المورد الأوّل : فی إمکان بقاء الجواز بعد ارتفاع الوجوب وعدمه
قال المحقّق العراقی قدس سره : لا إشکال فی أنّه لا ملازمة بین ارتفاع الوجوب وارتفاع الجواز ؛ لأنّ الوجوب وإن کان أمراً بسیطاً ، إلاّ أنّه یتضمّن مراتب عدیدة ؛ من أصل الجواز ، والرجحان الفعلی ، والإلزام . فعلیه : یمکن أن یکون المرتفع بالنسخ خصوص جهة الإلزام مع بقاء الرجحان الفعلی غیر المانع عن النقیض علی حاله ـ فضلاً عن بقاء الجواز وتساوی الفعل والترک ـ کما أنّه یمکن ارتفاع الرجحان الفعلی مع بقاء الجواز ، وکما یمکن ارتفاع الجواز أیضاً .
وبالجملة : لا مانع ثبوتاً من بقاء کلّ من مرتبتی الجواز والرجحان بعد ارتفاع الوجوب ، وحیث إنّ الوجوب حقیقة ذات تشکیک فلا یحتاج فی إثبات الرجحان الفعلی عند ارتفاع جهة الإلزام إلی تجشّم إقامة الدلیل علی بقاء الفصل الاستحبابی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 429
مقامه ؛ لأنّه بعد ذهاب مرتبة منه یتحدّد قهراً بالمرتبة الاُخری ، نظیر الحمرة الشدیدة التی تزول مرتبة منها وتبقی مرتبة اُخری محدودة بحدّ آخر ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّ الوجوب لا یکون عبارة عن الإرادة ، أو الإرادة المظهرة حتّی یتوهّم تطرّق الشدّة والضعف فیه ، بل إمّا معنی انتزاعی ینتزعه العقلاء من مجرّد البعث إلی المادّة ویحتجّ به العقلاء بعضهم علی بعض ما لم تقم قرینة علی الخلاف ، أو أنّ الهیئة بنفسها تدلّ علی البعث الإلزامی عند العقلاء .
وعلی أیّ تقدیر : لا یکون الوجوب من الحقائق المشکّکة ؛ بداهة أنّ ذلک إنّما هی فی الحقائق الخارجیة ، لا فی الاُمور الانتزاعیة أو الاعتباریة .
وبالجملة : لم یکن الوجوب حقیقة ذات مراتب حتّی یتوهّم فیه بقاء المرتبة الضعیفة عند ارتفاع المرتبة القویة .
وثانیاً : لو سلّمنا کون الوجوب حقیقة بسیطة مشکّکة ذات مراتب ، ولکن لیس معناه : أنّ مصداقاً منه أیضاً ذات مراتب ، ألا تری أنّ القائلین بکون الوجود حقیقة مشکّکة ، لا یرون کون المصداق منه کذلک ؟ ! بداهة أنّ مصداقاً منه هو ذات الواجب الوجود ، ومع ذلک لا یرون ذاته تعالی حقیقة مشکّکة ، بل معناه : أنّ نفس حقیقة الوجود بعرضها العریض إذا لوحظت بالنسبة إلی الأفراد المختلفة من حیث التمام والنقص یصدق علیها صدقاً تشکیکیاً ، مثلاً آخر : إنّ النور حقیقة مشکّکة ؛ فإنّه یصدق علی النور الضعیف والقوی والأقوی ، والنور حقیقة ذات تشکیک ، ولا یوجب ذلک کون مصداق منه ذات تشکیک .
وفیما نحن فیه أیضاً کذلک ؛ لأنّه لو قلنا : إنّ الوجوب حقیقة ذات مراتب ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 430
معناه : أنّ مرتبة منه ینتزع منه الوجوب ، ومن مرتبة اُخری الوجوب الأکید ، ومن مرتبة ثالثة وجوب آکد منهما ، ومفهوم الوجوب یصدق علیها صدقاً تشکیکیاً ، ولکن لا یوجب ذلک کون مرتبة منه ذات مراتب بالفعل ، کما لا یخفی ، فلا یکون فی الوجوب ، الجواز والرجحان غیر المانع عن النقیض ، بمعنی وجود الجزء فی الکلّ حتّی تکون هناک اُمور ثلاثة : الجواز والرجحان والإلزام ، متحقّقة فی الخارج .
نعم ، ینتزع من الوجوب ، الجواز بالمعنی الأعمّ والرجحان ، لا بمعنی وجودهما فی ضمنه ، بل بمعنی وجودهما بعین وجود الوجوب ؛ فهما باقیان ببقائه ، وذاهبان بذهابه ، فمع ذهاب الوجوب یذهبان بعین ذهابه .
ثمّ إنّه لو قلنا : بأنّ الحکم والوجوب عبارة عن الإرادة التشریعیة ، أو الإرادة المظهرة ، فهل یتطرّق فیه التشکیک ، أم لا ؟
فینبغی النظر أوّلاً إلی الإرادة التشریعیة ، ثمّ النظر إلی الإرادة المظهرة :
فنقول : تارة تُفسّر الإرادة التشریعیة بالمعنی الذی ذکرنا ؛ من إرادة جعل القانون والتشریع ، واُخری تفسّر بإرادة إتیان الفعل من الغیر .
فعلی المعنی الأوّل : لا معنی لتطرّق التشکیک فیها ؛ لأنّ المقنّن منّا إذا رأی ـ مثلاًـ أنّ حفظ المملکة ونظامها متوقّف علی تأسیس الجُندی ، فیتصوّره أوّلاً ، ویصدّق بفائدته . . . إلی أن تتمّ مبادئ الإرادة فیه بنحو یصحّ منه جعل القانون ، فإن رأی أنّ تأسیس الجندی لازم فیرید جعل القانون الوجوبی علیه فیجعله کذلک ، وإن لم یر لزوماً فی ذلک فیرید جعل القانون الاستحبابی ، فیجعله کذلک .
ومن الواضح : أنّ إرادة جعل الوجوب وإرادة جعل الاستحباب لم تکد تفترق بالشدّة والضعف ؛ لوضوح أنّ الفرق بینهما فی متعلّق الإرادة ـ وهو الوجوب والاستحباب ـ وإلاّ ففی أصل جعل القانون وتشریعه لم یکن بینهما فرق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 431
وأمّا علی المعنی الثانی : فالحقّ تطرّق الشدّة والضعف فی الإرادة ؛ لصیرورة ذلک من قبیل إرادة الشخص بالنسبة إلی أفعاله ، ومن الواضح : تطرّق الشدّة والضعف فی إرادة الشخص بالنسبة إلی أفعاله .
خلافاً للمحقّق النائینی قدس سره ، حیث یری أنّ الإرادة لا تقبل الشدّة والضعف .
والوجدان أصدق شاهد علی ما ذکرنا ، فهل تری من نفسک أنّ إرادتک إنقاذ ولدک العزیز ، مثل إرادتک شراء البقلة ؟ ! حاشاک !
وبما ذکرنا یظهر : أنّه لو قلنا إنّ الحکم والوجوب عبارة عن الإرادة المظهرة ، یکون وزانها وزان إرادة التشریع لا تقبل الشدّة والضعف ، کما لا یخفی ، فتدبّر .
وکیف کان : مبادئ الحکم الوجوبی ـ سواء کان الوجوب عبارة عن إرادة التقنین ، أو إرادة فعل الغیر ، أو الإرادة المظهرة ـ تختلف عن مبادئ الحکم الاستحبابی والجوازی ، ولکلٍّ منهما مبادئ تخصّه غیر ما للآخر ، فلا یکاد یصحّ إثباتهما بمجرّد ثبوت الحکم الوجوبی .
نعم ، إذا وجب إتیان شیء یکون هناک الجواز بالمعنی الأعمّ أو الجواز غیر المانع عن النقیض ، ولکـن ـ کما أشرنا ـ لم یکونا موجـودین فی ضمن الوجـوب ـ وجود الجزء فی الکلّ ـ بل هما وجودان بعین وجود الوجوب ، فإذا ارتفع الوجوب یرتفعان معه ؛ قضاءً للعینیة ، فهما باقیان ببقائه ، وذاهبان بذهابه ، هذا .
مضافاً إلی أنّ الإرادة مـن الصفات ذات الإضافـة کالعلم ؛ فکما أنّ فی العلم نحـو إضافـة بین العالم والمعلوم ، فإذا لم یکن هناک معلوم لم یکـن علم ، فکذلک الإرادة لها نحـو إضافـة بین المریـد والمراد ، فلو لم یکن مراد لم تکـن إرادة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 432
فتتشخّص الإرادة بالمراد ، کما یتشخّص العلم بالمعلوم .
فإذن : الإرادة المتعلّقـة بالبعث الإلزامی مسبوقة بمبادئ غیر المبادئ التی یحتاج إلیها البعث الاستحبابی ، فإذا اختلفت مبادئ کلّ منهما فالإرادة المتعلّقة بالوجوب إذا اُزیلت بالنسخ فتنتفی الإرادة بالمرّة ، فلا معنی لبقاء إرادة الاستحباب أو الجواز بعد .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه لا وجه للقول بإمکان بقاء الجواز عند نسخ الوجوب ؛ سواء قلنا بأنّ الحکم والوجوب أمر انتزاعی ـ کما هو الحقّ ـ أو أمر اعتباری ، وهو واضح ؛ لعدم تطرّق التشکیک إلاّ فی الماهیات الخارجیة ، أو قلنا بأنّه إرادة التشریع والتقنین ، أو إرادة إتیان الغیر ، أو الإرادة المظهرة ؛ لأنّه لو فرض التشکیک فیها ولکن حیث إنّ تشخّص الإرادة بالمراد فالإرادة حیثما تعلّقت بإلزام شیء فعند ذلک وإن کانت إرادة الرجحان أو الجواز بالمعنی الأعمّ موجوداً بوجوده ، ولکنّه إذا زال الوجوب یزولان معه ؛ قضاءً للعینیة ، فلا معنی لبقاء الجواز بعد نسخ الوجوب .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 433