الوجه المختار فی الحمل علی النفسیة
هذا حال ما تقدّم من الوجوه التی ذکروها للحمل علی النفسیة عند الدوران ، وأمّا الوجه المختار فیمکن تقریبه بأحد الوجوه :
الوجه الأوّل : انصراف الهیئة إلی الوجوب النفسی فی محیط العرف والشرع ، والانصراف المقصود به هنا لیس انصراف الکلّی والطبیعی إلی أفراده ومصادیقه ؛ لما عرفت أنّ الهیئة معناها حرفی جزئی ، فلا تکاد تستعمل إلاّ فی نفس البعث والإغراء النفسی أو الغیری ، بل المراد من الانصراف هو أکثریة استعمال الهیئة فی النفسی بالنسبة إلی استعمالها فی المعنی الغیری ، فلو شکّ فی مورد أنّه نفسی أو غیری فالاعتبار یساعد حمله علی النفسی ؛ لأنّ الظنّ یلحق الشیء بالأعمّ الأغلب .
وبالجملة : الهیئة وضعت للبعث والإغراء ، والنفسیة والغیریة خارجتان عن الموضوع له ، نظیر الإشارة ؛ فکما أنّها آلة للإیجاد تکویناً ، فکذلک الأمر فی عالم الاعتبار . ولکن حیث إنّ المبعوث إلیه علی قسمین : قسم یکون مطلوباً نفسیاً ، وقسم آخر یکون مطلوباً غیریاً .
واستعمال البعث إلی ما یکون مطلوباً نفسیاً کثیر ، بخلاف البعث إلی ما یکون مطلوباً غیریاً ؛ فإنّه قلیل . فبمجرّد انقداح البعث فی الذهن یتوجّه الذهن إلی ما یکون معروفاً ـ وهی النفسیة ـ إلی أن یثبت خلافه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 136
الوجه الثانی : أنّ للأمر ظهوراً عرفیاً فی النفسیة ، بتقریب أنّه کما إذا قال المولی : «أکرم العالم» ، وشکّ العبد فی أنّ موضوع الحکم شیء آخر وأخذ عنوان العلم بلحاظ أنّه طریق إلیه ، أو احتمل أنّه عنوان ملازم لما یکون موضوعاً للحکم ، فیقال : إنّ الظاهر عند العرف والعقلاء هو کون عنوان العلم تمام الموضوع للحکم ، لا طریقاً إلی ما یکون موضوعاً ولا ملازماً لما یکون موضوعاً له .
فکذلک یقال فیما نحن فیه : إذا أمر بشیء فعند فقد القرینة یری العرف والعقلاء أنّه هو المطلوب ؛ وجب هناک شیء آخر أم لا ، وهذا معنی النفسیة .
وبالجملة : کما یکون للعناوین المأخوذة فی لسان الأدلّة ظهور فی موضوعیتها للأحکام ، فکذلک لو اُمر بشیء یکون الظاهر منه عند العرف والعقلاء : أنّ المأمور به هو المطلوب والمحبوب لنفسه ولا ینقدح فی ذهنهم کونه مطلوباً لأجل أمر آخر .
الوجه الثالث : أنّ المقام مقام احتجاج الموالی علی العبید وبالعکس ، بتقریب أنّ البعث المتعلّق بعنوان یکون حجّة علی العبد والمولی ، یکون کلّ منهما مأخوذاً بذلک العنوان ، ولا یجوز تقاعد العبد عن امتثاله باحتمال کونه مقدّمة لغیره الذی لم یجب بعد .
وهذا مثل ما ذکرناه فی إثبات التعبّدیة فی دوران الأمر بین التعیین والتخییر ، فکما قلنا هناک : إنّه إذا قال المولی : «أکرم زیداً» مثلاً ، واحتمل عدم وجوبه تعییناً فلا یجوز للعبد ترک إکرام زید وإکـرام عمرو ، ولا یکون عند ذلک له حجّـة علی مولاه عند العرف والعقلاء ، بل لمولاه حجّة علیه ، فکذلک فیما نحن فیه یکون البعث المتعلّق علی عنوانٍ حجّة علی العبد ، ولا یرون العقلاء التقاعـد عنه باحتمال کونـه واجباً لأجل غیره .
ولیعلم : أنّ غایة ما یقتضیه هذه الوجوه هی أن یتعامل مع البعث الکذائی معاملة الوجوب عند الشکّ ، ولکن لا یثبت بها الوجوب النفسی بخصوصه حتّی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 137
یترتّب علیه ما یترتّب علی هذا العنوان ، کما لا یخفی .
هـذا فیما یقتضیـه الأصل اللفظی ، فلو تمّ فلا مجـال معه للأصل العملی . نعم مـع عدم تمامیته تصل النوبة إلی الأصل العملی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 138