کلام العلمین النائینی والعراقی فی الحمل علی النفسیة عند الدوران
لکلٍّ من المحقّقین النائینی والعراقی کلام یظهر منهما : أنّ الواجب الغیری مشروط والواجب النفسی مطلق ، ولکن ذکر الأوّل منهما فی بیانه مقالاً مفصّلاً ، وأمّا الثانی فذکر مجملاً منه .
فنذکر أوّلاً مقالة المحقّق النائینی قدس سره ، ثمّ نعقّبه بکلام المحقّق العراقی قدس سره ، ثمّ نشیر إلی ما یقتضیه النظر فیهما :
قال المحقّق النائینی قدس سره ما ملخّصه : إنّ الواجب الغیری لمّا کان وجوبه مترشّحاً من الغیر کان وجوبه مشروطاً بوجوب الغیر ، کما أنّ وجود الغیر یکون مشروطاً بالواجب الغیری ؛ فیکون وجوب الغیر من المقدّمات الوجوبیة للواجب الغیریة ، ووجود الواجب الغیری من المقدّمات الوجودیة لذلک الغیر .
مثلاً یکون وجوب الوضوء مشروطاً بوجوب الصلاة ، وتکون نفس الصلاة مشروطة بوجود الوضوء ؛ فالوضوء بالنسبة إلی الصلاة یکون من قیود المادّة ، ووجوب الصلاة بالنسبة إلی الوضوء یکون من قیود الهیئة بالمعنی المتقدّم ـ من تقیید
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132
الهیئة بحیث لا یرجع إلی تقیید المعنی الحرفی ـ فحینئذٍ یرجع الشکّ فی کون الوجوب غیریاً إلی شکّین : أحدهما الشکّ فی تقیید وجوبه بوجوب الغیر ، ثانیهما الشکّ فی تقیید مادّة الغیر به .
فإن کان لکلا طرفی الغیر والواجب الغیری إطلاق ـ کما إذا کان دلیل الصلاة مطلقاً لم یؤخذ الوضوء قیداً لها ، وکذا إیجاب الوضوء مطلقاً لم یقیّد وجوبه بالصلاة ـ فلا إشکال فی صحّة التمسّک بکلٍّ من الإطلاقین ، وتکون النتیجة هی الوجوب النفسی للوضوء ، وعدم کونه قیداً وجودیاً للصلاة ؛ لأنّ مقتضی إطلاق دلیل الوضوء النفسیة ، ومقتضی إطلاق دلیل الصلاة نفی قیدیة الوضوء لها .
وأمّا إن کان لأحدهما ـ الغیر والواجب الغیری ـ إطلاق دون الآخر ، فیکفی فی إثبات النفسیة أیضاً ؛ لأنّ مثبتات الاُصول اللفظیة حجّة . فلو فرض أنّه لم یکن لدلیل الوضوء إطلاق وکان لدلیل الصلاة إطلاق ؛ فمقتضی إطلاق دلیلها هو عدم تقیّد مادّتها بالوضوء ، ویلزمه عدم تقیّد وجوب الوضوء بها ؛ لما عرفت من الملازمة بین الأمرین . وکذا الحال لو انعکس الأمر وکان لدلیل الوضوء إطلاق دون دلیل الصلاة .
فتحصّل : أنّ الأصل اللفظی یقتضی النفسیة عند الشکّ فیها ؛ سواء کان لکلٍّ من الدلیلین إطلاق ، أو کان لأحدهما إطلاق فقط ، انتهی .
وقال المحقّق العراقی قدس سره : إذا شکّ فی واجب أنّه نفسی أو غیری ، فإن کان هناک إطلاق فمقتضی الإطلاق هو کون الوجوب نفسیاً ؛ وذلک لأنّ الوجوب النفسی مطلق من حیث التعلّق بواجب آخر ، کما هو مقتضی تعریفه . بخلاف الوجوب الغیری ؛ فإنّه مقیّد بواجب آخر یتبعه فی جمیع شؤونه ، کما هو مقتضی الملازمة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 133
فإطلاق الکاشف عن الوجوب ـ أعنی الإرادة التشریعیة ـ یکشف عن عدم تعلّق الإرادة المزبورة بإرادة اُخری ، وإلاّ لزم بیان تعلّقها وتقیّدها بها ؛ لکون الإرادة التشریعیة الغیریة من شؤون الإرادة التشریعیة النفسیة ، انتهی .
ولا یخفی : أنّه إن أمکننا الجواب عن مقال الأوّل منهما ، یظهر الخلل فیما ذهب إلیه ثانیهما ، من غیر تجشّم لردّه .
فنقول : فیما ذهب إلیه المحقّق النائینی قدس سره وجوه من الضعف :
منها : قوله بأنّ وجوب المقدّمة مترشّح من وجوب ذیها ؛ وذلک لما عرفت فی ابتداء مسألة مقدّمة الواجب عدم معقولیة ترشّح وجوب المقدّمة من وجوب ذیها ، بحیث یکون ذی المقدّمة علّة موجدة لوجوب المقدّمة .
کما أنّ القول بأنّ إرادة المقدّمة مترشّحة من إرادة ذیها غیر معقولة ، بل لکلٍّ من وجوب المقدّمة وذیها وإرادة المقدّمة وإرادة ذیها مبادئ یخصّه ، فلاحظ .
ومنها : قوله إنّ وجوب المقدّمة حیث کان مترشّحاً من وجوب ذیها فلا محالة یکون مشروطاً به ، غیر صحیح ؛ لأنّه لو سلّم کون وجوبها مترشّحة من وجوب ذیها فتکون معلولة له ومتأخّرة عنه ، وعلّتها واقعة فی الرتبة السابقة ، ولا یعقل أن یکون المعلول مستنداً ومشروطاً بوجوب ذیها ؛ لأنّ الاشتراط ـ حیث یکون وصفاً وجودیاً ـ إمّا یکون حال وجوده ، وهو یستلزم أن یوجد المعلول بتمام شؤونه ثمّ یرتبط بعلّته بعد استقلاله ، وهو باطل ؛ قضاءً لحقّ المعلولیة . وإمّا فی حال عدمه ، وهو أیضاً باطل ؛ لأنّ المعدوم باطل محض ، کیف یکون ظرفاً للإضافة ویعرضه وصف الاشتراط ؟ !
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 134
فالقول بکون وجوب المقدّمة مترشّحاً عن وجوب ذیها لا یکاد یجتمع مع القول بکونه مشروطاً بوجوب ذیها ، فتدبّر .
ومنها : قوله إنّ وجود الغیر مشروط ومقیّد بذلک الواجب الغیری ، فإنّه بإطلاقه ممنوع ، وإنّما یتمّ فی بعض الواجبات الغیریة کالشرائط ، لا فی جمیعها کنصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح .
وبعبارة اُخری : عدّ الواجب الغیری من قیود مادّة الواجب النفسی غیر مستقیم ، إلاّ بالنسبة إلی الشروط .
فکأنّ هذا المحقّق قصّر نفسه إلی الصلاة بالنسبة إلی الوضوء ، فرأی تقیّد الصلاة بالوضوء ، ولم یتعدّ نفسه وذهنه الشریف عن ذلک إلی ما لا یکون الغیر مشروطاً به ، مثلاً نصب السلّم مقدّمة للکون علی السطح ، ومع ذلک لم یکن الکون علی السطح منوطاً ومشروطاً به ؛ ولذا بعد أن تدرّج العبد السلّم وجلس علی السطح لو ألقی السلّم علی وجه الأرض أو أحرقه لما کان یضرّ بالکون علی السطح ، فتدبّر .
وبالجملة : الواجبات الغیریة علی قسمین : فقد تکون مادّة الغیر مشروطة بالغیر ـ کالصلاة بالنسبة إلی الوضوء ـ وقد لا یکون کذلک ـ کنصب السلّم بالنسبة إلی الکون علی السطح ـ ولذا یشترط بقاء الطهارة حال إتیان الصلاة ، ولا یعتبر بقاء السلّم منصوباً حال کونه علی السطح ، وکم فرق بین توقّف شیء علی وجود شیء ، وبین تقیّده به !
فإذن : لا یرجع الشکّ فی کون الوجوب غیریاً إلی شکّین ، فتدبّر .
ومنها : ما ذکره من حجّیة مثبتات الاُصول اللفظیة ؛ فإنّه ـ کما سیجیء فی محلّه ـ عدم تمامیته فی جمیع الطرق والأمارات ؛ ولذا فی الظنّ بجهة القبلة لا یثبت بذلک مثبتاته .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 135
نعم ، لو کانت الأمارة من الظنون العقلائیة الکاشفة عن الواقع ـ کخبر الثقة ـ فمثبتاتها حجّة ، فلم یثبت حجّیة مثبتات الاُصول مطلقاً ، وسیوافیک تفصیله فی محلّه . وبالجملة : غایة ما یستفاد من الإطلاق ویصحّ الاحتجاج علیه لذلک الحکم ، هی نفس ذلک الشیء لیس إلاّ ، وإلاّ لبیّنه . وأمّا إثبات لوازمه العقلیة أوالعادیة فلا ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 136