حول ما نسب إلی الشیخ الأنصاری
ربّما یحکی عن الشیخ الأعظم قدس سره : أنّ المقدّمة الواجبة هی خصوص ما قصد بها التوصّل إلی ذی المقدّمة .
ولکن الذی ظهر لنا بعد التأمّل فی کلامه ـ مع إغلاق فی عبارة المقرّرـ : أنّ هناک مقامین :
المقام الأوّل : فی بیان محـطّ الملازمـة وملاک المقدّمیـة فإنّه قال فی ذلک : إنّا بعد أن استقصینا التأمّل فی ملاک وجوب المقدّمة ، فلم نَرَ فی وجوبها إلاّ أنّ عدمها یوجب عدم المطلوب ، وهذه الحیثیة هی التی یشترک فیها جمیع المقدّمات .
وبالجملة : ملاک وجوب المقدّمة توقّف ذی المقدّمة علیها ، ولا مدخلیـة للإرادة فی ذلک أصلاً ، کیف وإطلاق وجوب المقدّمة واشتراطـه تابـع لإطلاق وجوب ذیها ؟ !
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 182
وبعبارة اُخـری : ما یظهر فی باب الملازمـة بین المقدّمـة وذیها : أنّ ذات المقدّمة واجبة .
المقام الثانی: وهو مشتبه المراد ، یحتمل أن یرید أحد الوجهین :
الوجه الأوّل : أنّه بعد الفراغ عن کون ذات المقدّمة واجبة ، یقع الکلام فی أنّه هل فی مقام الامتثال وتحقّقها خارجاً علی جهة الامتثال نحتاج إلی قصد التوصّل بها إلی ذیها ، أم لا ؟ فاختار اعتباره .
وذلک ـ ببیان منّا وأشار إلیه المحقّق العراقی قدس سره فی أحد محتملاته ـ هو : أنّ وقوع المقدّمة علی جهة الامتثال إنّما هو بحسب القصد إلی ذیها ؛ لأنّ المقدّمة واجبة لأجل ذیها ، وحیث إنّ البحث عن وجوب الملازمة عقلی فلابدّ من التدقیق فی الحیثیة التی تجب لأجلها ، وواضح : أنّ الواجب بحکم العقل هو عنوان المقدّمة لا ذاتها ؛ لأنّ الحیثیّات والجهات التعلیلیة فی الأحکام العقلیة جهات وحیثیات تقییدیة . وبالجملة : حکم العقل بوجوب شیء لکونه مقدّمة لواجب ، حکم بوجوب عنوان المقدّمة قهراً .
فعلی هذا : مرجع وجوب نصب السلّم ـ مثلاً ـ لتوقّف الکون علی السطح علیه إلی وجوب النصب بما هو مقدّمة للکون علی السطح ، فلا مناص للعبد المرید لامتثال أمر مولاه أن یأتی بالمقدّمة کما وجبت ـ وهی إتیانها قاصداً لعنوانها المقدّمی ـ وإلاّ لم یکن آتیاً بالمقدّمة بما أنّها مقدّمة ، ومحال أن ینفکّ إرادة المقدّمة بما هی مقدّمة عن إرادة ذیها .
فتحصّل : أنّ إرادة المقدّمة خارجاً علی جهة الامتثال بما أنّها مقدّمة تلازم قصد التوصّل بها إلی ذیها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 183
إشکال ودفع
أورد المحقّق العراقی قدس سره علی هذا الوجه إشکالین :
الإشکال الأوّل : أنّ الجهات التعلیلیة لا تکاد ترجع إلی الجهات التقییدیة فی الأحکام العقلیة ؛ لأنّ العقل یری لحکمه موضوعاً وعلّة ، ولا معنی لإرجاع العلّة إلی الموضوع ، بحیث یصیر موضوعاً للحکم . نعم قد یتسامح فی التعبیر بإرجاعها إلی الموضوع .
الإشکال الثانی : أنّه لو سلّم الرجوع ، لکن لا یتمّ فی مثل المقام ممّا کان الوجوب فیه بحکم الشارع ولم یکن للعقل فیه شأن إلاّ بنحو الکاشفیة والطریقیة . وبالجملة : رجوع الجهات التعلیلیة إلی الجهات التقییدیة لو تمّ فإنّما هو فی الأحکام التی یدرکها العقل ، ولا تکاد تجری فیما یکون ثابتاً من الشارع باستکشاف من العقل ، انتهی .
وفیه : أنّ الحقّ فی هذه المسألة هو الذی احتمل أن یکون مراداً للشیخ الأعظم قدس سره ، علی تقدیر ثبوت الملازمة بین وجوب المقدّمة وذیها ، ولا یتمّ شیء من الإشکالین . وذلک لوجود الفرق بین الأحکام العرفیة والأحکام العقلیة ؛ فإنّ الأحکام العرفیة تابعة للظواهر ، مثلاً إذا قال المولی لعبده : «لا تشرب الخمر ؛ لأنّه مسکر» یصحّ أن یقال : إنّ هناک عند العرف موضوعاً ـ وهو الخمر ـ ومحمولاً ـ وهو لا تشرب ـ وجهة تعلیلیة ؛ وهو الإسکار .
وأمّا فی الأحکام العقلیة المبنیة علی التدقیقات فحیث لا یحکم العقل فی مورد
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 184
إلاّ إذا کان هناک ملاک وجهة ، مثلاً ضرب الیتیم یکون له جهات مختلفة ؛ من کون الضرب ـ مثلاً ـ صادراً من شخص وواقعاً علی الیتیم فی مکان کذا وزمان کذا و . . . وحکم العقل بقبحه لیس لأجل تلک الحیثیات والجهات ، بل لم یکن لنفس الضرب قبح لدیه ، وإلاّ یلزم أن لا یکون للضرب التأدیبی حُسن ، بل قبحه إنّما هو لتعنونه بعنوان الظلم ، وعنوان الظلم یقبح متی تحقّق ، و«أیّ مورد وجد» ؛ ولذا حیث لا یکون الضرب للتأدیب ظلماً لا یکون فیه قبح ، بل فیه حسن .
فإذن : الظلم حیث کان علّة لتقبیح العقل الضرب ، فیکون هو الموضوع لدیه للقبح ، وهذا معنی رجوع الجهات التعلیلیة إلی الجهات التقییدیة فی الأحکام العقلیة .
وبعبارة اُخری : حیث یکون الضرب ذا جهات وحیثیات متعدّدة ، ولکن حکم العقل بقبحه إنّما هو لکونه ظلماً ، فالموضوع فی الحقیقة للتقبیح العقلی هو الظلم ، وسائر العناوین لا تکون دخیلة فیه أصلاً ، وهو ظاهر . ولا تکون ذات الضرب بعلّیة الظلم بحیث یکون الظلم واسطة وعلّة لتقبیح الضرب نفسه ؛ لاستلزامه الخلف ؛ فإنّ الذات تکون قبیحة بالعرض ؛ فلا محیص إلاّ أن یکون الظلم قبیحاً بالذات ؛ فیصیر الظلم موضوعاً بالحقیقة للقبح ، وهذا معنی رجوع الحیثیات التعلیلیة إلی التقییدیة .
ولعمر الحقّ : إنّ هذا واضح ممّا لا إشکال فیه . فالإشکال الأوّل من المحقّق العراقی قدس سره ساقط .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 185
الوجه الثانی : ـ کما یشعر به صدر کلامه وذیله ـ وهو : أنّه یشترط فی وقوع المقدّمة علی سبیل الوجوب والمطلوبیة فی الخارج قصد التوصّل إلی ذیها . وهذا الوجه قریب من الوجه الأوّل ، ولم یذکر المحقّق العراقی له بیاناً .
ویظهر من تقریر المحقّق النائینی قدس سره : أنّ الشیخ الأعظم قدس سره یرید اعتبار ذلک فی خصوص المقدّمة المحرّمة بالذات التی صارت مقدّمة لواجب أهمّ ، لا مطلق المقدّمات .
وذلک لأنّه قال : لا ینبغی الإشکال فی أنّه لا یعتبر قصد التوصّل فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب ؛ فإنّ اعتبار القصد إمّا أن یکون فی العناوین القصدیة التی یتوقّف تحقّق عنوان المأمور به فیها علی القصد ، نظیر التعظیم والتأدیب وغیر ذلک من العناوین القصدیة ، وإمّا من جهة قیام الدلیل علی ذلک . ولیس المقام من العناوین القصدیة ، ولا ممّا قام الدلیل علیه ؛ فمن أین یجیء اعتبار القصد فی وقوع المقدّمة علی صفة الوجوب ؟ !
إلی أن قال : وبالجملة : دعوی أنّ الواجب هو الذات المقیّدة بقصد التوصّل فی مطلق المقدّمات ممّا لا یمکن المساعدة علیه ، وهی من الشیخ قدس سره غریبة .
وأمّا إذا اُرید اعتبار قصد التوصّل فی خصوص المقدّمة المحرّمة بالذات التی صارت مقدّمة لواجب أهمّ ، فمّما یمکن أن یوجّه ؛ لأنّ وجوب المقدّمة ـ حینئذٍـ لمکان حکم العقل ، حیث زاحم حرمتها واجب أهمّ . والمقدار الذی یحکم به العقل هو ما إذا
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 186
اُتی بها بقصد التوصّل إلی الواجب الأهمّ ، لا بقصد التنزّه والتصرّف فی مال الغیر عدواناً ؛ فإنّ مثل ذلک یأبی العقل عن وجوبه ، ولا یقاس ذلک بالمقدّمة المباحة ؛ فإنّ المقدّمة المباحة لکان وجوبها لمجرّد توقّف واجب علیها ، وکان ما یتوقّف علیه هو الذات ، وحیث لم تکن الذات مقتضیة لشیء ـ بل کانت لا اقتضاء ـ فتکون الذات واجبة من دون اعتبار قصد التوصّل ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّه صرّح الشیخ قدس سره ـ علی ما فی التقریر ـ أنّ الثمرة لا تحصل إلاّ فی المقدّمة المحرّمة ، ولا یرید التفصیل بین المقدّمة المحرّمة وغیرها . بل ظاهر عبارته یعطی أنّ إرادة التوصّل تعتبر فی جمیع المقدّمات .
لکن الثمرة تظهر فی موردین : أحدهما فی المقدّمات العبادیة ؛ لأنّها لیست مثل سائر المقدّمات فی الاکتفاء بذات المقدّمة عنها . والثانی : فی المقدّمات المحرّمة . وأمّا فی المقدّمات غیر المحرّمة وغیر المقدّمات العبادیة فلم تکن لها ثمرة .
وثانیاً : مضافاً إلی أنّ الاحتمال الثانی فی کلام الشیخ قدس سرهبالنسبة إلی الاحتمال الأوّل ضعیف ، غیر تمام فی نفسه . وذلک لأنّ الشیخ قدس سره لم یشترط شیئاً فیما هو متعلّق الوجوب فی المقدّمة ، بل قال : بأنّ الواجب مطلق المقدّمة بملاک التوقّف والإناطة العدمی بها ، وهذا التوقّف والإناطة موجود ؛ قَصد أو لم یقصد ، التفت أو کان غافلاً . وبالجملة : الملاک کلّ الملاک فی وجوب المقدّمة إنّما هو التوقّف والاستلزام العدمی من حیث إنّ لوجودها مدخلاً فی وجود المعلول . ولا مدخلیة للقصد فی ذلک أصلاً .
وثالثاً : أنّ اعتبار قصد التوصّل إمّا أن یکون بنحو شرط الوجوب ، أو بنحو
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 187
شرط الواجب . لا سبیل إلی الأوّل ؛ لأنّه یرد علیه ما یرد علی ما ذهب إلیه صاحب «المعالم» قدس سره ، ولأنّه إذا قصد التوصّل بالمقدّمة إلی ذیها تجب المقدّمة ، وهو تحصیل الحاصل . وبالجملة : قصد ذی المقدّمة مستلزم لقصد مقدّمته ، فلازم ذلک : وجوب المقدّمة حین إرادتها ، وهو تحصیل للحاصل .
وکذا لا سبیل إلی الثانی ، لکن لا لأجل عدم إمکان أخذ الإرادة فی الواجب ـ کما قاله المحقّق الخراسانی قدس سره ـ بداهة إمکان أن یجب الشیء ویعتبر فی إتیانه أن یکون مع القصد ، بل لأجل ورود الأمر به فی الشریعة ، کما فی قصد الأمر فی العبادات ـ کما سبق ـ بل لأجل أنّ العقل لا یری لإرادة العبد دخالة فی الملاک ، بل الملاک کلّ الملاک ـ علی مبنی غیر صاحب «الفصول» قدس سره ومن یحذو حذوه ـ قائم بذات المقدّمة وما یکون مصداقاً لها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 188