حول مقال المحقّق الأصفهانی فی المقام
ثمّ إنّ المحقّق الأصفهانی قدس سره حیث رأی أنّ ما ذهب إلیه صاحب «الفصول» قدس سره موافق للعقل والوجدان ، ولکن استصعب علیه بعض الإشکالات المتقدّمة ، تصدّی لتصحیح المطلب بوجهین :
الوجه الأوّل بما حاصله : أنّه لا إشکال فی أنّ الغرض الأصلی والمطلوب
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 202
الأوّلی والواقعی إنّما هو ذو المقدّمة . وأمّا المقدّمات فمتعلّقة للغرض تبعاً لترتّب وجوده علی وجودها إذا وقعت علی ما هی علیه من اتّصاف السبب بالسببیة ، والشرط بالشرطیة ، وفعلیة دخله فی تأثیر المقتضی أثره ، فوقوع کلّ مقدّمة علی صفة المقدّمیة الفعلیة ملازم لوقوع الاُخری علی تلک الصفة ووقوع ذیها فی الخارج ، وإلاّ فذات الشرط المجرّد عن السبب ، أو السبب المجرّد عن الشرط ، أو المُعدّ المجرّد عن وقوعه فی سبیل الإعداد ، مقدّمة بالقوّة لا بالفعل ، ومثلها غیر مرتبط بالغرض الأصیل المترتّب علی وجود ذی المقدّمة ؛ فلا تکون مطلوبة بالتبع . ولیس الفرق بین الموصل وغیره إلاّ بالفعلیة والقوّة وملازمة الأوّل لذی المقدّمة وعدم ملازمة الثانی له .
والحاصل : أنّ صیرورة المقدّمة مقدّمـة فعلیة إنّما هی بأمـرین : أحدهما : وجود سائر المقدّمات ، والثانی : ترتّب ذی المقدّمـة علیها ، وإلاّ تکون مقدّمـة بالقوّة ، وهذا یکون موافقاً للوجدان ، مع سلامته عن الإشکالات ؛ لأنّه لم تقیّد المقدّمة بالإیصال .
الوجه الثانی بما حاصله : أنّه بعد ما عرفت من تعلّق الغرض الأصیل بذی المقدّمة والغرض التبعی بالمقدّمة ، والمقدّمات علّة ومحصّلة لغرضه الأصیل ، فالعلّة التامّة هی المرادة بتبع إرادة المعلول ؛ فکما أنّ الإرادة الفعلیة بذی المقدّمة واحدة وإن کان مرکّباً ، فکذلک الإرادة المتعلّقة بالعلّة التامّة واحدة وإن کانت العلّة مرکّبة .
فکما أنّ منشأ وحدة الإرادة فی الأوّل وحدة الغرض ، کذلک المنشأ فی الثانی وحدة الغرض ؛ وهو الوصول إلی المعلول . وکما أنّ إتیان بعض أجزاء المعلول لا یسقط الإرادة النفسیة المتعلّقة بالمرکّب ـ بل هی باقیة إلی آخر الأجزاء ، وإن کان یسقط اقتضاؤها شیئاً فشیئاً ـ فکذلک الإرادة الکلّیة المتعلّقة بالعلّة المرکّبة لا تسقط إلاّ بعد حصول الملازم لحصول معلولها ، وإن کان یسقط اقتضاؤها شیئاً فشیئاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 203
وکما أنّ أجزاء المعلول لا تقع علی صفة المطلوبیة إلاّ بعد التمامیة ، فکذلک أجزاء العلّة لا تقع علی صفة المطلوبیة المقدّمیة إلاّ بعد التمامیة ؛ لوحدة الطلب فی کلیهما ، ومنشؤها وحدة الغرض ، انتهی .
أقول : هذا الکلام من هذا المحقّق المتضلّع فی فنّ المعقول غیر مترقّب ، مع تصریحه قریباً برجوع الحیثیات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة إلی الحیثیات التقییدیة وذلک لأنّ البحث عن الملازمة بین المقدّمة وذیها عقلی یراد أن یستکشف بها حکم شرعی ، ولم یکن البحث عرفیاً حتّی یتطرّق فیه الإهمال . فإذا کان وجوب شیء لغایة فیعلم أنّ الغایة ترتّب ذی المقدّمة علیها ، وهذا عبارة اُخری عن موصلیة المقدّمة . فحیثیة الإیصال والموصلیة لا یمکن رفع الید عنها ، فلا یکون لدی العقل موضوع وعلّة وترتّب الحکم علی الموضوع ، بل ـ کما أشرنا آنفاً ـ یرجع جمیع القیود إلی الموضوع ، بل حکم العقل بالوجوب إنّما هو بتلک الحیثیة . وذلک لأنّ لنصب السلّم ـ مثلاً ـ جهات :
1 ـ حیثیة کون السلّم ذا مدارج .
2 ـ کونه شرطاً للکون علی السطح .
3 ـ توقّف ذی المقدّمة علیها .
4 ـ تقدّم النصب علی الکون .
5 ـ موصلیـة النصب إلی الکون بالأعمّ مـن الموصلیـة بالواسطـة أو مـع الواسطـة ، إلی غیر ذلک .
وواضح : أنّ حکم العقل بوجوب النصب لم یکن لشیء من تلک الحیثیات العدیدة ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 204
بل الذی یحکم به العقل هو حیثیة ترتّب ذی المقدّمة علیها ، وحیث إنّ الغایة عبارة عن عناوین الموضوع ـ کما تقرّر فی محلّه ، واعترف هذا المحقّق قدس سره به أیضاً ـ فموضوع حکم العقل عبارة عن هذا .
فإذا ثبت أنّ موضوع حکم العقل هو هذه الحیثیة ، فمحال أن یستکشف حکماً شرعیاً علی موضوع أوسع أو أضیق من دائرته . فإذا کان الشرط أو السبب ـ بما أنّهما سببان فعلیان ـ ملازماً لترتّب ذی المقدّمة علیها ، فالعقل یحکم بأنّ حیثیة الوجوب فیها ترتّب ذاک علیها .
وبالجملة : إن قال قدس سره : إنّ المطلوب مطلق المقدّمة ، کما اعترف به المحقّق الخراسانی قدس سره وغیره ، فلا یتوجّه علیه هذا الإشکال . ولکن یتوجّه علیه : أنّه مخالف للوجدان ، وحیث اعترف قدس سره بأنّ مقالة صاحب «الفصول» قدس سره موافق للوجدان فیکون وجوب المقدّمة لترتّب ذیها علیها ، فالحیثیة التعلیلیة ترجع إلی التقییدیة ، ویتعلّق الوجوب علی المقدّمة بحیثیة الإیصال . ومحال أن یدرک العقل ویستکشف الحکم الشرعی علی ملازم لما أدرکه العقل ؛ وهو ذات المقدّمة .
نعم ، لا مضایقة فی أن یقال : إنّ الشارع علّق الحکم علی ذات المقدّمة ، ولکنّه لو کان فلا یکون ذلک بملاک المقدّمیة .
فمن رأی الملازمة بین ذی المقدّمة والمقدّمة التی یترتّب علیها ذوها ـ وواضح : أنّ هـذا التقیید عبارة اُخـری عـن موصلیـة المقدّمة ـ فلابدّ لـه إمّا مـن دفـع الإشکالات ـ کما دفعناها بحمد الله تعالی ـ أو یرفع الید عن وجوب المقدّمة التی یترتّب علیها ذوها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 205
والحاصل : أنّ ما یحکم العقل بوجوبه إنّما هو عنوان الموصلیة ؛ فلو أمکننا تجرید ذاک العنوان عن جمیع العناوین ـ حتّی عنوان المقدّمیة والسببیة والعلّیة التامّة ، بل وحتّی عن الذاتیة ـ لوجب هو ، دونها .
ولکن حیث إنّ العالَم عالم المادّة والمزاحمات فلا تکاد تنفکّ الجهات بعضها عن بعض ، فإن یری هذا المحقّق أنّ عنوان الموصل بما هو موصل واجب ـ کما اعترف به ـ فلا وجه لأن یکشف حکماً شرعیاً علی عنوان المقدّمة الفعلیة أو العلّة التامّة ، وإن کان هاتان العنوانان ملازمین لعنوان الموصل بما هو موصل ، فتدبّر .
مع أنّه یتوجّه علی ما أفاده فی الوجه الثانی ـ مضافاً إلی ما ذکرـ : أنّ عنوان الموصل لا یکاد یلازم العلّة التامّة ؛ لأنّ العلّة التامّة هی التی لا تنفکّ معلولها عنها ، والمراد بالموصل الأعمّ منها وممّا تخلّل فی البین وسائط . فالموصل هو الذی یوصل إلی ذیها ؛ إمّا بدون الواسطة ، أو مع الواسطة ، بل مع الوسائط . ولعلّ منشأ ما ذکره هو توهّم أنّ المراد بالموصل ، الموصل الفعلی ؛ فعبّر عنه بالعلّة التامّة .
أضف إلی ذلک : أنّ قیاس ما نحن فیه بالشیء المرکّب عن عدّة أجزاء یجمعها وحدة الغرض ، قیاس مع الفارق ؛ لأنّ الصلاة ـ مثلاً ـ مرکّبة عن عدّة أجزاء ، وهی التی تکون لها المصلحة ، وأمّا الأجزاء فلم تکن فیها مصلحة ، والأمر الضمنی لا معنی له .
فهناک أمر واحد متعلّق بعنوان واحد ، غایته تحقّق هذا العنوان فی الخارج بإتیان الأجزاء مرتّباً . وأمّا فیما نحن فیه فینطبق عنوان الموصل علی کلّ مقدّمة مقدّمة ؛ لأنّ فی کلّ مقدّمة خاصّیة الموصلیة ، فهذه المقدّمة بما أنّها موصلة واجبة ، وهکذا سائر المقدّمات .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 206
فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله : أنّ الذی یحکم به العقل ـ علی تقدیر ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذیها ـ هو عنوان الموصل بما هو موصل ، وأمّا العناوین الاُخر ـ سواء کانت ملازمة لذاک العنوان أم لا ، من عنوان المقدّمیة ، أو العلّیة التامّة ، أو ترتّب وجوده علیها ، أو غیر ذلک ـ فلا تکون واجبة ، وإن فرضت کونها ملازمة لعنوان الموصل ؛ فلا یکون لما ذهب إلیه صاحب «الفصول» محذور .
والذی أوقع الأعلام الثلاث ـ الحائری والعراقی والأصفهانی ـ وغیرهم ـ قدّس الله أسرارهم ـ فی ما قالوا هو : أنّهم رأوا أنّ مقال صاحب «الفصول» موافق للوجدان ، ولکنّهم استصعبوا بعض الإشکالات الواردة علی مقاله ؛ فتمحّل کلّ منهم وتصدّی لتصویره بنحو خالٍ عن الإشکال .
وقد عرفت منّا ـ بحمد الله ـ دفع الإشکالات الواردة ، وعمدتها مشکلة الدور والتسلسل ، مع أنّ ما تفصّوا به عنها غیر خالٍ عن الإشکال ، والله الهادی إلی سواء الصراط .
هذا کلّه فی مقام التصوّر ، وأنّه علی القول بالملازمة هل العقل یحکم بوجوب مطلق المقدّمة ، أو هی بقصد الإیصال ، أو حال إرادة ذی المقدّمة أو الموصلة بما هی موصلة ؟ وقد عرفت لعلّه بما لا مزید علیه : أنّ الذی یحکم به العقل ـ علی تقدیر الملازمة ـ هی عنوان الموصلة بما هی موصلة ؟
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 207