الأمر الثامن فی الواجب الأصلی والتبعی
قسّموا الواجب إلی الأصلی والتبعی . ووقـع الخلاف بعد ذلک فی أنّ هـذا التقسیم هل هو بلحاظ مقام الإثبات ، کما عن صاحب «القوانین» قدس سره ، ویظهر من صاحب «الفصول» قدس سره ، أو بلحاظ مقام الثبوت ، کما یظهر مـن المحقّق الخراسانی قدس سره .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 223
وعلی أیٍّ منهما لا تترتّب علیه ثمرة ، وإن کان الصحیح کون التقسیم بلحاظ مقام الإثبات .
وکیف کان : فإن کان التقسیم بحسب مقام الإثبات فمرکز التقسیم الواجب فی صقع اتّصافه بالوجوب ؛ فإن تعلّق الخطاب بشیء وکان متوجّهاً إلیه یکون الواجب أصلیاً ، وأمّا إذا تعلّق الخطاب بأمر آخر ولکن استفید الوجوب مِن لازم الخطاب فالواجب تبعی . فالواجب الأصلی ما استفید وجوبه بخطاب مستقلّ ، والواجب التبعی ما استفید وجوبه من لازم الخطاب .
فعلی هذا : لا منافاة بین کون شیء واجباً أصلیاً وکونه واجباً مقدّمیاً ، ولا بین کون شیء واجباً نفسیاً وکونه واجباً تبعیاً ؛ بداهة أنّه قد یکون الشیء واجباً نفسیاً ومطلوباً لذاته ولکن لم یستفد ذلک من خطاب أصلی ، بل استفید من لازم الخطاب . وقد یکون الشیء واجباً غیریاً ومقدّمیاً ولکنّه استفید من خطاب مستقلّ ، فتدبّر .
والمراد باستفادة الوجوب من الخطاب المستقلّ ما یعمّ استفادته من لفظ خطاب أو ممّا یکشف عن الخطاب المستقلّ ، کدلیل العقل ونحوه . فإن استفید الوجوب من لفظ خطاب مستقلّ أو ممّا یکشف عن خطاب کذلک فالواجب أصلی . فإذن : المراد بالخطاب هنا ما دلّ علی الحکم الشرعی ؛ فیعمّ الدلیل اللفظی وغیره ، وإن استفید الحکم من لازم خطاب أو من لازم دلیل الکاشف فهو واجب تبعی ؛ فالدلالـة الالتزامیـة وکـذا دلالـة الإشارة کدلالـة قولـه تعالی : «وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً» ، وقولـه تعالـی : «وَالوَالِدات یُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَیْنِ کَامِلَیْنِ» علی أنّ أقلّ الحمل ستّة أشهر داخلة فی التبعی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 224
فعلی هذا یکون تقسیم الواجب إلی الأصلی والتبعی صحیحاً معقولاً ، ولکن لا یترتّب علیه ثمرة .
ولکن یظهر من المحقّق الخراسانی قدس سره : أنّ التقسیم لم یکن بلحاظ مقام الإثبات ، بل بلحاظ مقام الثبوت : قال : الظاهر أنّ هذا التقسیم بلحاظ الأصالة والتبعیة فی الواقع ومقام الثبوت ، حیث یکون الشیء تارةً متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلاًّ للالتفات إلیـه بما هـو علیه ممّا یوجب طلبه فیطلبه ؛ کان طلبه نفسیاً أو غیریاً . واُخـری متعلّقاً للإرادة تبعاً لإرادة غیره ؛ لأجل کون إرادتـه لازمـة لإرادته ، مـن دون التفات إلیه بما یوجب إرادتـه ، لا بلحاظ الأصالـة والتبعیة فی مقام الدلالـة والإثبات .
وحاصل استدلاله علی مقاله هو : أنّه لو لم یکن الاتّصاف بهما فی نفسه وبلحاظ مقام الثبوت بل کان بلحاظ الدلالة والإثبات یلزم أن لا یتّصف الواجب بواحدٍ منهما إذا لم تکن استفادة الوجوب من مفاد الدلیل ، وهو کما تری .
وفیه : أنّ مراده بالإرادة لابدّ وأن یکون أحد المعنیین : إمّا إرادة الإیجاد والوجود ، أو إرادة التشریع والإیجاب . لا سبیل إلی المعنی الأوّل ؛ لما تقدّم : أنّ إرادة المولی لا تتعلّق إلاّ بما یکون تحت اختیاره . فإرادة المولی العرفی إیجاد الفعل من العبد لا یکون ، بل عرفت اسستحالة ذلک بالنسبة إلی إرادته تعالی ؛ لاستلزامه انفکاک المراد عن إرادته تعالی ؛ لوجود العصاة بمرأی ومسمع منک ، فإذن : المراد إرادة الإیجاب والوجوب ، وهی علی قسمین : فتارة تکون أصلیاً وذلک إذا توجّه إلیه وکان ملتفتاً إلیه ، واُخری یکون تبعیاً کما لو لم یکن کذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 225
فعلی هذا : لا یکون ذلک تقسیماً للواجب إلی قسمین : الأصلی والتبعی ، بل تقسیماً لمبدأ الواجب . ولیکون انتساب الأصلیة والتبعیة إلی الواجب انتساباً عرضیاً مجازیاً من باب انتساب ما یکون للعلّة إلی معلولها .
وواضح : أنّه إنّما یصار إلی کون التقسیم بلحاظ مبدأ الوجوب حقیقة ویُنسب إلی الواجب مجازاً ومسامحة إذا کان هناک تقسیم منهم إلی التبعیة والأصلیة ، ولا یکاد یمکن حملها علی معناه الحقیقی علی وجه صحیح ، وقد عرفت صحّة التقسیم بلحاظ ذاته . والقاعدة فی التقسیم تقتضی أن یورد التقسیم علی ما یکون مورداً له .
ثمّ إنّه إن کان المراد بالأصلی ما یکون متعلّقاً للإرادة وملتفتاً إلیه تفصیلاً ، فمقابله یکون عبارة عمّا التفت إلیه إجمالاً وارتکازاً ، لا عدم الاستقلال بمعنی التبعیة . فعلی هذا : یکون الواجب النفسی أیضاً تارة مستقلاًّ ، واُخری غیر مستقلّ ، مع أنّه لا شبهة فی أنّ إرادته أصلیة لا تبعیة . وإن کان المراد بالأصلی عدم التبعیة ، فلا یکون الواجب الغیری مستقلاًّ ؛ سواء التفت إلیه تفصیلاً أم لا .
ثمّ إنّ استدلاله قدس سره علی عدم کون التقسیم بلحاظ مقام الإثبات ـ بأنّه یلزم أن لا یتّصف بواحد منهما إذا لم یکن استفادة الوجوب من مفاد الدلیل . . . إلی آخره ـ ففیه : أنّ الالتزام بکون التقسیم بلحاظ الإیجاب والخطاب مقتضاه عدم الاتّصاف بهما قبل الإیجاب والخطاب ، ولا محذور فیه ، بل الظاهر من التقسیم هو ذلک .
نعم ، لو استفید الوجوب من الإجماع ـ الذی یکون دلیلاً لبّیاً ـ یمکن ذلک لأن یکشف الإجماع عن وجود نصٍّ فی المسألة ، فبمعقد الإجماع یستکشف ذلک .
فتحصّل : أنّ التقسیم بلحاظ الإثبات ، ولا إشکال فیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 226
إشکال وتحقیق وإرشاد
ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانی قدس سره أشکل علی مقال اُستاذه المحقّق الخراسانی قدس سره ـ حیث ذهب إلی أنّ التقسیم إلی الأصلیـة والتبعیة بحسب مقام الثبوت ـ بأنّه لا مقابلة بین الأصلی والتبعی بالمعنی الذی ذکر اُستاذه ؛ لأنّه فسّر الواجب الأصلی بما یکون متعلّقاً للإرادة والطلب مستقلاًّ ، والواجب التبعی بما یکون متعلّقاً لإرادة غیره ؛ إذ مقابل الالتفات عدم الالتفات ، لا تبعیة الإرادة لإرادة اُخری ؛ فإنّه من تقابل التناقض أو التضاد ، إلاّ أن یراد بالأصلی الإرادة التفصیلیة ، وبالتبعی الإرادة الارتکازیة الإجمالیة .
مع أنّ الإرادة النفسیة ربّما تکون ارتکازیة ؛ بمعنی أنّه لو التفت إلی موجبها لأراده ، کما فی إرادة إنقاذ الولد الغریق عند الغفلة عن غرقه ، والحال أنّه لا شبهة فی کونها إرادة أصلیة لا تبعیة . . . .
إلی أن ذکر قدس سره تحقیقاً لإمکان تقسیم الواجب بنحو لا یرد علیه الإشکال : وهو : أنّ للواجب ـ وجوداً ووجوباً بالنسبة إلی مقدّمته ـ جهتان من العلّیة :
إحداهما : العلّیة الغائیة ، حیث إنّ المقدّمة إنّما تراد لمراد آخر لا لنفسها ، بخلاف ذیها ؛ فإنّه مراد لا لمراد آخر ، کما مرّ مفصّلاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 227
والثانیة : العلّیة الفاعلیة ، وهی : أنّ إرادة ذی المقدّمة علّة لإرادة مقدّمته ، ومنها تنشأ وتترشّح علیها الإرادة .
والجهة الاُولی مناط الغیریة ، والجهة الثانیة مناط التبعیة . ووجه الإنفکاک بین الجهتین : أنّ ذات الواجب النفسی حیث إنّه مترتّب علی الواجب الغیری فهی الغایة الحقیقیة ، لکنّه ما لم یجب لا تجب المقدّمة ؛ فوجوب المقدّمة معلول خارجاً لوجوب ذیها ومتأخّر عنه رتبةً ، إلاّ أنّ الغرض منه ترتّب ذیها علیها ، انتهی .
وفیه ـ کما أشرنا آنفاً ـ : أنّ الأصالة والتبعیة إنّما تعرضان علی الواجب ، لا ما هو مقدّم علیه ، ولابدّ من حفظ المقسم وبیان کیفیة انشعابه إلی شعبتین . فتقسیم ما هو من مبادئه ـ أعنی الإرادة ـ إلی ذینک القسمین ممّا لا وجه له .
اللهمّ إلاّ أن یکون ذلک اصطلاح خاصّ منه ، فإذن لا مشاحة فیه . ولکن الظاهر : أنّه قدس سره بصدد بیان مراد القوم ؛ فما ذکره خلاف الظاهر ، هذا أوّلاً .
وثانیاً : مراده من فاعلیة إرادة ذی المقدّمة لإرادتها أحد أمرین : إمّا بالنسبة إلی وجودها ، أو بالنسبة إلی وجوبها ، لا سبیل للأوّل ، وإلاّ یلزم عدم تحقّق العصیان والتخلّف أصلاً حتّی علی إرادته من المکلّف بتوسّط إرادته أیضاً کما مرّ . وأمّا الثانی : فلمّا کانت الإرادة من الاُمور المرتبطة بمبادئها الخاصّة ـ التی لیست منها الإرادة الاُخری ـ فلا وجه لتولّدها منها وتولیدها إیّاها ؛ فلا علّیة فاعلیة لإرادة ذی المقدّمة بالنسبة إلی إرادتها .
وبالجملة ـ کما أشرنا غیر مرّة ـ لا معنی لترشّح إرادة من إرادة اُخری ، کلّ منهما مستقلّة مغایرة للاُخری ولیست إحداهما علّة للاُخری ، بل الفاعل للإرادة هی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 228
النفس فی إرادة کلّ من المقدّمة وذیها ، ولکلٍّ منهما مبادئ یخصّه . نعم ، إنّ الغایة المترتّبة علی إرادة المقدّمة لیست لنفسها ، بل لإتیان ما هو مطلوب بالذات ـ وهو ذو المقدّمة ـ بخلاف إرادة ذی المقدّمة ؛ فإنّها لیست لذلک .
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ تقسیم الواجب إلی الأصلیة والتبعیة إنّما هو بلحاظ مقام الإثبات ، لا مقام الثبوت .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 229