المورد الثالث : مقتضی التحقیق فی المسألة
مقتضی التحقیق هو التفصیل فی المسألة بین الأوامر والخطابات الشخصیة والجزئیة ، وبین الخطابات الکلّیة ؛ بعدم جواز أمر الآمر مع علمه بانتفاء شرطه فی الأوامر والخطابات الشخصیة والجزئیة ؛ وذلک لأنّ البعث لغایة الانبعاث ، وذلک إنّما یکون فیما إذا علم انبعاث العبد ببعثه ، أو احتمل ذلک . وأمّا إذا علم بأنّه لا یؤثّر الأمر فیه شیئاً ، ویکون وجود الأمر وعدمه بالنسبة إلیه سیّین ـ إمّا لعدم تحقّق شرط التکلیف ، أو المکلّف به ، أو لعصیانه ، أو لأنّه ممّن یعلم بأنّه یأتی بمتعلّق الطلب جزماً ، من دون أن یتوجّه إلیه الطلب ـ فلا یکاد یکون بعثه بداعی الانبعاث .
وبالجملة : لا یکاد یستریب عاقل فی عدم انقداح مبادئ الإرادة الآمریة فی تلک الموارد ؛ لأنّ البعث بداعی الانبعاث ؛ ففی مورد یعلم بعدم الانبعاث ـ ولو عصیاناً ـ لا یکاد یصدر من المولی الملتفت بعث لذلک ، وهل تری من نفسک أن تبعث الجماد نحو شیء ؟ ! حاشاک ! ! وسرّه : عدم صلاحیته للانبعاث ، وهذا الأمر موجود فی تلک الموارد . نعم ، یمکن أن یبعث صوریاً ، ولکنّه خارج عن محطّ البحث ، ولعمر الحقّ : إنّ ما ذکرناه بمکان من الوضوح ، لا یحتاج أن یحام حوله أزید ممّا ذکرناه .
هذا کلّه فی الخطابات والأوامر الشخصیة .
وأمّا الخطابات والأحکام الکلّیة القانونیة ـ إلهیة کانت أو عرفیة ـ فلها شأن آخر غیر ما ذکرناه ؛ لأنّه کما أشرنا غیر مرّة لا یحتاج فیها إلی ملاحظة حالات کلّ فردٍ فردٍ للخطاب والبعث إلیهم ، وغایة ما یعتبر فیها هی انبعاث طائفة منهم المختلطین فی الأعصار والأمصار بها ، ولو لوحظت حالات جمیع الأفراد فی توجّه الخطاب
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 400
والحکم إلیهم یلزم خروج طوائف من الناس عن دائرة التکلیف ، مع أنّ الضرورة قاضیة بتعلّق التکلیف بهم ، فعلی هذا یصحّ الخطاب القانونی إلی المجتمع البشری مع انتفاء الشرط بالنسبة إلی جماعة وطائفة منهم . ففریضة الصلاة ـ مثلاً ـ توجّهت إلی جمیع المکلّفین حکماً فعلیاً ـ حتّی بالنسبة إلی من نام أو غفل من أوّل الزوال إلی المغرب مثلاً ـ وإن لم یکد یمکن توجّه الخطاب الشخصی بخصوصه وشخصه إلیه .
ولا یذهب علیک : أنّ ما ذکرنا لم یکن فی الحقیقة من باب أمر الآمر مع العلم بانتفاء شرطه القانونی ؛ لأنّ ذلک إنّما یکون فیما إذا علم بعدم انبعاث أحد من المکلّفین فی الأعصار والأمصار بالخطاب ، لا فیما فرضناه من عدم انبعاث طائفة منهم .
والسرّ فی التفرقة بین الخطابات القانونیة والخطابات الشخصیة ، هو أنّ الخطاب القانونی خطاب واحد غیر منحلّ إلی خطابات عدیدة بعدد آحاد المکلّفین ، کما کان ینحلّ فی الخطابات الشخصیة ، وإلاّ فتکون جاریة مجراها أیضاً ، بل هو خطاب واحد إلی الجمیع ، وهو بوحدته حجّة علی الجمیع ، ویدعو بوحدته عامّة المکلّفین من الأوّلین والآخرین .
ولیس معنی کون التکلیف مشترکاً بین العالم والجاهل ، والقادر والعاجز ، إلی غیر ذلک ، أنّ لکلّ فردٍ خطاباً یخصّه ، بل معناه : أنّه جعل الحکم علی عنوان «المستطیع» أو عنوان «المکلّف» أو غیر ذلک بإرادة واحدة ؛ وهی إرادة التقنین والتشریع ، لا إرادة صدور الفعل من المکلّفین ؛ لما تقدّم من امتناع تعلّق الإرادة بفعل الغیر ، وإرادة التشریع تصیر حجّة علی عامّة المکلّفین أینما کانوا ومتی وجدوا .
والملاک فی صحّة التشریع هو إمکان انبعاث عدّة من المکلّفین المختلطین فی الأعصار والأمصار من الأوّلین والآخرین ، لا احتمال انبعاث کلّ واحدٍ واحدٍ منهم ، ولعلّ ما ذکرنا واضح لمن استوضح المقام من القوانین العرفیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 401