تصحیح الأمر بالمهم بالأمر المتعلّق بالطبیعة
الوجه الثانی : ما حکی عن المحقّق الکرکی قدس سره بأنّه لو قلنا بتوقّف العبادة علی الأمر ، لکن کلام الشیخ البهائی قدس سره إنّما یتمّ فی المتزاحمین المضیّقین إذا کان أحدهما أهمّ ـ کما لو فرض مزاحمة الصلاة مثلاً فی آخر الوقت لواجب آخر أهمّ ـ لأنّه لا یعقل أن یؤمر بهما ؛ لخروجهما عن تحت قدرة المکلّف ، فالأمر یتعلّق بالمزاحم الأهمّ ؛ فتقع العبادة باطلة .
وأمّا إذا کان أحد المتزاحمین مضیّقاً والآخر موسّعاً فیصحّ تعلّق الأمر بکلّ منهما . ففی حال سعـة وقت الصلاة یجوز ترک الواجب الآخـر المضیّـق الأهمّ والإتیان بالصلاة ؛ لأنّ المعتبر فی صحّة التکلیف هو إمکان امتثال مصداقٍ ما ، وهو حاصل .
توضیحه علی ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره هو : أنّ الأمر یتعلّق بصرف الوجود من الطبیعة ، لا بسریان الطبیعة إلی أفرادها ـ کما فی النهی عن الطبیعة ـ فالأمر لا یکاد یسری إلی الأفراد ، والأفراد متساویة الأقدام بالنسبة إلیها ، فالتخییر بینها عقلی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 296
فإن قیل : «أقم الصلاة فی وقت محدود بحدّین» فإذا أمکن إتیان مصداق منها بین الحدّین فیصحّ التکلیف بالطبیعة ، ولا یحتاج إلی القدرة علی جمیع أفرادها . وبعد تعلّق الأمر بالطبیعة یکون جمیع الأفراد متساویة الأقدام فی الإنطباق ؛ لکون انطباق الکلّی علی أفراده قهریاً ، وبعد الانطباق یکون الإجزاء عقلیاً .
فإذا کان أحد المتزاحمین موسّعاً والآخر مضیّقاً یصحّ تعلّق الأمر بالطبیعة ، ولا یتوقّف صحّته علی صحّة تعلّق الأمر بالفرد المزاحم بالخصوص حتّی یقال : إنّه بعد الأمر بالإزالة لا یمکن الأمر بذلک الفرد المزاحم ؛ لإستلزامه الأمر بالضدّین . بل یکفی فی صحّته تعلّق الأمر بالطبیعة ، وبعد ذلک یکون الانطباق قهریاً والإجزاء عقلیاً . فلو قلنا : إنّ صحّة العبادة تتوقّف علی الأمر بها کان الضدّ الموسّع صحیحاً إذا کان عبادة .
نعم ، لو قلنا : إنّ الأمر بالشیء یقتضی النهی عن ضدّه ، کان ذلک الفرد من الصلاة المزاحم للإزالة منهیاً عنه ، ومحال أن ینطبق علیه عنوان المأمور به فی حال کونه منهیاً عنه ، وبعد تعلّق النهی به یخرج عن قابلیة انطباق المأمور به علیه ، فلا یصلح أن یؤتی به بداعی الأمر بالطبیعة .
فظهر : أنّ نفی الثمرة علی إطلاقه غیر مستقیم ، بل هو مختصّ بالمضیّقین المتزاحمین . وأمّا فی المضیّق والموسّع فالثمرة ظاهرة علی ما ذکرنا ، انتهی محرراً .
ثمّ قال المحقّق النائینی قدس سره : هذا غایة ما یمکن أن یوجّه به مقالة المحقّق الکرکی قدس سره . ولکنّه لا یخفی علیک ما فیه . لأنّه إنّما تتمّ مقالة المحقّق لو کان اعتبار القدرة فی التکالیف عقلیاً ، حیث إنّه یکفی فی صحّة التکلیف بالطبیعة عند العقل ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 297
القدرة علی إیجادها ولو فی ضمن فردٍ ما ، ولکن هناک وجه آخر فی اعتبار القدرة ؛ وهو اقتضاء الخطاب ذلک ، حیث إنّ البعث والتکلیف إنّما یکون لتحریک إرادة المکلّف نحو أحد طرفی المقدور وترجیح أحد طرفیه ، بل حقیقة التکلیف لیست إلاّ ذلک ، فالقدرة علی المتعلّق ممّا یقتضیه نفس الخطاب ، بحیث إنّه لو فرض عدم حکم العقل بقبح العاجز ، وقلنا بمقالة الأشاعرة ـ النافین للتحسین والتقبیح العقلیین ـ لقلنا باعتبار القدرة فی المتعلّق ؛ لمکان اقتضاء البعث والتکلیف ذلک ، فدائرة المتعلّق تدور مدار القدرة سعةً وضیقاً ، ولا یمکن أن تکون دائرة المتعلّق أوسع من دائرة القدرة ، فالفرد المزاحم لواجب مضیّق لا یمکن أن یعمّه سعة المتعلّق ؛ لعدم سعة قدرته ذلک حسب الفرض ، حیث إنّ الممتنع الشرعی کالممتنع العقلی ، فتخرج تلک الحصّة من الطبیعة عن متعلّق الأمر ، فلا یمکن إیجاد الفرد امتثالاً للأمر المتعلّق بالطبیعة ، فإن قلنا بتوقّف العبادة علی الأمر یبطل ذلک الفرد المزاحم .
وضابط الفرق بین القدرة الشرعیة والعقلیة عندنا هو : أنّه إذا اُخذت القدرة فی موضوع الخطاب المستکشف من ذلک مدخلیتها فی ملاک الخطاب کانت القدرة شرعیة ، من غیر فرق فی ذلک بین أخذها فی موضوع الخطاب صریحاً کما فی آیة الحجّ ، أو کانت مستفادة من خطاب آخر کما فی آیة الوضوء .
وأمّا إن لم تؤخذ فی موضوع الخطاب ، بل کانت ممّا تقتضیـه نفس الخطاب ـ إمّا لمکان قبح مخاطبة العاجز عقلاً ، أو لأجل أنّ الخطاب هو البعث والتحریک نحو المقدور ـ کانت القدرة عقلیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 298
فتحصّل ممّا ذکر : أنّه بناءً علی توقّف صحّة العبادة علی الأمر بها یکون الحقّ مع شیخنا البهائی قدس سره من أنّ المسألـة عدیمـة الثمرة ؛ لعدم الأمر بالضدّ علی کلّ حالٍ ، انتهی .
ولیعلم : أنّا نقول بمقالة المحقّق الکرکی قدس سره فی المضیّقین أیضاً ، فنوافق المحقّق النائینی قدس سره فی الموسّعین فخالفه فی المضیّقین . وفیما لو کان أحدهما مضیّقاً والآخر موسّعاً فنحن علی عکس النقیض من مذهب المحقّق النائینی ، کما سیظهر لک عن قریب ـ إن شاء الله ـ فی الوجه الثالث ، فارتقب حتّی حین .
ولکن الذی نحن بصدده عاجلاً هو ردّ مقالة المحقّق النائینی قدس سره ، فنقول : إنّ متعلّقات الأوامر إذا کانت نفس الطبائع ـ کما هو الحقّ عندنا وعند هذا المحقّق ، وهی التی تکون و اجدة للمصالح ـ فالخصوصیات الفردیة ـ کخصوصیة الزمانیة والمکانیة إلی غیر ذلک ـ فاقدة للمصالح ، فمرکز تعلّق الأوامر ومحطّها نفس الطبائع لیس إلاّ ، وهی التی دعت الآمر والمقنِّن إلی الأمر بها ، والخصوصیات الفردیة خارجة عن حریم البعث والأمر ، بل لا یکاد یعقل أن تکون الخصوصیات مأخوذة بعد أن لم تکن دخیلة فی المصلحة .
وبالجملة : نفس الطبیعة واجدة للمصلحة ، وهی التی دعت الآمر إلی انحدار البعث نحوها ، فلو أمکن إیجادها فی الخارج مجرّدة عن کافّة الخصوصیات والقیود لکان ما أوجده محصّلاً لتمام مطلوبه وغرضه ، إلاّ أنّه لا تکاد توجد إلاّ مقرونة معها .
فإذا تمّت عنده قدس سره أنّ متعلّق الأمر نفس الطبیعة ، والخصوصیات والمصادیق خارجان عن حریم المأمور به ، بل تکون من قبیل وضع الحجر جنب الإنسان ، فغایة
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 299
ما یقتضیه الخطاب ـ علی تقدیر تسلیمه ـ هی القدرة علی متعلّقه ، والمفروض : أنّ متعلّقه لیس إلاّ صرف الوجود من الطبیعة ، لا المصادیق والأفراد ، وواضح : أنّها حاصلة فیما لو کان أحد المزاحمین مضیّقاً والآخر موسّعاً .
فالفرد ـ سواء زاحمه واجب مضیّق ، أم لا ـ لم یکن متعلّقاً للأمر ، ولا یعقل انطباق الطبیعة المأمور بها بما هی مأمور بها علیه ؛ لأنّ وعاء تعلّق الأمر غیر وعاء الفرد الذی هو الخارج ، فلا معنی لأن یقال : إنّه کما أنّ طبیعة الإنسان اللابشرط تنطبق علی الفرد وتتّحد معه خارجاً ، فکذلک الطبیعة المأمور بها تنطبق علی الخارج ویکون الفرد الخارجی مأموراً به ؛ لأنّ ظرف الوجود الخارجی ظرف السقوط ، وظرف تعلّق الأمر وعاء الاعتبار .
نعم ، ما یکون فی الخارج لو جرّد عن الخصوصیات والقیودات فحصل فی وعاء الاعتبار یکون مأموراً به . کما أنّ الطبیعة الموجودة فی وعاء الاعتبار لو قارنها الخصوصیات وحصلت فی الخارج یکون مأموراً بها .
وبالجملة : ما ذکره المحقّق النائینی قدس سره هنا یناقض اعترافه بأنّ صرف الوجود من الطبیعة مأمور به ؛ لأنّ غایة ما یقتضیه الاعتبار ، اعتبار القدرة فی متعلّق الأمر ، وهو لیس إلاّ نفس الطبیعة ، لا الحصّة والفرد . فإشکال المحقّق النائینی قدس سرهعلی المحقّق الکرکی قدس سره غیر وارد .
نعم ، یتوجّـه علی المحقّق الکرکی قدس سره سؤال الفرق والتفصیل فی المسألة ، مـع أنّـه لا فرق فی ذلک بین المضیّقین وبین الموسّعین ، وبین کـون أحـدهما مضیّقاً والآخـر موسّعاً ؟ ! کما سیوافیک قریباً فی الوجه الثالث ، فارتقب حتّی حین .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 300