ومنها : إشکال التسلسل
ویقرب ذلک بوجهین :
الوجه الأوّل : أنّه لو کانت المقدّمة بقید الإیصال واجبة ، فواضح أنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی الذات وقید الإیصال ، وحیث إنّ المفروض : أنّ المقدّمة الموصلة واجبة تکون الذات بقید الإیصال واجبة ، والإیصال بقید إیصال آخر ، فینحلّ کلّ من الذات وقید الإیصال إلی مرکّبین ، وینحلّ المرکّبان إلی أربع مرکّبات ، وهی إلی ثمانیة وهکذا . . . فیلزم وجود سلاسل غیر متناهیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 192
وبعبارة اُخری : أنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی ذات وقید ، وفی کلٍّ منهما مناط الوجوب للتوقّف ، فعلی وجوب المقدّمة الموصلة یجب أن تکون الذات بقید الإیصال واجبة ، وقید الإیصال أیضاً بقید الإیصال واجباً ؛ فیتقیّد کلٌّ منهما بإیصال آخر ، وهلمّ جرّاً .
وفیه : أنّ هذا الإشکال نظیر الإشکال علی القائلین بأصالة الوجود ؛ بأنّه لو کان الوجود موجوداً یلزم أن یکون للوجود وجود ، فینحلّ إلی وجودین ، وهما إلی وجودات ، وهکذا . . . فیوجب سلاسل غیر متناهیة . فوزان جواب الإشکال فیما نحن فیه وزان ما اُجیب به هناک .
وحاصل ما هناک هو : أنّ تحقّق کلّ شیء ووجوده إنّما هو بالوجود ، ولکن الوجود موجود بنفس ذاته لا بشیء آخر ، فلا یتسلسل .
فنقول هنا : إنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی ذات وقید الإیصال ، فالذات موصلة بالذات ، فلا معنی لتقییدها بإیصال زائد علی هذا الإیصال ؛ للزومه تکرّر الموصل بداهة ، ولا یکون للإیصال إیصال ؛ لامتناع تکرّر الإیصال إلی المطلوب .
والحاصل : أنّه لا معنی لتقیید الإیصال بإیصال آخر ، ولا تقیید الذات بإیصال زائد علی هذا الإیصال ؛ لامتناع تکرّر الموصل والإیصال .
الوجه الثانی : ما قرّبه المحقّق النائینی قدس سره ، وهو : أنّ المقدّمة الموصلة تنحلّ إلی أمرین : أحدهما الذات ، والآخر قیدیة التوصّل ولو علی وجه دخول التقیید وخروج القید ، فتکون الذات مقدّمة لحصول المقدّمة المرکّبة ، کما هو الشأن فی جمیع أجزاء المرکّب ، حیث یکون وجود کلّ جزء مقدّمة لوجود المرکّب ، مثلاً : لو کان الوضوء
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 193
الموصل إلی الصلاة مقدّمة أو السیر الموصل إلی الحجّ مقدّمة ، فذات الوضوء والسیر تکون مقدّمة للوضوء الموصل والسیر الموصل ، وإذا اعتبر فیه قید الإیصال أیضاً یلزم التسلسل ، فلا محیص ـ بالأخرة ـ من أن ینتهی إلی ما تکون الذات مقدّمة . فإذا کان الأمر کذلک فلتکن الذات من أوّل الأمر مقدّمة لذیها ، من دون اعتبار قید التوصّل .
وفیه : أنّ هذا التقریب أسوأ حالاً من التقریب السابق ؛ وذلک لأنّ القائل بوجوب المقدّمة الموصلة یری أنّ الموصل إلی ذی المقدّمة ـ الذی یکون واجباً نفسیاً ـ واجب ، فالموصل إلی المقدّمة التی تکون واجبة غیریة خارج عن موضوع کلامه .
وبعبارة اُخری : الملاک الذی یری القائل بوجوب المقدّمة الموصلة لا یکون بالنسبة إلی هذه المقدّمة ؛ لأنّه یری أنّ الوجدان والبرهان قائمان علی أنّ ذات المقدّمة ربّما لا تکون مطلوبة ومحبوبة ، بل تکون مبغوضة . فمطلوبیتها إنّما هی لأجل مطلوب نفسی فوقه ـ وهو ذو المقدّمة ـ فمطلوبیة المقدّمة إنّما هی لأجل الإیصال إلی ذیها ، وهذا الملاک غیر موجود فی جزء الجزء ، بل الجزء وجزء الجزء وهکذا . . . کلّها مطلوبات لأجل ذی المقدّمة ، لا أنّ جزء الجزء مطلوب للجزء مثلاً .
وبعبارة ثالثة : لا یقول صاحب «الفصول» قدس سره : إنّ کلّ موقوف علیه واجب ، ولا یری أنّ جمیع أجزاء المرکّب واجبة ، بل یری أنّ الواجب أخصّ من الموقوف علیه ؛ فإن کان الواجب مرکّباً من عدّة أجزاء ، وأجزاؤها من أجزاء ، وهکذا . . . فما یکون واجباً لدیه هو الجزء الموصل إلی ذی المقدّمة ؛ فأین التسلسل ؟ ! فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 194
ومن الإشکالات علی مقال صاحب «الفصول» قدس سره : أنّه لو وجبت المقدّمة الموصلة یلزم کون الواجب النفسی واجباً غیریاً ؛ وذلک لأنّه لو وجبت المقدّمة الموصلة تکون ذو المقدّمة مقدّمة لمقدّمته ، فیکون مقدّمة لنفسه ، فیلزم أن یکون ذو المقدّمة بما أنّه مقدّمة لنفسه واجباً غیریاً ، وحیث إنّه کان واجباً نفسیاً فیلزم الجمع بین الوجوب النفسی والغیری .
وبعبارة اُخری : لو وجبت المقدّمة الموصلة یلزم أن یکون ذو المقدّمة من مبادئ مقدّمته ، وبه یصیر واجباً غیریاً ، کما هو واجب نفسی . بل یلزم اجتماع وجوبات غیریة بعدد المقدّمات لو تعدّدت ؛ لأنّ المفروض : أنّ الواجب هو المقدّمة الموصلة ، فیترشّح منه إلی کلّ من الذات وقید الإیصال وجوب غیری . وإن شئت قلت : یترشّح من ذی المقدّمة وجوب غیری علی نفسه ، وهو کما تری .
وفیه : أنّ القائل بالمقدّمة الموصلة یری أنّ ما یتعلّق به الوجوب الغیری ، هو المقدّمة مع قید الإیصال إلی ذی المقدّمة ، فیعتبر فیه أمران : الأوّل کونه موقوفاً علیه ، والثانی کونه موصلة إلی ذی المقدّمة ؛ فلا تکون نفس نصب السلّم ـ مثلاً ـ واجباً عنده ، بل النصب بما أنّه یتوقّف علیه الکون علی السطح ویتوصّل به إلیه ، وواضح : أنّه یستحیل أن یکون نفس ذی المقدّمة موقوفاً علی نفسه ، وأن یکون موصلاً إلی نفسه ؛ فلا یتعلّق به الوجوب الغیری ، وتوقّف وصف المقدّمة علی وجوده لا یستلزم تعلّق الوجوب به . فذات المقدّمة حیث لم تکن موصلاً فلا تتّصف بالوجوب الغیری حتّی یتّصف بالوجوبات الغیریة المتعدّدة بعدد المقدّمات ، فتدبّر .
ومنها : أنّ القول بالمقدّمة الموصلة یستلزم إنکار وجوب المقدّمة فی غالب
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 195
الواجبات ؛ لعدم کون الإیصال أثر تمام المقدّمات ، فضلاً عن إحداها ؛ فلابدّ من الالتزام باختصاص الوجوب بمقدّمات هی علّة تامّة لترتّب ذیها علیها ـ أی الأفعال التسبیبیة والتولیدیة ـ وأمّا فی غیرها فلابدّ من توسّط الإرادة بین ذی المقدّمة ومقدّماتها ، والالتزام بوجوب الإرادة التزام بالتسلسل ؛ لاستلزام الإرادة إرادةً اُخری ، وهکذا .
وفیه : أنّ المراد بالموصلة لیس خصوص ما یترتّب علیه ذو المقدّمة قهراً وبلا واسطة حتّی یرد علیه الإشکال ، بل المراد الأعمّ منه وما یترتّب علیه بوسائط . فالمراد بالمقدّمة الموصلة ما یقع بعدها الواجب ـ سواء کان بلا واسطة ، أو مع واسطة أو وسائط ـ لا مطلق المقدّمة وإن لم یقع الواجب بعدها . فالقدم الأوّل إلی الحجّ قد یکون موصلاً ـ ولو مع واسائط کثیرة ـ إذا تعقّبه الحجّ ، وقد لا یکون موصلاً إذا لم یتعقّبه الحجّ .
وأمّا إشکال الإرادة : فربّما تکرّر فی کلماتهم : أنّ الإرادة غیر اختیاریة وغیر قابلة لتعلّق الأمر بها .
ففیه أوّلاً : أنّه ـ کما تقدّم فی التعبّدی والتوصّلی ـ أنّها اختیاریة قابلة لتعلّق التکلیف بها ، کیف والتعبّدیات کلّها من هذا القبیل وقد وقع القصد مورداً للوجوب ؟ !
وثانیاً : لو قلنا بوجوب مطلق المقدّمة فالإرادة أیضاً من المقدّمات ، فیلزم اتّصافها بالوجوب ، مع أنّها علی زعمکم غیر اختیاریة ، فالإشکال بالإرادة مشترک
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 196
الورود ؛ فلابدّ وأن لا تکون الإرادة متعلّقة للوجوب ؛ لاستلزامه التسلسل علی مبنی المستشکل ، فما یدفع به هذا الإشکال علی القول بوجوب مطلق المقدّمة ، هو الجواب علی القول بالمقدّمة الموصلة ، فتدبّر .
ومنها : أنّ مقتضی القول بوجوب المقدّمة الموصلة عدم سقوط الأمر بالمقدّمة إلاّ بعد إتیان ذی المقدّمة ، مع أنّ سقوط الأمر بمجرّد الإتیان بالمتعلّق واضح .
وفیه : أنّه علی القول بالمقدّمة الموصلة لابدّ وأن لا یسقط الأمر بالمقدّمة إلاّ إذا ترتّب علیه ذو المقدّمة ، فذات المقدّمة لم تتعلّق بها الأمر حتّی یسقط بإتیانه ، بل المتقیّدة بقصد الإیصال مأمور به ، وهی لا تسقط إلاّ بإتیان قیدها . فدعوی وضوح سقوط الأمر بمجرّد إتیان المقدّمة فی غیر محلّها .
ومنها : مـا فی تقریرات المحقّق العراقی قدس سره ، ولکن عبارته لا تخلو عـن التسامح ؛ فالحریّ أن تحرّر بهذا النحو ، وهو : أنّه لو کانت المقدّمة المقیّدة بالإیصال واجبة یلزم تقیید الواجب بشیء لا یمکن الانفکاک عنه ؛ لأنّ المقدّمـة الموصلـة أو التی یترتّب علیها ذو المقدّمة لا ینفکّ عن ذیها ، فیلزم أن یکون الواجب ـ أی المقدّمة ـ مقیّداً بشیء علی فرض وجوده لا ینفکّ عن ذی المقدّمة ، وهذا بمنزلة تحصیل الحاصل ؛ لأنّ الأمر المتعلّق بالمقیّد یدعو إلی الذات والقید ، فإذا کانت ذات غیر منفکّ عن القید فالدعوة إلی الذات دعوة إلی القید . وبالجملة : إذا کانت المقدّمة تولیدیاً بالنسبة إلی ذیها ـ مثلاً ـ فإذا أمر مقیّداً بحصول ذیها عقیبه فمقتضاه تقییده بشیء یکون حاصلاً وغیر منفکّ عنه ، انتهی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 197
وفیه : أنّه یظهر جوابه ممّا ذکرناه آنفاً ، وحاصله : أنّ مراد القائل بالمقدّمة الموصلة لیست الموصلة غیر المنفکّ عن ذیها ، بل یری أنّ کلّ مقدّمة من المقدّمات ـ سواء کانت بینها وبین ذیها فاصلة طویلة أو قصیرة ، أو لم تکن فاصلة ـ حیث إنّها لم تکن مطلوبة بالذات ـ بل لأجل ذیها ـ فإن انضمّت إلی المقدّمة سائر المقدّمات وحصل ذوها ، تقع المقدّمة علی صفة المطلوبیة .
نعم ، لو کان مراد القائل بالموصلة هو القول بأنّ المقدّمة السببیّة واجبة ، یتمّ الإشکال ، لکنّه من الواضح : أنّه لم یکن مراد صاحب «الفصول» قدس سره ، وإلاّ یلزم التفصیل بین السبب وغیره ، لا الموصل وغیره .
وبالجملة : مراد القائل بالمقدّمة الموصلة هو أنّ المقدّمة حیث تقع فی الخارج علی قسمین : أحدهما المقدّمة التی تنضمّ إلیها سائر المقدّمات ویحصل ذوها ، والثانی المقدّمة التی لیست کذلک ، والواجب من القسمین هو الأوّل منهما ، فإتیان المقدّمة عنده للوصول إلی ذیها ؛ سواء کانت بینها وبین ذیها واسطة أم لا .
نعم ، المقدّمة السببیة حیث إنّها لا تنفکّ عن ذیها لا یحتاج إلی قید الإیصال فیها .
فتحصّل لک ممّا ذکرنا : أنّ مقال صاحب «الفصول» قدس سره ـ مضافاً إلی أنّه لم یکن فیه محذور عقلی ـ مطابق للوجدان ؛ لأنّ من یرید شیئاً یتوقّف حصوله علی مقدّمات یرید المقدّمات ، لکن لا لأجل ذواتها ، بل لأجل الوصول إلی ذاک ، وإلاّ فقد تکون المقدّمات مبغوضة لدیه ، ولذا لوأمکن للشخص أن یصل إلی ذاک الشیءبدون التوصّل إلی مقدّمة لرفض المقدّمات وخلّی بینه وبین ذاک الشیء . ولکن حیث إنّ العالَم عالم التزاحم ولا یکاد یمکن فیه الوصول إلی الغایات إلاّ بالتوصّل بالمقدّمات فیریدها للتوصّل بها إلی ذیها . فالوجدان أصدق شاهدٍ علی أنّ المقدّمة الموصلة واجبة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 198