الواجب النفسی والغیری
قد یقسّم الواجب إلی النفسی والغیری ؛ فیقال فی تعریفهما ؛ إنّ الواجب النفسی ما اُمر به لنفسه ، والواجب الغیری ما اُمر به لأجل غیره .
ونوقش فی تعریف الواجب النفسی : بأنّه یلزم أن تکون جمیع الواجبات الشرعیة التی بأیدینا واجبات غیریة ؛ لأنّ الأحکام الشرعیة عند العدلیة تابعة للمصالح والمفاسد والأغراض المترتّبة علیها ـ ولذا اشتهر : أنّ الواجبات الشرعیة
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 125
ألطاف فی الواجبات العقلیة ـ فوجوب الشیء إنّما هو لأجل غرض مترتّب علیه ، کما أنّ حرمة الشیء لمفسدة مترتّبة علیه . فجمیع الواجبات الشرعیة إنّما اُمر بها للتوصّل إلی ما یترتّب علیها من المصالح . فعلی هذا : لا یکون للواجب النفسی مصداق من بین الواجبات الشرعیة .
ولکن الذی یقتضیه التحقیق : هو تمامیة التعریف وعدم استقامة الإشکال . وذلک لأنّ المتبادر من هذا التقسیم : أنّ المقسم لذینک القسمین هو البعث والوجوب لا الإرادة والغرض ، وقد ذکرنا أنّ الوجوب أو الحرمة وغیرهما من الأحکام لا تکاد تکون عبارة عن الإرادة أو الإرادة المظهرة ؛ لأنّه إمّا أن یراد بها إرادة الإیجاد ، فیلزم أن لا یتحقّق عاصٍ فی الخارج ؛ بداهة أنّه إذا تعلّقت إرادته ـ تعالی ـ بإیجاد فعل من المکلّف ـ ولو باختیاره ـ فیجب وجوده ویمتنع الانفکاک بین إرادته ـ تعالی ـ وتحقّق مراده ؛ للزوم التوالی الفاسدة المعنونة فی بابه .
أو یراد بها إرادة التشریع ، فواضح أنّها من مبادئ الحکم ؛ فلا یصحّ أن یعدّ ما یکون من مبادئ الشیء من مقوّماته .
وبالجملة : مقسم القسمین : البعث الاعتباری القانونی فی الأحکام القانونیة ، أو البعث الشخصی فی الأحکام الشخصیة .
ولا یذهب علیک : أنّ هذا التقسیم غیر منافٍ لما تقرّر فی محلّه : أنّ المعنی الحرفی جزئی شخصی ، فکیف یکون مقسماً وجامعاً بین القسمین ؟ ! وذلک لما ذکرنا فی محلّه : أنّ إمکان تصویر الجامع العرضی الاسمی بمکان من الإمکان ، مثلاً کما یصحّ أن یقال : إنّ لفظة «من» لمعنی کذا ومعنی کذا فتکون لفظة «من» هناک اسماً ، فکذلک نقول هنا :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 126
إنّ الهیئة وإن کانت معناها جزئیاً ، ولکنّه یمکن لحاظ الجامع العرضی لها ، والتقسیم بلحاظ ذاک الجامع الکذائی .
والحاصل : أنّ تقسیم الواجب إلی النفسی والغیری إنّما هو فی الأمر الاعتباری . فعلی هذا : المولی الذی یوجب شیئاً لغرض فی وجوبه ، ولغرضه غرض إلی أن ینتهی إلی غرض ذاتی له :
فتارةً یوجبه ویلزمه لا للتوسّل به إلی أمر آخر وخطاب فوقه ـ وإن کان وجوبه لغرض ـ کما إذا أمر المولی عبده ببناء مسجد ، فینتزع من البعث الکذائی الوجوب ، ویسمّی الواجب الکذائی واجباً نفسیاً .
واُخری یوجبه ویأمر به للتوسّل به إلی أمر وخطاب موقوف علیه ، کما إذا أمره بإحضار الأحجار والأخشاب لبناء المسجد ، أو أمره بالذهاب إلی السوق لاشتراء اللحم ، فالأمر والبعث بإحضار الأحجار والأخشاب والذهاب إلی السوق أمر غیری ؛ لتوقّف الأمر ببناء المسجد أو اشتراء اللحم علیه .
ففی الواجب الغیری قیدان : 1 ـ وجود واجب آخر هناک ، 2 ـ توقّف الواجب الآخر علیه . فإن لم یکن فوقه واجب آخر ، أو کان ولکن لا یکون متوقّفاً علیه ، فلا یکون واجباً غیریاً ، بل نفسیاً .
نعم ، ینقسم الواجب النفسی إلی الواجب بالذات وإلی الواجب بالغیر ؛ فإنّ أوامر الاحتیاط أوامر نفسیة ، ولکنّها لا تکون ذاتیة ، بل للغیر .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ الدواعی والغایات خارجة عن حریم التقسیم ، بل التقسیم وارد علی البعث الاعتباری ، والهیئة وإن کانت معناها جزئیاً شخصیاً ، ولکن التقسیم بلحاظ مفهومها الاسمی الانتزاعی الصادق علی کلّ من النفسی والغیری صدقاً عرضیاً .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 127
فإذن : قد یوجب شیئاً للتوصّل به إلی أمر آخر فوقه المتوقّف علیه ، کما إذا قال : «اشتر اللبنات والأخشاب فابن مسجداً» ، وقد لا یوجب کذلک ، بل یقول : «اشتر اللبنات» . فالأمر باشتراء اللبنات والأخشاب فی الصورة الاُولی أمر غیری ، بخلاف الأمر بها فی الصورة الثانیة ؛ فإنّها أمر نفسی . فعلی هذا : فقد یکون شیء واحد واجباً نفسیاً من جهة فی خطاب ، وواجباً غیریاً من جهة اُخری فی خطاب آخر .
ثمّ إنّه ـ کما أشرنا ـ الواجب النفسی تارةً یجب لذاته ، واُخری للغیر ، کأوامر الاحتیاط والأمر بالمعروف ؛ فإنّ لزوم إتیان أربع صلوات إلی أربع جهات عند اشتباه القبلة واجب نفسی ؛ لعدم توقّف الصلاة إلی القبلة علی غیر جهة القبلة ـ کالیمین والیسار ودبر القبلة ـ وهو واضح . نعم العلم بتحقّق الصلاة إلی القبلة یتوقّف علی إتیان الصلاة إلی أربع جهات . فوجوب صلاة الاحتیاط لم یکن مطلوباً ذاتیاً ، بل مطلوب للغیر .
فظهر ممّا ذکرنا صحّة تقسیم مطلق الواجب إلی النفسی والغیری ، ثمّ تقسیم الواجب النفسی إلی الواجب بالذات والواجب بالغیر . ولک أن تقول من رأس : الواجب علی أقسام ثلاثة :
1 ـ الواجب الغیری .
2 ـ الواجب النفسی الذاتی .
3 ـ الواجب النفسی للغیر .
وما ذکرناه هو مقتضی الاعتبار فی تعریف الواجب النفسی والغیری ، وإن وقع بعض الکلام منهم فی ذلک .
وکیف کان : فلا یترتّب علی ما ذکر فائدة مهمّة ، والمهمّ بیان صورة الشکّ فی کون واجب أنّه نفسی أو غیری :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 128