الفصل الرابع فی مقدّمة الواجب

حول مقال المحقّق الأصفهانی فی المقام

حول مقال المحقّق الأصفهانی فی المقام

‏ ‏

‏ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانی ‏‏قدس سره‏‏ حیث رأی أنّ ما ذهب إلیه صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‎ ‎‏موافق للعقل والوجدان‏‏ ‏‏، ولکن استصعب علیه بعض الإشکالات المتقدّمة‏‏ ‏‏، تصدّی‏‎ ‎‏لتصحیح المطلب بوجهین‏‏ :‏

الوجه الأوّل بما حاصله‏ :‏‏ أنّه لا إشکال فی أنّ الغرض الأصلی والمطلوب‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 202
‏الأوّلی والواقعی إنّما هو ذو المقدّمة‏‏ ‏‏. وأمّا المقدّمات فمتعلّقة للغرض تبعاً لترتّب‏‎ ‎‏وجوده علی وجودها إذا وقعت علی ما هی علیه من اتّصاف السبب بالسببیة‏‏ ‏‏،‏‎ ‎‏والشرط بالشرطیة‏‏ ‏‏، وفعلیة دخله فی تأثیر المقتضی أثره‏‏ ‏‏، فوقوع کلّ مقدّمة علی‏‎ ‎‏صفة المقدّمیة الفعلیة ملازم لوقوع الاُخری علی تلک الصفة ووقوع ذیها فی الخارج‏‏ ‏‏،‏‎ ‎‏وإلاّ فذات الشرط المجرّد عن السبب‏‏ ‏‏، أو السبب المجرّد عن الشرط‏‏ ‏‏، أو المُعدّ المجرّد عن‏‎ ‎‏وقوعه فی‏‏ ‏‏سبیل‏‏ ‏‏الإعداد‏‏ ‏‏، مقدّمة بالقوّة لا‏‏ ‏‏بالفعل‏‏ ‏‏، ومثلها غیر‏‏ ‏‏مرتبط‏‏ ‏‏بالغرض‏‏ ‏‏الأصیل‏‎ ‎‏المترتّب علی وجود ذی المقدّمة‏‏ ‏‏؛ فلا تکون مطلوبة بالتبع‏‏ ‏‏. ولیس الفرق بین الموصل‏‎ ‎‏وغیره إلاّ بالفعلیة والقوّة وملازمة الأوّل لذی المقدّمة وعدم ملازمة الثانی له‏‏ .‏

‏والحاصل‏‏ ‏‏: أنّ صیرورة المقدّمة مقدّمـة فعلیة إنّما هی بأمـرین‏‏ ‏‏: أحدهما‏‏ ‏‏:‏‎ ‎‏وجود سائر المقدّمات‏‏ ‏‏، والثانی‏‏ ‏‏: ترتّب ذی المقدّمـة علیها‏‏ ‏‏، وإلاّ تکون مقدّمـة‏‎ ‎‏بالقوّة‏‏ ‏‏، وهذا یکون موافقاً للوجدان‏‏ ‏‏، مع سلامته عن الإشکالات‏‏ ‏‏؛ لأنّه لم تقیّد‏‎ ‎‏المقدّمة بالإیصال‏‏ .‏

الوجه الثانی بما حاصله‏ :‏‏ أنّه بعد ما عرفت من تعلّق الغرض الأصیل بذی‏‎ ‎‏المقدّمة والغرض التبعی بالمقدّمة‏‏ ‏‏، والمقدّمات علّة ومحصّلة لغرضه الأصیل‏‏ ‏‏، فالعلّة‏‎ ‎‏التامّة هی المرادة بتبع إرادة المعلول‏‏ ‏‏؛ فکما أنّ الإرادة الفعلیة بذی المقدّمة واحدة وإن‏‎ ‎‏کان مرکّباً‏‏ ‏‏، فکذلک الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة وإن کانت العلّة مرکّبة‏‏ .‏

‏فکما أنّ منشأ وحدة الإرادة فی الأوّل وحدة الغرض‏‏ ‏‏، کذلک المنشأ فی الثانی‏‎ ‎‏وحدة الغرض‏‏ ‏‏؛ وهو الوصول إلی المعلول‏‏ ‏‏. وکما أنّ إتیان بعض أجزاء المعلول‏‎ ‎‏لا‏‏ ‏‏یسقط الإرادة النفسیة المتعلّقة بالمرکّب ـ بل هی باقیة إلی آخر الأجزاء‏‏ ‏‏، وإن کان‏‎ ‎‏یسقط اقتضاؤها شیئاً فشیئاً ـ فکذلک الإرادة الکلّیة المتعلّقة بالعلّة المرکّبة لا تسقط‏‎ ‎‏إلاّ بعد حصول الملازم لحصول معلولها‏‏ ‏‏، وإن کان یسقط اقتضاؤها شیئاً فشیئاً‏‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 203
‏وکما أنّ أجزاء المعلول لا تقع علی صفة المطلوبیة إلاّ بعد التمامیة‏‏ ‏‏، فکذلک‏‎ ‎‏أجزاء العلّة لا تقع علی صفة المطلوبیة المقدّمیة إلاّ بعد التمامیة‏‏ ‏‏؛ لوحدة الطلب فی‏‎ ‎‏کلیهما‏‏ ‏‏، ومنشؤها وحدة الغرض‏‎[1]‎‏ ‏‏، انتهی‏‏ .‏

أقول‏ :‏‏ هذا الکلام من هذا المحقّق المتضلّع فی فنّ المعقول غیر مترقّب‏‏ ‏‏، مع‏‎ ‎‏تصریحه قریباً برجوع الحیثیات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة إلی الحیثیات التقییدیة‏‎ ‎‏وذلک لأنّ البحث عن الملازمة بین المقدّمة وذیها عقلی یراد أن یستکشف بها حکم‏‎ ‎‏شرعی‏‏ ‏‏، ولم یکن البحث عرفیاً حتّی یتطرّق فیه الإهمال‏‏ ‏‏. فإذا کان وجوب شیء‏‎ ‎‏لغایة فیعلم أنّ الغایة ترتّب ذی المقدّمة علیها‏‏ ‏‏، وهذا عبارة اُخری عن موصلیة‏‎ ‎‏المقدّمة‏‏ ‏‏. فحیثیة الإیصال والموصلیة لا‏‏ ‏‏یمکن رفع الید عنها‏‏ ‏‏، فلا‏‏ ‏‏یکون لدی العقل‏‎ ‎‏موضوع وعلّة وترتّب الحکم علی الموضوع‏‏ ‏‏، بل ـ کما أشرنا آنفاً ـ یرجع جمیع القیود‏‎ ‎‏إلی الموضوع‏‏ ‏‏، بل حکم العقل بالوجوب إنّما هو بتلک الحیثیة‏‏ ‏‏. وذلک لأنّ لنصب‏‎ ‎‏السلّم ـ‏‏ ‏‏مثلاً‏‏ ‏‏ـ جهات‏‏ :‏

‏1 ـ حیثیة کون السلّم ذا مدارج‏‏ .‏

‏2 ـ کونه شرطاً للکون علی السطح‏‏ .‏

‏3 ـ توقّف ذی المقدّمة علیها‏‏ .‏

‏4 ـ تقدّم النصب علی الکون‏‏ .‏

‏5 ـ موصلیـة النصب إلی الکون بالأعمّ مـن الموصلیـة بالواسطـة أو مـع الواسطـة‏‏ ‏‏،‏‎ ‎‏إلی غیر ذلک‏‏ .‏

‏وواضح‏‏ ‏‏: أنّ حکم العقل بوجوب النصب لم یکن لشیء من تلک الحیثیات العدیدة‏‏ ‏‏،‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 204
‏بل الذی یحکم به العقل هو حیثیة ترتّب ذی المقدّمة علیها‏‏ ‏‏، وحیث إنّ الغایة عبارة‏‎ ‎‏عن عناوین الموضوع ـ کما تقرّر فی محلّه‏‏ ‏‏، واعترف هذا المحقّق ‏‏قدس سره‏‏ به أیضاً ـ فموضوع‏‎ ‎‏حکم العقل عبارة عن هذا‏‏ .‏

‏فإذا ثبت أنّ موضوع حکم العقل هو هذه الحیثیة‏‏ ‏‏، فمحال أن یستکشف حکماً‏‎ ‎‏شرعیاً علی موضوع أوسع أو أضیق من دائرته‏‏ ‏‏. فإذا کان الشرط أو السبب ـ بما أنّهما‏‎ ‎‏سببان فعلیان ـ ملازماً لترتّب ذی المقدّمة علیها‏‏ ‏‏، فالعقل یحکم بأنّ حیثیة الوجوب‏‎ ‎‏فیها ترتّب ذاک علیها‏‏ .‏

وبالجملة‏ ‏: إن قال ‏قدس سره‏‏ ‏‏: إنّ المطلوب مطلق المقدّمة‏‏ ‏‏، کما اعترف به المحقّق‏‎ ‎‏الخراسانی ‏‏قدس سره‏‎[2]‎‏ ‏‏ وغیره‏‏ ‏‏، فلا‏‏ ‏‏یتوجّه علیه هذا الإشکال‏‏ ‏‏. ولکن یتوجّه علیه‏‏ ‏‏: أنّه‏‎ ‎‏مخالف للوجدان‏‏ ‏‏، وحیث اعترف ‏‏قدس سره‏‏ بأنّ مقالة صاحب «الفصول» ‏‏قدس سره‏‏ موافق‏‎ ‎‏للوجدان فیکون وجوب المقدّمة لترتّب ذیها علیها‏‏ ‏‏، فالحیثیة التعلیلیة ترجع إلی‏‎ ‎‏التقییدیة‏‏ ‏‏، ویتعلّق الوجوب علی المقدّمة بحیثیة الإیصال‏‏ ‏‏. ومحال أن یدرک العقل‏‎ ‎‏ویستکشف الحکم الشرعی علی ملازم لما أدرکه العقل‏‏ ‏‏؛ وهو ذات المقدّمة‏‏ .‏

‏نعم‏‏ ‏‏، لا مضایقة فی أن یقال‏‏ ‏‏: إنّ الشارع علّق الحکم علی ذات المقدّمة‏‏ ‏‏، ولکنّه‏‎ ‎‏لو کان فلا‏‏ ‏‏یکون ذلک بملاک المقدّمیة‏‏ .‏

‏فمن رأی الملازمة بین ذی المقدّمة والمقدّمة التی یترتّب علیها ذوها ـ‏‏ ‏‏وواضح‏‏ ‏‏:‏‎ ‎‏أنّ هـذا التقیید عبارة اُخـری عـن موصلیـة المقدّمة‏‏ ‏‏ـ فلابدّ لـه إمّا مـن دفـع‏‎ ‎‏الإشکالات ـ‏‏ ‏‏کما دفعناها بحمد الله تعالی ـ أو یرفع الید عن وجوب المقدّمة التی‏‎ ‎‏یترتّب علیها ذوها‏‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 205
‏والحاصل‏‏ ‏‏: أنّ ما یحکم العقل بوجوبه إنّما هو عنوان الموصلیة‏‏ ‏‏؛ فلو أمکننا‏‎ ‎‏تجرید ذاک العنوان عن جمیع العناوین ـ حتّی عنوان المقدّمیة والسببیة والعلّیة التامّة‏‏ ‏‏،‏‎ ‎‏بل وحتّی عن الذاتیة ـ لوجب هو‏‏ ‏‏، دونها‏‏ .‏

‏ولکن حیث إنّ العالَم عالم المادّة والمزاحمات فلا تکاد تنفکّ الجهات بعضها عن‏‎ ‎‏بعض‏‏ ‏‏، فإن یری هذا المحقّق أنّ عنوان الموصل بما هو موصل واجب ـ کما اعترف به ـ‏‎ ‎‏فلا وجه لأن یکشف حکماً شرعیاً علی عنوان المقدّمة الفعلیة أو العلّة التامّة‏‏ ‏‏، وإن‏‎ ‎‏کان هاتان العنوانان ملازمین لعنوان الموصل بما هو موصل‏‏ ‏‏، فتدبّر‏‏ .‏

‏مع أنّه یتوجّه علی ما أفاده فی الوجه الثانی ـ مضافاً إلی ما ذکرـ‏‏ ‏‏: أنّ عنوان‏‎ ‎‏الموصل لا‏‏ ‏‏یکاد یلازم العلّة التامّة‏‏ ‏‏؛ لأنّ العلّة التامّة هی التی لا تنفکّ معلولها عنها‏‏ ‏‏،‏‎ ‎‏والمراد بالموصل الأعمّ منها وممّا تخلّل فی البین وسائط‏‏ ‏‏. فالموصل هو الذی یوصل إلی‏‎ ‎‏ذیها‏‏ ‏‏؛ إمّا بدون الواسطة‏‏ ‏‏، أو مع الواسطة‏‏ ‏‏، بل مع الوسائط‏‏ ‏‏. ولعلّ منشأ ما ذکره هو‏‎ ‎‏توهّم أنّ المراد بالموصل‏‏ ‏‏، الموصل الفعلی‏‏ ‏‏؛ فعبّر عنه بالعلّة التامّة‏‏ .‏

‏أضف إلی ذلک‏‏ ‏‏: أنّ قیاس ما نحن فیه بالشیء المرکّب عن عدّة أجزاء یجمعها‏‎ ‎‏وحدة الغرض‏‏ ‏‏، قیاس مع الفارق‏‏ ‏‏؛ لأنّ الصلاة ـ مثلاً ـ مرکّبة عن عدّة أجزاء‏‏ ‏‏، وهی‏‎ ‎‏التی تکون لها المصلحة‏‏ ‏‏، وأمّا الأجزاء فلم تکن فیها مصلحة‏‏ ‏‏، والأمر الضمنی‏‎ ‎‏لا‏‏ ‏‏معنی‏‏ ‏‏له‏‏ .‏

‏فهناک أمر واحد متعلّق بعنوان واحد‏‏ ‏‏، غایته تحقّق هذا العنوان فی الخارج‏‎ ‎‏بإتیان الأجزاء مرتّباً‏‏ ‏‏. وأمّا فیما نحن فیه فینطبق عنوان الموصل علی کلّ مقدّمة‏‎ ‎‏مقدّمة‏‏ ‏‏؛ لأنّ فی کلّ مقدّمة خاصّیة الموصلیة‏‏ ‏‏، فهذه المقدّمة بما أنّها موصلة واجبة‏‏ ‏‏،‏‎ ‎‏وهکذا سائر المقدّمات‏‏ .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 206
فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله‏ :‏‏ أنّ الذی یحکم به العقل ـ علی تقدیر ثبوت الملازمة‏‎ ‎‏بین المقدّمة وذیها ـ هو عنوان الموصل بما هو موصل‏‏ ‏‏، وأمّا العناوین الاُخر ـ سواء‏‎ ‎‏کانت ملازمة لذاک العنوان أم لا‏‏ ‏‏، من عنوان المقدّمیة‏‏ ‏‏، أو العلّیة التامّة‏‏ ‏‏، أو ترتّب‏‎ ‎‏وجوده علیها‏‏ ‏‏، أو غیر ذلک ـ فلا تکون واجبة‏‏ ‏‏، وإن فرضت کونها ملازمة لعنوان‏‎ ‎‏الموصل‏‏ ‏‏؛ فلا‏‏ ‏‏یکون لما ذهب إلیه صاحب «الفصول» محذور‏‏ .‏

‏والذی أوقع الأعلام الثلاث ـ الحائری والعراقی والأصفهانی ـ وغیرهم ـ‏‏ ‏‏قدّس‏‎ ‎‏الله أسرارهم ـ فی ما قالوا هو‏‏ ‏‏: أنّهم رأوا أنّ مقال صاحب «الفصول» موافق‏‎ ‎‏للوجدان‏‏ ‏‏، ولکنّهم استصعبوا بعض الإشکالات الواردة علی مقاله‏‏ ‏‏؛ فتمحّل کلّ منهم‏‎ ‎‏وتصدّی لتصویره بنحو خالٍ عن الإشکال‏‏ .‏

‏وقد عرفت منّا ـ بحمد الله ـ دفع الإشکالات الواردة‏‏ ‏‏، وعمدتها مشکلة الدور‏‎ ‎‏والتسلسل‏‏ ‏‏، مع أنّ ما تفصّوا به عنها غیر خالٍ عن الإشکال‏‏ ‏‏، والله الهادی إلی سواء‏‎ ‎‏الصراط‏‏ .‏

‏هذا کلّه فی مقام التصوّر‏‏ ‏‏، وأنّه علی القول بالملازمة هل العقل یحکم بوجوب‏‎ ‎‏مطلق المقدّمة‏‏ ‏‏، أو هی بقصد الإیصال‏‏ ‏‏، أو حال إرادة ذی المقدّمة أو الموصلة بما هی‏‎ ‎‏موصلة‏‏ ‏‏؟ وقد عرفت لعلّه بما لا مزید علیه‏‏ ‏‏: أنّ الذی یحکم به العقل ـ‏‏ ‏‏علی تقدیر‏‎ ‎‏الملازمة‏‏ ‏‏ـ هی عنوان الموصلة بما هی موصلة‏‏ ؟‏

‏ ‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 207

  • )) نهایة الدرایة 2 : 138 .
  • )) کفایة الاُصول : 143 .