أنّ التفوّه به مساوق لوجود العاشق بدون المعشوق ، والمحبّ بدون المحبوب ، إلی غیر ذلک ، وهو بدیهی البطلان .
کما لا یکاد أن یکون وجوداً غیر متعیّن ومتشخّص ؛ لما أشرنا أنّ الوجود مساوق للتعیّن والتشخّص . فمحال أن یکون المراد شیئاً معدوماً أو مبهماً وغیر متعیّن ، ومع ذلک متحقّقاً ؛ سواء فی الذهن أو فی الخارج .
لا یقال : إنّ العلم کما یتعلّق بأمر معیّن معلوم تفصیلی ، کذلک یتعلّق بأمر مردّد معلوم إجمالی ؛ فلتکن الإرادة کذلک .
فإنّا نقول : إنّ متعلّق العلم فی العلم الإجمالی لم یکن مبهماً ومردّداً ، بل معلوماً
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 442
مشخّصاً ، وغایة ما هناک هو اشتباه المعلوم المشخّص فی البین .
وبالجملة : أنّ المراد فی الإرادة ـ سواء کانت تکوینیة أو تشریعیة ـ لا یعقل أن یکون مردّداً ومبهماً ؛ لأنّ الإرادة مسبوقة بمبادئمنها التصدیق والشوق ، ولا یکاد یتعلّق التصدیق بأمر مبهم ، ولا الشوق کذلک ؛ فکذا الإرادة .
وهکذا الکلام فی البعث ؛ فإنّه یقع بلفظ ـ کهیئة الأمر وغیرها ـ مضاف إلی شیء هو المبعوث إلیه ؛ فیکون لکلٍّ من آلة البعث ومتعلّقها وجود ـ ذهناً أو خارجاً ـ لا یمکن أن یتطرّق إلیه التردّد الواقعی ، فالواجب التخییری لازمه التردّد الواقعی فی الإرادة التشریعیة ومتعلّقها ، وفی البعث اللازم منه التردّد فی آلته ومتعلّقها ، وکلّ ذلک محال ؛ لاستلزامه الإبهام الواقعی فی المتشخّصات والمتعیّنات الواقعیة .
دفع المحقّق النائینی قدس سره الإشکال بالفرق بین الإرادتین ، وحاصله : أنّه لا مانع من تعلّق الإرادة فی الإرادة الآمریة بأحد الشیئین أو الأشیاء علی وجه البدلیة ؛ بأن یکون کلّ واحد بدلاً عن الآخر ، ولا یمکن تعلّق الإرادة الفاعلیة بذلک ، ولا ملازمة بین الإرادتین ؛ ولذا لا تری إشکالاً فی تعلّق إرادة الآمر بالکلّی ، ولا یکاد یصحّ تعلّق الإرادة الفاعلیة به مجرّداً عن الخصوصیات الفردیة .
والسرّ فی ذلک هو : أنّ لکلّ منهما شأناً لیس للآخر ، ویکون بعض الخصوصیات من لوازم الإرادة الفاعلیة ، حیث إنّها تکون مستتبعة لحرکة عضلاته ، ولا تمکن حرکة العضلات نحو المبهم المردّد . بخلاف الإرادة الآمریة ؛ فإنّه لو کان کلّ من الشیئین أو الأشیاء ممّا یقوم به غرضه الوجدانی فلابدّ وأن تتعلّق إرادته بکلّ واحد علی سبیل البدلیة ، فیکون المکلّف مخیّراً فی إتیان أیّهما شاء .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 443
ولا یخفی : أنّ ظاهر کلام هذا المحقّق یعطی أنّ المحذور فی عدم تعلّق الإرادة الفاعلیة بالمبهم إنّما هو استلزام الإرادة الفاعلیة لتحریک العضلات ، ولا یمکن ذلک نحو المردّد المبهم ، وإلاّ فلا محذور فی تعلّق الإرادة الفاعلیة بالأمر المبهم فی حدّ نفسه .
وبالجملة : یری المحقّق النائینی قدس سره : أنّ امتناع تعلّق الإرادة الفاعلیة بالأمر المبهم لیس ذاتیاً ، بل أمر عرضی ؛ لأجل استلزامه تحریک العضلات .
ولکن لا یخفی : أنّ الإشکال والمحذور المشار إلیه إنّما هو لامتناعها فی نفسها ولمبادئها ؛ لما أشرنا من أنّ الإرادة مسبوقة بالتصوّر والتصدیق والشوق أحیاناً ، ومحال أن یتعلّق شیء منها بالمبهم المردّد ، وبعبارة اُخری : الإرادة مسبوقة بالعلم والإدراک ، وهما لا یکادان یتعلّقان بأمر مبهم واقعی غیر موجود .
نعم ، مفهوم أحدهما والمبهم ، له وجود وتحقّق ، ولکن الکلام لم یکن فی مفهومهما ، بل فی واقعهما ، ولا تحقّق لهما ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : أنّه ذکرنا غیر مرّة أنّه لم یکن لنا سنخان من الإرادة ، بل سنخ واحد ، غایته : أنّها إذا تعلّقت بالتشریع والتقنین یعبّر عنها بـ «الإرادة التشریعیة» ، وإن تعلّقت بأمرٍ غیره یعبّر عنها بـ «الإرادة التکوینیة» ، فالفرق بین الإرادة التکوینیة والإرادة التشریعیة إنّما هو فی المتعلّق لیس إلاّ .
فإذن : وزان الإرادة التشریعیة ، وزان الإرادة التکوینیة ، وبالعکس ؛ فالفرق بینهما ممّا لا محصّل له . فما أفاده المحقّق النائینی قدس سره غیر وجیه .
کما أنّ ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره غیر مفید ؛ لأنّه قال ـ مع إغلاق فی العبارة ـ ما حاصله : إنّ الواجب التخییری سنخ إرادة ناقصة متعلّقة بکلّ واحد من الطرفین .
والمقصود بـ «الإرادة الناقصة» هو : أنّها لا تسدّ العدم من جمیع الجهات فی الطرفین ، بل تسدّ العدم من بعض الجهات ـ أی یرید هذا عند عدم وجود الآخر ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 444
والآخر عند عدم وجود هذا ـ ولذا یکون الواجب التخییری نحو إرادة وجوبٍ متعلّق بهذا أو ذاک .
وذلک لأنّ الکلام فی إمکان تصویر الواجب ، والإشکال فی أنّه کیف یعقل تعلّق الإرادة بأحدهما المبهم غیر المعیّن ؟
فالحریّ أن یتصدّی قدس سره لرفع الإشکال : بأنّ الإرادة فی الواجب التخییری لم تتعلّق بالمبهم والمردّد ؛ تامّةً کانت الإرادة ، أم ناقصة .
ولکنّه قدس سره عدل عن هذا وتصدّی لبیان الفرق بین الإرادة التخییری والتعیینی ؛ بأنّ مقتضی الأوّل تعلّق إرادتین ناقصتین بشیء ، والثانی تعلّق إرادة تامّة به .
والجواب الحقیق عن الإشکال یتوقّف علی ملاحظة حال البعث فی الواجب التخییری أوّلاً ، ثمّ ملاحظة حال الإرادة :
فنقول : إنّ الوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّه لا فرق بین قول المولی لعبده أو غلمانه : «أکرم زیداً» وبین قوله : «أکرم زیداً أو عمرواً» ، من حیث إنّ متعلّق البعث فیهما أمر غیر مبهم ، بل معلوم مبیّن ، غایة الأمر : أنّ هناک بعثین ؛ تعلّق أحدهما بإکرام زید ، والآخر بإکرام عمرو ، وحیث لم یرد إتیانهما معیّناً بخصوصه ، بل أراد إتیان واحد منهما ، توسّل بلفظة «أو» وما فی معناها ، وتخلّلها فی عبارته .
ففی الحقیقة : فی الواجب التخییری بعثان ، أو بعوث ؛ تعلّق کلّ واحد منهما أو
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 445
منها بأمر غیر ما للآخر ، ویکون کلّ واحد منهما مشخّصاً ومعیّناً لا إبهام فیه .
وحیث إنّ الغرض یحصل بفعل کلّ منهما یتوسّل فی مقام الإفادة بلفظة «أو» ومرادفاتها لئلاّ یلزم علی المکلّف حرج فی إتیان أحدهما المعیّن . ففی الوجوب التخییری واجبان مستقلاّن ، ولکن لا یجب إتیانهما معاً .
والحاصل : أنّ من لاحظ الواجبات التخییریة فی العرف والعقلاء یعتقد جلیاً : أنّه لا فرق بین البعث وآلته والمبعوث إلیه فی الواجب التخییری ، والواجب التعیینی ، من حیث عدم البعث نحو المبهم ، ولکن الفرق بینهما بحسب الثبوت فی أنّ الواجب التعیینی بنفسه محصّل للغرض لیس إلاّ ، بخلاف الواجب التخییری ، ویکون البعث فی التعیینی متعلّقاً بشیء بلا تعلّقه بشیء آخر ، وفی التخییری یکون بعثان متعلّقان بشیئین مع تخلّلهما بما یفید معنی التخییر فی إتیانه .
فإذا تبیّن لک شأن البعث فی الواجب التخییری ، فالأمر فی الإرادة التشریعیة أیضاً کذلک ؛ بداهة أنّ هناک إرادتین مستقلّتین ، تعلّقت کلّ واحد منهما بواحد من الواجبین ، لا إرادة واحدة ، والإرادتان مسبوقتان بتصوّرین وتصدیقین بحصول الفائدة بکلیهما ، وشوقین کذلک أحیاناً .
فظهر : أنّ الأمر فی الواجب التخییری من ابتداء التصوّر إلی البعث لم یتعلّق بأمـر مبهم واقعاً ، مثلاً : یتصوّر المولی أنّ عتق الرقبـة فی کفّارة الإفطار العمدی محصّل لغرضه فیصدّق بفائدته ، فیشتاق إلیه أحیاناً ، فیریده ، ویبعث نحوه . وحیث یری أنّ غرضه کما یحصل بعتق الرقبة ، یحصل بصوم ستّین یوماً ، ولا جامع بینهما ، فینقدح فی ذهنه مبادئ الإرادة بالنسبة إلیه ، فیریده ، ویبعث نحوه أیضاً . ویستفاد مـن ذلک تخییر المکلّف إتیان أیّهما شـاء ، فانکشف جلیاً : أنّـه لـم یتعلّق التکلیف فـی الواجب التخییری بإتیان أحدهما والجامع بینهما .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 446
فالقول بأنّ الواجب فی الواجب التخییری هو الجامع بینهما ، ویکون التخییر بینهما بحسب الواقع عقلیاً لا شرعیاً ؛ معلّلاً بأنّ الواحد لا یصدر من الإثنین بما هما اثنان ، ما لم یکن بینهما جامع ؛ لاعتبار نحو من السنخیة بین العلّة والمعلول ، کما یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره .
غیر وجیه ؛ لما عرفت : أنّ متعلّق التکلیف فی الواجب التخییری بعینه هـو متعلّق التکلیف فی الواجب التعیینی ، فلا إبهام ولا تردّد فـی البین حتّی یتشبّث بتصویر الجامع .
أضف إلی ذلک : أنّه ـ کما ذکرنا غیر مرّة ـ لم یکن مجری قاعدة «الواحد» الاُمور الاعتباریة ، کما هو أوضح من أن یخفی ، بل مجراها البسیط الحقیقی الذی لا تشوبه رائحة الکثرة ، لا خارجاً ، ولا ذهناً ، ولا وهماً ، فالمتشبّث بها فی أمثال المقام وضع الشیء فی غیر محلّه .
وعلی ما ذکرنا : لا إشکال فی أنّ التخییر فی الواجب التخییری بحسب الواقع شرعی لا عقلی ، کما لا یخفی .
فإذا تمهّد لک ما ذکرنا ـ من إمکان تصویر الواجب التخییری ـ فلا وجه لرفع الید عن ظواهر الأدلّة الدالّة علی التخییر ، بارتکاب کون التکلیف متعلّقاً بأحدهما ، أو الجامع بینهما ، أو تصویر إرادتین ناقصتین ، إلی غیر ذلک ممّا ذکروه فی المقام ؛ بداهـة أنّه لا موجب لتلک التمحّلات إذا أمکن إبقاء الأدلّة علی ظاهرها .
وإیّاک أن تتوهّم : أنّه لا فرق بین القول بما ذکرنا ، وبین القول بأنّ الواجب أحدهما ، بلحاظ أنّه لا فرق بین أن یقال : «أکرم هذا أو ذاک» وبین قوله : «أکرم
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 447
أحدهما» ؛ لأنّ القول بذلک خلاف ظاهر الأدلّة ، ولا یصار إلیه ، بعد إمکان إبقاء ظاهر الأدلّة علی حاله بأنّ الواجب هو هذا أو ذاک ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 448