المورد الثانی : فیما یقتضیه الأصل العملی
لو فرض عدم کون المولی فی مقام البیان ، ولم یکن ما هو المرجع من الأصل اللفظی ، فهل هنا أصل عملی یعیّن به النفسیة أو الغیریة ، أم لا ؟
وحیث إنّه لم یکن لمقتضی الأصل العملی فی المقام ضابط مخصوص ، بل یختلف باختلاف الموارد ، وأشار کلّ من المحقّق النائینی والمحقّق العراقی إلی تلک الموارد ، ولمّا کان ما ذکره الأوّل منهما أحسن جمعاً ، فنذکره أوّلاً ، ثمّ نشیر إلی وجه الضعف فیما أفاده . وبذلک یظهر وجه الخلل فی کلام الثانی منهما . ومن أراد فلیراجع مقاله .
قال المحقّق النائینی قدس سره : إنّ الشکّ فی الوجوب الغیری علی ثلاثة أقسام :
القسم الأوّل : ما إذا علم بوجوب کلّ من الغیر والغیری ، من دون أن یکون وجوب الغیر مشروطاً بشرط غیر حاصل ، کما إذا علم بعد الزوال بوجوب کلّ من الوضوء والصلاة ، وشکّ فی وجوب الوضوء من کونه غیریاً أو نفسیاً ؛ فالشکّ فی هذا القسم یرجع إلی الشکّ فی تقیید الصلاة بالوضوء وأنّ الوضوء شرط لصحّتها أم لا ؟ فتکون ما نحن فیه من صغریات مسألة الأقلّ والأکثر الارتباطی ، والقاعدة تقضی فیها بالبراءة ، وأصالة البراءة تقتضی عدم شرطیة الوضوء للصلاة وصحّتها بدونه ؛
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 138
فمن هذه الجهة تکون النتیجة النفسیة . وأمّا الوضوء فواجب علی کلّ حال ؛ نفسیاً کان أو غیریاً .
والحاصل : أنّ أصل وجوب الوضوء ـ نفسیاً أو غیریاً ـ معلوم ، فیجب إتیانه . ولکن تقیید الصلاة به حیث إنّه مشکوک فلا یجب ؛ للبراءة .
وفیه : أنّـه وقـع خلط فی کلامـه قدس سره ، وما ذکـره هنا مخالف لما أفاده فی مبحث الاشتغال ، ویتّضح ذلک بعد تمهید مقدّمـة ، وهـی : أنّه کما تقـدّم أنّ المقدّمـات علی قسمین :
1 ـ المقدّمات الداخلیة .
2 ـ المقدّمات الخارجیة .
وبینهما فرق من حیث تعلّق الحکم علیهما ؛ فإنّه ـ علی ما أفاده ـ لم یکن الوجوب المتعلّق بالأجزاء والمقدّمات الداخلیة مترشّحاً ومتولّداً من الوجوب المتعلّق بالمجموع ، بحیث یکون وجوب الأجزاء وجوباً غیریاً ، بل الأجزاء واجبة بالوجوب النفسی الضمنی . نعم الوجوب المتعلّق بالمقدّمات الخارجیة وجوب ترشّحی غیری ، ومورد الأقلّ والأکثر عندهم إنّما هو فی المقدّمات الداخلیة لا الخارجیة ، وذلک لأنّه لو شکّ أنّ للصلاة ـ مثلاً ـ عشرة أجزاء أو تسعة فمرجع شکّه إنّما هو فی أنّ متعلّق الوجوب هل هو تسعة أجزاء أو عشرة . وأمّا لو شکّ فی وجوب نصب السلّم فلم یکن کذلک ؛ فإنّ الشکّ فی ترشّح الوجوب الغیری من الوجوب المتعلّق بالکون علی السطح إلی نصب السلّم .
إذا عرفت هذا فنقول : الکلام فیما نحن فیه فی أنّ الشیء مقدّمی غیری أو
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 139
نفسی ، بلحاظ أنّ وجوب الصلاة ـ مثلاً ـ معلوم تفصیلاً ، وعلم إجمالاً بوجوب الوضوء ؛ إمّا لنفسه أو لکونه مقدّمة للصلاة .
وبعبارة اُخری : یکون هناک علم إجمالی بکون الصلاة المتقیّدة بالوضوء واجباً أو نفس الوضوء ، ولا یمکن الانحلال فی مثل ذلک .
وقد صرّح هذا المحقّق قدس سره بعدم الانحلال فی مبحث الاشتغال ، وإلیک نصّ عبارته : إنّ العلم التفصیلی بوجوب أحد طرفی المعلوم بالإجمال مع تردّد وجوبه بین کونه نفسیاً أو غیریاً متولّداً من وجوب الطرف الآخر علی تقدیر أن یکون هو الواجب المعلوم بالإجمال ، لا یوجب الانحلال . ألا تری : أنّه لو علم إجمالاً بوجوب نصب السلّم أو الصعود علی السطح من باب الملازمة بین وجوب المقدّمة وذیها ، فالعلم التفصیلی بوجوب نصب السلّم لا یوجب انحلال العلم الإجمالی بوجوب النصب أو الصعود ؟ ! فإنّ العلم التفصیلی بوجوبه یتوقّف علی وجوب الصعود علی السطح ؛ إذ مع عدم وجوب الصعود ـ کما هو لازم الانحلال ـ لا یعلم تفصیلاً بوجوب النصب ؛ لاحتمال أن یکون وجوبه غیریاً متولّداً من وجوب الصعود ، انتهی .
وبالجملة : أنّ العلم التفصیلی المتولّد من العلم الإجمالی لا یمکن أن یوجب انحلال العلم الإجمالی ، ولازم الانحلال إذهاب المعلول علّته . ومن قال بالانحلال فی الأقلّ والأکثر إنّما هو لأجل أنّ الأقلّ یعلم بوجوبه تفصیلاً ـ ضمنیاً أو استقلالیاًـ بخلاف ما نحن فیه ؛ فإنّه لو جرت أصالة البراءة فی الصلاة فمقتضاها نفی تقیید الصلاة بالوضوء ، فلا یکون الوضوء واجباً علی أیّ حال . فانحلال العلم الإجمالی موجب لذهاب العلم التفصیلی ؛ لأنّه متولّد ومعلول للعلم الإجمالی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 140
فظهر ممّا ذکرنا : أنّ الذی ذکره هذا المحقّق هنا ـ من جریان البراءة وانحلال العلم الإجمالی ـ مناقض لما أفاده فی مبحث الاشتغال ـ من عدم الانحلال ـ وکأنّه اختلط لدیه المقدّمات الخارجیة بالمقدّمات الداخلیة .
وما ذکره هناک موافق للتحقیق ، والله الهادی إلی سواء الطریق .
القسم الثانی : قال قدس سره : هو ما إذا علم بوجوب کلٍّ من الغیر والغیری ، ولکن کان وجوب الغیر مشروطاً بشرط غیر حاصل ، کالمثال المتقدّم فیما إذا علم قبل الزوال ، فمرجع الشکّ فی غیریة الوضوء ونفسیّته فی هذا القسم إلی الشکّ فی اشتراطه بالزوال وعدم اشتراطه ؛ إذ لو کان واجباً غیریاً یکون مشروطاً بالزوال ـ لمکان اشتراط الصلاة به ـ وحینئذٍ یکون من أفراد الشکّ بین المطلق والمشروط ، وقد تقدّم أنّ مقتضی الأصل هو الاشتراط ؛ للشکّ فی وجوبه قبل الزوال ، وأصالة البراءة تنفی وجوبه ، کما تنفی شرطیة الصلاة بالوضوء .
وفیه : أنّ هذا أیضاً مخالف لما بنی علیه قدس سره فی مبحث الاشتغال ؛ من تنجّز العلم الإجمالی فی التدریجیات ؛ سواء لم یکن للزمان دخل فی الملاک والخطاب ، أو کان له دخل فی حسن الخطاب ولکن لم یکن له دخل فی الملاک ، أو کان للزمان دخل فی الامتثال والخروج عن عهدة التکلیف من دون أن یکون له دخل فی الملاک والخطاب ، أو کان للزمان دخل فی الخطاب والملاک .
والحاصل : أنّه قدس سره ذهب إلی تنجّز العلم الإجمالی فی التدریجیات ؛ حتّی فیما لو کان للزمان دخل فی الخطاب والملاک . وما ذهب إلیه هناک هو مقتضی التحقیق ، کما سیوافیک فی محلّه ـ إن شاء الله ـ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 141
فإذن نقول : مفروض المسألة یرجع إلی العلم الإجمالی بوجوب الوضوء نفسه ، أو لکونه شرطاً للصلاة المتقیّدة به بعد الوقت ، والعلم الإجمالی الکذائی إذا علم بتحقّق شرطه فی المستقبل منجّز عقلاً ؛ فیجب علیه الوضوء فی الحال والصلاة مع الوضوء بعد حضور الوقت .
نعم ، یتمّ ما ذکره فی بعض الموارد ، وهو ما إذا لم یعلم بتحقّق الشرط فیما سیجیء ؛ لأنّ العلم الإجمالی لا یکاد یکون منجّزاً فی ذلک ، وسیوافیک تفصیل هذا الأمر فی مبحث الاشتغال ، فارتقب حتّی حین .
القسم الثالث : قال قدس سره : هو ما إذا علم بوجوب ما شکّ فی غیریته ولکن شکّ فی وجوب الغیر ، کما إذا شکّ فی وجوب الصلاة فی المثال المتقدّم وعلم بوجوب الوضوء ، ولکن شکّ فی کونه غیریاً حتّی لا یجب ـ لعدم وجوب الصلاة ظاهراً بمقتضی البراءة ـ أو نفسیاً حتّی یجب .
والأقوی : وجوب الوضوء فی المفروض ؛ لأنّ المقام یکون من التوسّط فی التنجیز الذی علیه یبتنی جریان البراءة فی الأقلّ والأکثر الارتباطیین ، إذ کما أنّ العلم بوجوب ما عدا السورة مع الشکّ فی وجوبها یقتضی وجوب امتثال ما علم ، ولا تجوز البراءة فیه ـ مع أنّه یحتمل أن یکون ما عدا السورة واجباً غیریاً ومقدّمة للصلاة مع السورة ـ فکذلک فی المقام ، من غیر فرق بینهما ، انتهی .
وفیه : أنّه لا یمکن تصویر لما ذکره قدس سره ، ومنشأ اشتباهه خلط المقدّمات
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 142
الخارجیة بالمقدّمات الداخلیة ؛ لأنّ وجوب الأقلّ فی المرکّب الارتباطی معلوم تفصیلاً ـ سواء وجب الأکثر أو لا ـ بخلاف الوضوء فی المثال ؛ فإنّه إذا شکّ فی وجوب الغیر فقد شکّ فی وجوب الوضوء إذا کان مقدّمة للغیر ، فلم یعلم بوجوب الوضوء علی أیّ تقدیر .
وبالجملة : فرق بین ما نحن فیه والأجزاء ؛ فإنّ وجوب الأقلّ معلوم بالتفصیل نفسیاً ، والشکّ إنّما هو من جهة الضمنیة والاستقلالیة ، والشکّ إنّما هو فی الزائد . وأمّا فیما نحن فیه فالشکّ إنّما هو فی ترشّح الوجوب علیه وعدمه . فإذا شکّ فی وجوب الغیر فیوجب ذلک شکّاً فی وجوب الوضوء . فقوله قدس سره : «فإنّه علم بوجوب الوضوء ، ولکن شکّ فی کونه غیریاً أو نفسیاً» کلام لا محصّل له ، وهو منه عجیب .
والأولی عدم ذکره هنا ؛ لأنّ الکلام فی تعدید أقسام اشتباه الواجب الغیری بالنفسی ، وهذا لم یکن کذلک .
والأولی أن یذکر قسماً آخر ، ویجعله قسماً ثالثاً ، وهو : أنّه لو تردّدت المقدّمة الخارجیة بین کونها من قبیل الوضوء بالنسبة إلی الصلاة من حیث تقیّد الصلاة به ، وبین کونها من قبیل نصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح ، من جهة عدم تقیّد الکون علی السطح بنصب السلّم ، والقاعدة أیضاً یقتضی الاحتیاط ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 143