المورد الأوّل : فیما یقتضیه الأصل اللفظی
الظاهر : تسالم الأصحاب علی النفسی فی دوران الأمر بین کون الواجب نفسیاً أو غیریاً ، ولکن اختلفوا فی وجه إثباته ، ولکلّ وجهة هو مولّیها ، ولکنّها لا تخلو عن إشکال . فنذکر الوجوه التی ذکروها ، ونعقّبها بما فیها ، ثمّ نشیر إلی الوجه المختار فیه :
قال المحقّق الخراسانی قدس سره : إنّ الهیئة وإن کانت موضوعة لما یعمّهما ، إلاّ أنّ إطلاقها یقتضی کونه نفسیاً ؛ فإنّه لو کان شرطاً لغیره لوجب التنبیه علیه علی المتکلّم الحکیم ، انتهی .
وفیه أوّلاً : أنّ الهیئة معناهـا إیجادی جـزئی ، ویمتنع تصویـر جامـع حقیقی بین المعانی الإیجادیة .
وثانیاً : لو سلّم تصویر جامع اسمی انتزاعی ، فنقول : ظاهر عبارته یعطی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 129
أنّه قدس سره بصدد إثبات النفسیة من طریق مقدّمات الحکمة ـ أعنی إثبات النفسیة من ناحیة الإطلاق بمعونة مقدّمات الحکمة ـ وفیه : أنّ غایة ما تقتضیه المقدّمات هی استفادة المعنی الجامع القابل للصدق علی النفسی والغیری ، وأمّا خصوص أحدهما دون الآخر فیحتاج إلی بیان آخر .
وبالجملة : بأصالة الإطلاق لا یمکن إثبات النفسیة ، کما لا یمکن إثبات الغیریة ؛ فإنّ غایة ما تفیده المقدّمات هی المعنی الأعمّ والقدر الجامع ، وصدقه علی کلٍّ من النفسیة والغیریة علی حدٍّ سواء ، وتعیّنه للدلالة علی أحدهما دون الآخر مرهونة بدلالة الدلیل ؛ لأنّه بانضمام خصوصیة وقید للمعنی یحصل قسم ؛ فیدور الأمر بین المتباینین .
إن قلت : إنّ کلاًّ من النفسیة والغیریة وإن کان قسماً ، وکلّ قسم یحتاج إلی انضمام قید للمقسم ، ولکن حیث إنّ القید المأخوذ فی الواجب الغیری وجودی لکونه واجباً إذا کان هناک واجب ، بخلاف الواجب النفسی ؛ فإنّه غیر مقیّد بذلک فإذا دار الأمر بینهما فعدم إحراز الأمر الوجودی یکفی فی إثبات الطرف المقابل .
قلت : کون القید فی الواجب النفسی عدمیاً لا یوجب أن یکون التقیّد به أیضاً عدمیاً ؛ فکلّ من التقیید بالأمر الوجودی والأمر العدمی یحتاج إثباته إلی بیان زائد علی بیان الجامع ، فتدبّر .
ویحتمل بعیداً أن یکون مراد المحقّق الخراسانی قدس سره بالإطلاق غیر الإطلاق المصطلح علیه المبنی علی مقدّمات معلومة ، بل المراد ما هو نتیجة الإطلاق . بتقریب : أنّ المتکلّم الحکیم لابدّ له من أن لا یخِلّ بغرضه ، فلو دار الأمر بین النفسی والغیری فإن کان غرضه الغیری فلابدّ له من بیانه ، وإلاّ لأخلّ بغرضه ، بخلاف النفسی ؛ لأنّه واجب ؛ وجب هناک شیء أم لا .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 130
ولکن فیه : أنّ العکس أیضاً قد یوجب الإطلاق فیه الإخلال بالغرض ، فلابدّ له من بیانه . بل یمکن أن یقال : إنّ الغالب ذلک ؛ لأنّه لو تردّد شیء بین کونه واجباً نفسیاً أو غیریاً لواجب مشروط علی شرط لم یحصل بعد ـ کالوقت ـ فلو کان ذلک الشیء واجباً غیریاً لا یجب بیانه قبل حصول شرط الواجب الذی یکون هذا الشیء واجباً لأجله . وأمّا لو کان واجباً نفسیاً فلابدّ له من بیانه ، وإلاّ لأخلّ بالغرض .
مثلاً إذا کان نصب السلّم واجباً غیریاً لا یلزم أن یُبیّنه قبل الغد ، ولا یوجب ذلک إخلالاً بغرضه . وأمّا لو کان واجباً نفسیاً فلابدّ له من بیانه ، وإلاّ لأخلّ بالغرض . فإذا دار الأمر بین النفسی والغیری فالحکمة المقتضیة لعدم الإخلال بالغرض توجب إرادة الغیریة .
فتحصّل ممّا ذکر : أنّ الإخلال بالغرض کما یمکن أن یکون أحیاناً بالنسبة إلی الواجب الغیری ، فکذلک ربّما یکون بالنسبة إلی الواجب النفسی ، بل الإخلال بالغرض بالنسبة إلی الواجب النفسی أکثر ؛ وذلک لأنّ تردّد الواجب بین النفسی والغیری ینبغی أن یفرض فی مورد یکون منشأ للأثر وله ثمرة ، فلابدّ وأن یفرض الواجب الذی احتمل وجوب هذا الشیء منوطاً ومشروطاً به غیر واجب بعد ، وإلاّ فلو فرض کونه واجباً فعلاً لا یکاد یتردّد کون هذا الشیء واجباً نفسیاً أو غیریاً ؛ للزوم إتیانه علی کلّ تقدیر ، فتدبّر .
ثمّ إنّه تصدّی العلاّمة القوچانی قدس سره لحمل الواجب علی النفسی عند الدوران وجعله وجهاً لمقال اُستاذه المحقّق الخراسانی قدس سره فقال بما حاصله : إنّ النفسی والغیری وإن کانا قسمین من الواجب ، لکن بحسب الظاهر والإثبات تعارف ذکر القید فی الواجب الغیری ؛ فما لم یذکر قید الغیری یحمل علی النفسی .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 131
أقول : إن رجع التعارف الذی ادّعاه إلی الانصراف الموجب لظهور اللفظ ، فلا مضایقة فیه ؛ فإنّه لا یبعد أن یقال : إنّ الواجب کثیراً ما یستعمل فی النفسی فی المحاورات والمتفاهمات العرفیة ، أو یقال بأکثریة ذکر القید فی الواجب الغیری . ولکن ما ادّعاه لا یکون بیاناً لمقال اُستاذه المحقّق الخراسانی ؛ لأنّه قدس سره یرید إثبات النفسیة من ناحیة الإطلاق ومقدّمات الحکمة ، ومقتضی ما وجّهه رحمه الله هو التمسّک بالانصراف الموجب لظهور اللفظ ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 132