آراء القوم فی کیفیة الثواب والعقاب الاُخرویین
فمنها ما قاله بعض أهل النظر ، إجماله : أنّ الثواب والعقاب فی النشأة الآخرة لم یکن نظیر المثوبات والعقوبات المقرّرة فی النظامات المتمدّنـة البشریـة ؛ بأن یُضرب أحدٌ أو یُسجن ـ مثلاً ـ بفعله القبیح ، أو یعطی أحدٌ ثواباً وأجراً بفعلـه الحسن ، بل الثواب والعقاب فی تلک النشأة من قبیل لوازم الأعمال ، ولها صور مناسبـة لتلک النشأة .
وبعبارة اُخری : أنّ للأعمال الحسنة والأفعال القبیحة لوازم وصوراً صالحة أو طالحة فی النشأة الآخرة یحشر الإنسان معها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 144
بل مثلُ الأعمال ، العقائد الصحیحة أو الفاسدة ، لها لوازم وصور غیبیة ، ونحوهما الملکات الفاضلة أو الردیئة . ففی تلک النشأة أنواع من المثوبات والعقوبات .
وبالجملة : الأعمال التی تصدر من الإنسان فی هذه النشأة إن کانت صالحة تکون لها صور صالحة بهیئة حسنة فی النشأة الآخرة ، وإن کانت سیّئة تکون لها صور طالحة کریهة فیها ، ویُحشر الإنسان مع تلک الصور ، وتلک الصور لازمة لأعماله .
بل ، وکذا للأخلاق الفاضلة أو الردیئة صور غیبیة ملکوتیة ؛ فمَن تخلّق بأخلاق حسن أو قبیح یؤجر أو یعذّب معها غیر ما یؤجر أو یعذّب بالأعمال .
بل للعقائد الحسنة والسیّئة صور ملکوتیة یثاب أو یعذّب علیها غیر ما یثاب أو یعذّب بأعماله وملکاته .
وربّما یستدلّ لمقاله ببعض الآیات والروایات ، کقوله تعالی : «فَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَیْراً یَرَهُ وَمَنْ یَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً یَرَهُ» .
وقد ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام : «إنّ هذه الآیة أحکم آیة فی القرآن» .
وظاهر الآیة الشریفة یعطی بأنّ للخیر والشرّ هناک صوراً یراها فاعل الخیر والشرّ ، وقد ورد : «أنّ المتکبّر یُحشر فی صورة الذرّ ویوطأ علیه» ، و «أنّ من اغتاب یکون لسانه بین مکّة والمدینة یطأ علیه الخلائق» إلی غیر ذلک من الآیات والروایات .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 145
وبالجملة : لکلّ من الأعمال والملکات والعقائد فی تلک النشأة صور غیبیة لازمة لها تحشر الإنسان معها ، ولکن لا عرفان لنا بکیفیتها وحقیقتها ، نعم علمها عند الله تعالی ومن خصّه من أولیائه .
فعلی هذا القول تکون نسبة التوبة إلی تلک الصور نسبة اللعان إلی نفی الولد ؛ فکما تنفی اللعان الولد شرعاً مع وجود مولود خارجاً ، فکذلک التوبة تنفی انتساب الصور القبیحة المجسّمة .
وقریب من هذا القول ما قد یقال : إنّ الإنسان بواسطة الأعمال وتحصیل الملکات والعقائد تحصل له قدرة فی تلک النشأة یمکنه إیجاد ما یریده . ولعلّه لذا قد ورد : أنّ بعد استقرار أهل الجنّة فی الجنّة یحضرهم مکتوب قد رقم فیه : من الحیّ القیّوم الذی لا یموت إلی الحیّ القیّوم الذی لا یموت : إذا قلتُ لشیء کن فیکون ، فقل أنت ذلک فیکون . هذا حال أهل الجنّة .
وهکذا حال أهل جهنّم ؛ فإنّه یحصل لهم قدرة کذلک ، ویکونون مجبولین علی إیجاد صور فیتأذّون منها .
ولم یدلّ دلیل علی نفی هذه المَزعمة بأن لا یکون للأعمال والملکات والعقائد لوازم فی تلک النشأة لا تنفکّ عن الإنسان ، ولا یکون للنفس اقتدار علی إیجاد لوازمها وآثارها حسبما فصّل فی محلّه ، بل فی الآیات والروایات إشارات ، بل تصریحات إلیها .
نعم ، لا یستفاد من الآیات والروایات انحصار الثواب والعقاب بما ذکر ؛ لصراحة دلالة ظواهر الأدلّة علی غیرها أیضاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 146
فلو تمّت المَزعمة فیشکل الأمر فی باب الشفاعة والتوبة حسبما یتراءی منهما ؛ لأنّه علی تلک المزعمة لم یکن رفع العذاب بمجرّد إلتماس الشفیع والتوبة ، بل لابدّ من توقّف المشفوع له فی عوالم البرزخ والقیامة لیصفو حتّی یتّحد مع نور الشفیع .
وقد ورد فی بعض الروایات : أنّ بعض المنتحلین بالإسلام یدخلون جهنّم لنسیانهم اسم النبی الأعظم ، صلوات الله علیه .
فإذن : لابدّ للإنسان الخبیر من مراعاة أحواله وأعماله وممارسته لدفع الرذائل والقبائح عن ساحة نفسه ، وتحلّیها بالفضائل والمکارم ، ودوام الذکر والمراقبة الشدیدة فی جمیع حالاته ، وممارسته وحفظه بالمتکرّرات بحیث لا یخلو عن ذکر الله فی آناء لیله وأطراف نهاره ، لئلاّ ینساه فی العقبات والضغطات .
ولعلّ تکرّر العبادات والفرائض والنوافل لأجل رسوخ العبودیة والملکات والمکارم والأخلاق فی النفس ، لئلاّ یزول عنها فی تلک المواقف .
هذا إجمال مقالهم فی هذا المضمار ، ومن أراد تفصیل الأمر فلیطلب مظانّه .
فإذا لم یکن لنا دلیل ینفی ما ذکر ، واحتمل کون الأمر فی المستقبل کذلک ، فلابدّ للإنسان من المواظبة الکاملة والمراقبة الشدیدة لدفع الرذائل والصفات السیّئة عن ساحة وجوده ، وتصفیة النفس عن الرذائل وتحلیتها بالفضائل .
وواضح : أنّ ذلک فی الشباب أسهل منه فی حالة الکِبر والشیخوخة ؛ لعدم رسوخ الرذائل فی النفس بعدُ وقوّة الشباب . فإذا هَرِم وصار شیخاً تضعف قواه وقد حصدت الرذائل عروقاً فی جمیع نواحی النفس ؛ ولـذا تکون التوبة والرجـوع إلی الله تعالی عند الهرم والشیخوخة من أشقّ الأعمال ، بل ربّما ینجرّ الأمر إلی خـروج الروح من البدن بلا توبة واستغفار ، عصمنا الله تعالی وإیّاکم من الزلاّت ووساوس الشیطان فی جمیع الحالات ؛ لاسیّما عند خـروج الـروح والانتقال إلی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 147
نشـأة البرزخ ، وثبّتنا علی الصراط المستقیم .
وصعوبة النزع حال الاحتضار لبعض النفوس لاتصال النفس بالشجرة الخبیثة وخراب الآخرة . وأمّا المؤمن الذی ینظر بنور الله وثواب الآخرة ونعیمها فلا یکاد یکون النزع له صعباً ، بل یکون سهلة سمحة ، بل یُحبّ الموت ویوانسه . ولذا قد ورد عن أمیر المؤمنین علیه السلام أنّه قال : «والله لابن أبی طالب آنس بالموت من الطفل بثدی اُمّه» .
فعلی هذا المسلک : لم یکن الثواب والعقاب أمراً عقلائیاً ؛ لعدم إدراک العقلاء ذلک ، بل ـ کما أشرنا ـ بابه باب اللوازم والملزومات العقلیة .
فإذن : یمکن أن یقال فی الواجب الغیری : إنّ کلّ مقدّمة یأتیها المکلّف لله تعالی أو یعصی الله تعالی فیها یکون لها تأثیر فی النفس ، ولها صورة فی النشأة الآخرة .
وبعبارة اُخری : إذا کان الثواب والعقاب من لوازم العقلی للأعمال ، فکما یکون للواجب النفسی صورة غیبیة ، فکذلک لا یبعد أن یکون للواجب الغیری أیضاً صورة غیبیة تناسبه ؛ قال الله تعالی : «وَمَنْ یَخرُجْ مِنْ بَیْتِهِ مُهَاجِراً إلَی الله ِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ یُدرِکْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَی الله ِ» .
ومنها ما قد یقال : إنّ الثواب والعقاب فی النشأة الآخرة بالجعل والمواضعة ، نظیر الجزاءات المجعولة الرائجة بین الدول المتمدّنة والحکومات السیاسیة ؛ فکما یجعلون جزاءً علی عمل ، فکذلک الشارع الأقدس جعل جزاء سیّئة سیّئة مثلها ، وجزاء حسنة عشر أمثالها . فیکون الثواب والعقاب بالنسبة إلی الأعمال نظیر
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 148
الجعالة ؛ فکما یقال فی باب الجعالة : «من ردّ ضالتی ـ مثلاً ـ فله کذا . . .» یقال فی المقام : «من فعل سیّئة فله کذا . . . ومن أتی بحسنة فله عشر أمثالها» .
ولا یبعد هذا القول بمقتضی ظواهر الآیات والروایات .
فعلی هذا : یکون الثواب والعقاب تابعین للجعل ؛ فإن جُعلتا للمقدّمة ـ کما جُعلتا لذی المقدّمة وأصل الفعل ـ فیثاب أو یعاقب علی المقدّمة ، کما یثاب أو یعاقب علی فعل ذیها . وقد جعل الثواب علی بعض مقدّمات عمل لأهمّیته ، مثل ما ورد : «أنّ کلّ خطوة یتخطّاها زائر قبر أبی عبدالله الحسین علیه السلام فله من الأجر کذا وکذا» .
ولا یخفی : أنّه علی هذا القول لو وعد الله تعالی الثواب علی عمل أو أخبر عنه فلا یعقل تخلّفه ؛ لأنّ الوفاء بالوعد حسن وخلفه قبیح ؛ فصدوره منه تعالی محال . وکذلک الکذب قبیح ؛ فیکون صدوره منه تعالی محالاً .
نعم ، لو أوعد الله تعالی العقاب علی عمل فله أن یفعل بما أوعده ، وله أن لا یعاقبه ؛ لأنّ خلف الوعید غیر قبیح ، بل ربّما یعدّ حسناً . نعم ، إذا کان الوعید بنحو الإخبار فیتحقّق حتماً ولا یمکن تخلّفه ؛ لمحالیة الکذب علیه تعالی ، فتدبّر .
ومنها ما قد یقال : إنّ الثواب والعقاب بنحو الاستحقاق ، وإنّ العبد بإطاعته تعالی یستحقّ منه تعالی جزاء عمله ، کاستحقاق المستأجر عن الأجیر ، ولا یحسن منه تعالی التخلّف عنه عقلاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 149
ولا یخفی : أنّ محطّ البحث فی ترتّب الثواب والعقاب علی الواجب الغیری والمقدّمة هو هذا المعنی ، لا المعنیان الأوّلان . فینبغی الإشارة الإجمالیة أوّلاً إلی أنّ إطاعته تعالی هل یوجب الاستحقاق أو یکون الإعطاء منه تعالی علی سبیل التفضّل ؟ ثمّ الإشارة إلی موقف الواجب الغیری والمقدّمة :
فنقول : ذهبت طائفة من المتکلّمین إلی الاستحقاق ، وخالفهم فی ذلک الشیخ المفید قدس سره وغیره ، فقالوا : إنّ الإعطاء والثواب منه تعالی علی سبیل التفضّل ، وقال المحقّق الأصفهانی قدس سره : إنّ المراد بالاستحقاق غیر ما هو الظاهر منه ، وذهب المحقّق العراقی قدس سره إلی أنّه لیس بالاستحقاق ولا بالتفضّل .
فنذکر أوّلاً ما یقتضیه النظر فی استحقاق الثواب والعقاب ، ثمّ نذکر ما تخلّصا به العَلمان ؛ فراراً عن مشکلة الاستحقاق ، فنشیر إلی ما فیه من الخلل :
فنقول : إنّ ما یقتضیه العقل السلیم هو القول بالتفضّل فی جانب الثواب ، والقول بالاستحقاق فی جانب العقاب .
والتفوّه بالاستحقاق فی جانب الثواب إنّما یتفوّه به مَن غفل عن حقیقة العبودیة والخلقة وقاس حال المکلّف بالنسبة إلیه تعالی حال العبید بالنسبة إلی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 150
موالیهم العرفیة ؛ فکما أنّ العبد یستحقّ علی مولاه لإطاعته ، فکذلک یستحقّ المکلّف منه تعالی الثواب علی إطاعته .
مع أنّ الفرق بین المقامین أوضح من الشمس وأبین من الأمس ؛ وذلک لأنّه لو لم نَخُضْ فی المطالب العقلیة التی لیس هنا محلّها ، ولکن لا یقبل الإنکار : أنّه إذا لاحظنا حال المکلّف بالنسبة إلیه تعالی نری أنّه لا شیء محض وعدم صِرف أعطاه الله تعالی الوجود وسوّی خلقه ووهب له ما یحتاج إلیه من القوی الباطنیة والظاهریة وأنواع النعم الباطنیة والظاهریة ، وهو تعالی غنی عن الخلق وعن أعمالهم ، ولم یکن إیجاب الأفعال لغرض ونفع عائد إلیه تعالی ، بل راجع إلی العباد .
فإذا کان وجود المکلّف وجمیع قواه منه تعالی ، فإذا صرف العبد بعض قواه التی وهبت له فیما أمر به المولی فیما یرجع نفعه إلیه نفسه لا إلی مولاه ، فلا معنی لاستحقاق الثواب .
وبعبارة اُخری : مَن عرف مقامه منه تعالی ونسبته إلیه وتأمّل فی قواه وأعضائه وجوارحه ونسبتها إلیه تعالی لا یتفوّه بأنّ صرف بعض نعمه فی طریق طاعته تعالی موجب لاستحقاق الثواب . نعم إذا خالف أمر مولاه وعصاه فیستحقّ العقاب بلا إشکال .
فالحقّ أن یقال : إنّ إعطاء الثواب فی إطاعة المکلّف أمره تعالی إنّما هو بالتفضّل . وأمّا عقوبته فی مخالفته وعصیانه تعالی فبالاستحقاق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 151
نقل وتعقیب
قال المحقّق الأصفهانی قدس سره : والمراد بالاستحقاق لیس إیجاب الثواب علی المولی أو العقاب ـ کما یشعر به لفظ «الاستحقاق» ـ حتّی یناقش فیه فی طرف الثواب ؛ إمّا لجواز الاکتفاء بالنعم العاجلة ، أو لأنّ حقّ المولی علی عبده أن ینقاد له فی أوامره ونواهیه ، فلا معنی لاستحقاق العبد علیه عوضاً عنه .
بل المراد : أنّ المدح والثواب علی الإطاعة فی محلّه ، نظیر قولهم باستحقاق المدح والذمّ علی فاعل القبیح والحسن ؛ فإنّه لیس المراد إیجاب المدح والذمّ علی العقلاء ، بل المدح والذمّ منهم علی أحد الأمرین فی محلّه ، انتهی .
وقال المحقّق العراقی قدس سره : التحقیق هو أن یقال : إنّ الاستحقاق المتنازع فیه إن کان المراد به هو ثبوت حقّ للمکلّف علی الله تعالی بطاعته إیّاه ، کما یثبت حقّ لبعض المکلّفین علی بعض إذا أمره بعمل فعمله ناویاً به أخذ العوض منه ، فالحقّ مع النافی ؛ لأنّ وجود المکلّف وقدرته وتوفیقه للطاعة وجمیع ما یستعدّ به لها هو من الله تعالی .
فکما لا یستحقّ العبد فی العرف والشرع عوضاً وأجراً علی مولاه إذا کلّفه بعمل فعمله له ، فبالطریق الأولی أن لا یستحقّ المکلّف ذلک علی مولی الموالی تعالی فی الأعمال التی کلّفه بها .
وإن کان المراد به معنی اللیاقة والاستعداد للثواب والنعیم فی الدار الآخرة لیکون معنی أنّ العبد المطیع یستحقّ الثواب هو أنّه لائق وأهل لذلک فالحقّ مع مدّعی ذلک ؛ لأنّ العبد بطاعته یستعدّ لدخول دار النعیم وجوار ربّه الکریم ، بخلاف العاصی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 152
ولا یتوهّم : أنّ هذا المعنی هو نفس القول بالتفضّل ؛ لوضوح أنّ العاصی وإن کان مستعدّاً للتفضّل علیه بالعفو والغفران والخلود فی الجنان ، ولکن لم یکن مستعدّاً وأهلاً لنفس الثواب ، وإلاّ لم یبق فرق بین المطیع والعاصی ، وذلک باطل بالضرورة .
وأمّا التوبة : فهی وإن کانت من الواجبات علی العبد العاصی ، إلاّ أنّه یحتمل قریباً أنّ المعصیة لا توجب استحقاق العاصی للعقاب إلاّ إذا تجرّدت عن التوبة ، وأمّا المعصیة التی تتعقّبها التوبة فلا توجب استحقاق العقاب ، وعلیه : لا یکون العفو أو سقوط استحقاق العقاب عن التائب بالتفضّل ؛ إذ لا استحقاق للعاصی التائب لیسقط بالتفضّل ، بل التوبة تکشف عن عدم استحقاق العاصی بمعصیته قبل التوبة للعقاب ، انتهی .
ولا یخفی : أنّه لو لم یتمّ ما ذکرناه لا یستقیم کلام العلمین :
أمّا ما قاله المحقّق الأصفهانی قدس سره ـ حیث إنّه من أهل النظر والمعقول ـ فمراده بکون الثواب علی الإطاعة فی محلّه أحد الأمرین :
الأوّل : أن یراد أنّ کلّ قوّة حیث إنّها محلّ للصورة ، فکذلک العبد یکون محلاًّ للثواب والعقاب ؛ أی مستعدّاً لائقاً فی ذلک العالم للثواب والعقاب .
ولکن فیه : أنّهم لا یقولون بذلک فی ذلک العالم ؛ لأنّه لم یکن هناک هیولی ولا صورة ولا استعداد .
والثانی : أن یراد ـ کما هو الظاهر منه ـ أنّ العبد المطیع محلّ للثواب ، ویکون إعطاؤه فی محلّه وممّا ینبغی .
ولکن فیـه : أنّ کلّ ما کان فعلـه حسناً فهو بالنسبـة إلیـه تعالی واجب ؛ لأنّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 153
عدم إعطائه الثواب إمّا للعجز أو الجهل أو النجل ، وکلّ ذلک محال فی حقّه تعالی ، تعالی الله عمّا یقول الظالمون علوّاً کبیراً . فإذا کان الفعل أولی من الترک فیجب علیه تعالی فعله ، ولا یجوز منه تعالی ترکه . وواضح : أنّ وجوب الإعطاء منه تعالی لا یوجب أن لا یکون تحت اختیاره ، کما أنّ امتناع الظلم منه تعالی لا یوجب ذلک ، کما تقرّر فی محلّه .
فقیاس ما نحن فیه بمدح العقلاء وذمّهم فاعل القبیح أو الحسن ، قیاس مع الفارق . مضافاً إلی أنّ الأمر فی المقیس علیه أیضاً غیر تمام ؛ لأنّ العقلاء یرون أنّ من أمر عبداً بعمل فعمله یستحقّ المدح ، وإن ترکه فیستحقّ الذمّ .
وممّا ذکرناه فی جواب المحقّق الأصفهانی قدس سره یظهر الخلل فی بعض ما أفاده المحقّق العراقی قدس سره .
ولکن نقول من رأس : إنّه لا یبعد أن یقول هذا المحقّق علی خلاف مسلک المحقّق الأصفهانی قدس سره بالاستعداد واللیاقة فی ذلک العالم .
فیتوجّه علیه : أنّ المراد بالاستحقاق إن کان الاستحقاق التکوینی فیخرج عمّا نحن فیه ؛ لأنّ البحث إنّما هو فی الاستحقاق العقلائی لا العقلی التکوینی ، ویدخل فی الوجه الأوّل ، مع أنّ القائلین به لا یقولون بالاستعداد ، وإن کان المراد بالاستحقاق ، الاستحقاق العقلائی فمحال علی الله تعالی ترکه ؛ لأنّ من یکون لائقاً ولم یعطه إمّا لعجزه أو لجهله أو لبخله ، تعالی الله عن ذلک علوّاً کبیراً .
فالحقّ ـ کما أشرنا ـ أنّ الثواب إنّما هو بالتفضّل ؛ فالمحسن لا یستحقّ المثوبة ولا العقاب ، ولکن حیث وعد الله عباده بالثواب فیفی بما وعده تعالی حتماً . ولکن لا یدلّ ذلک علی لزوم التفضّل له بنحو یکون مجبوراً فیه ، کما أشرنا فی جواب المحقّق الأصفهانی قدس سره . وأمّا المسیئ فیعاقب علی معصیته ویستحقّ العقاب ، بلا إشکال .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 154
وأمّا ما ذکره قدس سره فی التوبة فمخالف لمرتکز العرف والعقلاء فی ذلک ، بل خلاف مقتضی ظواهر الکتاب والسنّة الدالّتین علی أنّ نفس العمل القبیح موجب للعقوبة والذمّ ، ولکن من تاب بعد ذلک فوعد الله تعالی له بعدم العقاب وقبول توبته .
وبالجملة : ما ذکره فی التوبة ـ مضافاً إلی أنّه خلاف حکم العقل والعقلاء ـ مخالف لظواهر الکتاب والسنّة .
فتحصّل ممّا ذکر : أنّ الذی یقتضیه التحقیق أن یقال بالتفضّل فی جانب الإطاعة والامتثال ، والاستحقاق فی جانب المخالفة والعصیان ، تدبّر واغتنم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 155