الجهة الاُولی: فی میزان الفرق بین الواجب المطلق والمشروط
ولیعلم : أنّ المهمّ فی المقام ـ وقد وقع البحث والکلام فیه ـ هو بیان میزان الفرق بین الواجب المطلق والمشروط وعدم إرجاع أحدهما إلی الآخر ، وقد اضطربت کلماتهم فی ذلک ، وأتعبوا أنفسهم فی إرجاع القیود الراجعة إلی الهیئة إلی المادّة .
فنقول : الظاهر أنّ القیود الواقعة فی الکلام بصورة الشرط ـ مثلاً کقولنا : «إن جاءک زید فأکرمه» و«إن استطعتَ فحجّ» ـ راجعة إلی الهیئة وقیود لها ، وهو المتفاهم منه عرفاً وتقتضیه القواعد الأدبیة .
وإرجاع تلک القیود إلی المادّة ـ کما نُسب إلی الشیخ الأعظم قدس سرهـ لابدّ وأن یکون لأحد أمرین علی سبیل مانعة الخلوّ :
إمّا لامتناع تقیید الهیئة ، لکونها معنی حرفیاً غیر قابل للتقیید ، فیرجع ما ظاهره تقیید الهیئة إلی تقیید المادّة .
أو لأجل رجوع القیود کلّها إلی المادّة لبّاً .
فإن أمکن تقیید الهیئة والمعنی الحرفی ـ کما هو الحقّ عندنا ـ وقلنا بعدم رجوع جمیع القیود الواقعة فی الکلام إلی المادّة لبّاً ـ نعم قد یکون راجعة إلیها ، کما أنّه قد یکون راجعة إلی الهیئة فعلی هذا لابدّ من الأخذ بظواهر الأدلّة وما تقتضیه القواعد الأدبیة ، ولا وجه لتأویلها وارتکاب خلاف الظاهر فیها ـ فنقول من رأس :
إنّ رجوع القید إلی المادّة أو الهیئة لیس جزافیاً وبلا ملاک ؛ فقد یکون راجعاً
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 60
إلی المادّة ، کما أنّه قد یکون راجعاً إلی الهیئة ، ولا معنی لرجـوع القید المربوط بأحدهما إلی الآخر ؛ وذلک لأنّ تعلّق الطلب والوجوب ـ مثلاً ـ علی شیء لابدّ وأن یکون لأجل غرض مترتّب علیه ، وإلاّ یکون طلبه وتعلّق الوجوب به جزافیاً .
فربّما یترتّب الغرض علیه بلا قید وشرط ، فینحدر البعث علیه بلا قید وعلی سبیل الإطلاق ، فیکون الواجب مطلقاً ؛ فیجب إتیانه ولو مع القید .
وقد یترتّب الغرض علیه مع قید ؛ لوجود الملاک فیه ، دون قید آخر ودون عدم القید أصلاً .
فعند ذلک تارةً یکون القید دخیلاً فی أصل تعلّق الغرض ، بحیث لو لم یکن القید لم یکن له غرض أصلاً ، کإکرام الحاکم الظالم الجائی بلده ، حیث یخاف من ظلمه ؛ فإنّه لم یکن لأصل إکرامه غرض ومصلحة ، بل ربّما یکون الغرض والصلاح فی إهانتـه ، ولکن مع ذلک إذا ورد فی بلده یکون له غرض فی إکرامه لدفع شرّ ظلمـه عنه ؛ فإکـرام الظالم لیس مطلوباً علی سبیل الإطلاق ومـن جمیع الجهات ، بل إذا جـاء بلده .
واُخری لا یکون القید دخیلاً فی أصل الغرض ، بل یکون دخیلاً فی حصول الغرض المحقّق ، وذلک کإکرامه العالم الورع الجائی بلده ، حیث یکون لـه غرض مطلق فـی إکرامـه ؛ لدرک المثوبات الکثیرة المترتّبـة علی إکـرام العالم الورع . فغرضـه عند ذلک مطلق محقّق ، لا یکون له حالة منتظرة ؛ ولذا یدعـوه ویُرسل رسولاً نحوه لیدخل بلده ؛ فالقید ـ وهو دخوله البلد ـ یکون دخیلاً فی حصول الغرض فی الخارج .
وبالجملة : غرض المولی یتصوّر علی نحوین : فتارة یکون غرضه مقیّداً بقید ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 61
بحیث لولا القید لم یکن له غرض أصلاً .
واُخری لا یکون غرضه مقیّداً بقید ، بل مطلق ، ولکن تعلّق بأمر مقیّد .
فإذا تصوّر المولی القسمین وصدّق بفائدتهما ، یریدهما ، فیبعث نحوهما ، وواضح : أنّ البعث إلی ما یکون القید دخیلاً فی أصل الغرض یکون مشروطاً ، بحیث لولا القید لم یکن بعث . فالقید الکذائی یرجع إلی الهیئة لا محالة ، ولا معنی لإرجاعه إلی المادّة .
کما أنّه إذا بعث إلی ما یکون القید دخیلاً فی حصول الغرض المطلق المحقّق یکون البعث مطلقاً ، والقید یرجع إلی المادّة ، ولا معنی لإرجاعه إلی الهیئة . فللمولی عند ذلک أمره بالمقیّد ؛ بأن یأمر بالصلاة فی المسجد ، فإن کان المسجد موجوداً فیصلّی فیه ، وإلاّ فیجب بناء مسجدٍ والصلاة فیه . ولیس له الأمر کذلک إذا کان القید دخیلاً فی أصل الغرض ، بل لابدّ له أن یقول : إن کان المسجد محقّقاً فصلِّ فیه .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّ القیود الراجعـة إلی المادّة تخالف القیود الراجعـة إلی الهیئة لبّاً وفی متن الواقـع ، فلا یصحّ إرجاع قیود المادّة إلی الهیئـة وبالعکس فـی مقام الإثبات .
نعم ، إن لم یمکن إرجاع القید إلی الهیئة فی مقام الإثبات لبعض الشبهات ـ مثل کون معنی الهیئة حرفیاً وقلنا بأنّه غیر قابل للتقیید ـ فلابدّ وأن ترجع إلی الهیئة لبّاً وفی متن الواقع .
فبما ذکرنا کلّه ظهر میزان الفرق بین الواجب المطلق والواجب المشروط ، وحاصله : أنّ الغرض فی الأوّل مطلق متحقّق ، وفی الثانی مشروط ومعلّق علی وجـود القید .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 62
ذکر وتعقیب
ثمّ إنّه ذکر المحقّق العراقی قدس سره میزاناً لتمییز القیود الراجعة إلی المادّة عن القیود الراجعة إلی الهیئة ، ولعلّه یرید إفهام ما ذکرنا . ولکن ظاهر ما یعطیه عبارة «بدائع الأفکار» مخالف له . فنذکر حاصل ما ذکره ثمّ نعقّبه بما وقع فیه :
فقال : إنّ القیود علی نحوین :
أحدهما : ما یتوقّف اتّصاف الفعل بکونه ذا مصلحة علی حصوله فی الخارج ، کالزوال والاستطاعة بالنسبة إلی الصلاة والحجّ ؛ فإنّ الصلاة لا یکون ذات مصلحة إلاّ بعد تحقّق الزوال ، وکذلک الحجّ بالإضافة إلی الاستطاعة ، وأمّا قبل تحقّق هذین القیدین فلا یری المولی مصلحة فی الصلاة والحجّ ؛ ولذا یأمر بهما معلّقاً أمره علی تحقّق هذین القیدین فی الخارج .
ثانیهما : ما یتوقّف فعلیة المصلحة وحصولها فی الخارج علی تحقّقه ، بحیث لا تحصل تلک المصلحة فی الخارج إلاّ إذا اقترن الفعل به ، کالطهارة والستر والاستقبال ونحوها .
وبلحاظ هذا الفرق بین النحوین من القیود صحّ أن یقال للنحو الأوّل : «شروط الأمر والوجوب» ، وللنحو الثانی : «شروط المأمور به والواجب» ، انتهی .
ولا یخفی : ما فی کلا شقّی کلامه ؛ لأنّه ربّما یکون بعض القیود دخیلاً فی اتّصاف الموضوع بکونه ذا مصلحة ، ومع ذلک لا یکون الوجوب مشروطاً به ، وذلک مثل الطهور بالنسبة إلی الصلاة مثلاً ؛ فإنّ الطهارة دخیلة فی اتّصاف الصلاة بالصلاح
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 63
بضرورة من الدین ، بحیث لا تکون الصلاة ذات مصلحة بدون الطهارة . بل یمکن أن یقال : إنّ جمیع القیود الراجعة إلی اتّصاف الموضوع بالصلاح قیود المادّة ، علی عکس دعوی هذا المحقّق ؛ لأنّ الطهارة والستر والاستقبال وغیرها لیست کالآلات الفاعلیة فی إیجاد موضوع ذی صلاح بالضرورة ؛ لأنّ اتّصاف الموضوع بالصلاح إنّما هو عند وجدانه القید .
نعم ، القیود الدخیلة فی اتّصاف الموضوع بالمصلحة علی نحوین :
فتارةً : یکون غرض المولی متعلّقاً به علی الإطلاق ـ کان القید موجوداً أم لا ـ فلابدّ له من تحصیل الطبیعة المتقیّدة ولو بإیجاد قیدها .
واُخری : لا یتعلّق غرضه المطلق به ، بل تعلّق غرضه علی فرض حصول قیده ، فلا یریده مطلقاً ، فیرجع القید إلی الهیئة .
فتحصّل : أنّ قیود المادّة علی قسمین : فقد یکون الواجب مشروطاً بها ، وقد لا یکون مشروطاً بها . فلابدّ لرجوع القید لأحدهما دون الآخر من ضابط آخر ، وهو الذی ذکرناه ؛ من أنّه إذا کان غرضه مطلقاً فالقید یرجع إلی المادّة ویکون الواجب مطلقاً ، وإذا کان غرضه مقیّداً بحصول قید فالواجب مشروط به ، فتدبّر .
ذکر وإرشاد
قد ظهر لک بما ذکرنا : أنّ القیود الراجعة إلی الهیئة تخالف القیود الراجعة إلی المادّة لبّاً وفی متن الواقع ، ولا یمکن إرجاع قید إحداهما إلی الاُخری .
ولکن یظهر من تقریرات شیخنا الأعظم الأنصاری قدس سره إرجاع جمیع القیود إلی المادّة . قال فی بیانه ما حاصله : أنّه علی مذهب التحقیق تختلف المصالح والمفاسد فی الأفعال الاختیاریة بالوجوه والاعتبارات :
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 64
فتارةً : یکون الفعل مع قطع النظر عن التکلیف به حسناً ومقتضیاً للأمر به ، أو قبیحاً موجباً للنهی عنه .
واُخری : یکون الفعل علی وجه لو أمر به وأتی به المکلّف امتثالاً لأمر المولی یصیر حسناً ، فعند ذلک یأمر بالفعل أوّلاً تحصیلاً لموضوع الفعل الحسن ، ثمّ یُنبّه المکلّف بأن یأتی بالفعل المذکور علی وجه الامتثال .
وثالثة : یکون الفعل حسناً علی تقدیر عدم الإلزام به ، فیختلف حکمه بحسب اختلاف مراتب عدم الإلزام .
ورابعة : یکون الفعل المقیّد بقیدٍ ذا مصلحة ملزمة علی وجه یکون التکلیف متعلّق کلیهما .
وخامسة : یکون ذا مصلحة ، لکن علی تقدیر وقوع القید لا علی وجه التکلیف .
فلابدّ للحکیم لو قصد واحدة من تلک الصور أن یُعبّر عن مقصوده بلفظٍ یکون وافیاً بمقصوده . فلو کان الأمر مشروطاً بشرط ـ بأن قال : «إن استطعت فحجّ» مثلاً ـ فیستفاد منه وجوب الفعل المتعقّب بالاستطاعة ، وحیث إنّ الدالّ علیه هو حرف الشرط الدالّ بحسب العرف واللغة علی الملازمة بین الشرط والجزاء ، فالواجب هو الحجّ عند حصول الاستطاعة ، فلا یجب عند عدمه بمقتضی اللفظ ، فیکشف ذلک عن وجود المصلحة فی الفعل المتقیّد بالقید المذکور ، لکن علی وجه کان وجوده غیر متعلّق للتکلیف .
وأمّا إذا عُبّر عن القید المذکور لا علی هذا الوجه ـ کأن یقول : «حجّ مستطیعاً» ـ یکشف ذلک عن وجود المصلحة فی الحجّ المتقیّد بالاستطاعة ؛ بمعنی أنّ عدم التکلیف ممّا لا مدخلیة له فی إیراث الفعل حسناً ، فتکون من المقدّمات
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 65
الوجودیة ، ویجب تحصیلها عند إرادة امتثال ذیها . وبالجملة : قید الأمر لو کان فی ظاهر اللفظ فإنّما یرجع إلی المأمور به والمطلوب ، انتهی .
ولیعلم : أنّ هذا المقال منه قدس سره ـ مع جودة ذهنه ونقاوته ـ إنّما هو لأجل شبهة عرضت له ؛ وهی عدم إمکان تقیید الهیئة التی معناها حرفی ، وإلاّ فهو قدس سره أجلّ شأناً وأرفع منزلة من أن یتعب نفسه الزکیة ویرتکب هذه التمحّلات الباردة ، فکأنّه قدس سرهوقع فی ذلک بلازم مبناه ، من دون إمعان النظر فی حقیقة الأمر .
وذلک لأنّه لو سلّمنا دخالة الاستطاعة فی مصلحة الحجّ ـ کما ذکره ـ لکن هنا قیود لا یمکن إرجاعها إلی المادّة أصلاً . مثلاً : لو قال المولی : «من سرق یقطع یده» أو «من أفطر عمداً فی شهر رمضان فعلیه الکفّارة» ، فلازم ما أفاده : کون السرقة أو الإفطار عمداً دخیلین فی مصلحة قطع الید أو الکفّارة ، مع أنّه لا یعقل أن تکون السرقة أو الإفطار دخیلین فی مصلحة قطع الید والکفّارة ، بحیث یکون للقطع المتقیّد بالسرقة أو الکفّارة المتقیّدة بالإفطار عمداً مصلحة ؛ ضرورة أنّ الکفّارات والحدود والتعزیرات إنّما شرّعت للتأدیب وإصلاح المجتمع ، بل لعلّ ذلک لتطهیر المرتکبین فی هذه النشأة ، فتدبّر .
ومن هذا القبیل الأمر بالمهمّ عند عصیان الأمر بالأهمّ ؛ فإنّه لا یمکن أن یقال : إنّ عصیان الأمر بالأهمّ دخیل فی مصلحة الأمر بالمهمّ ، کدخالة عدم إنقاذ العالم الورع الهاشمی مثلاً ـ فی مصلحة الأمر بالمهمّ ـ وهو إنقاذ المسلم غیر العالم الهاشمی ـ بل إنقاذه مطلوب من أوّل الأمر ، غایته : أنّه لا یمکن العبد إنقاذه مع إنقاذ العالم الورع الهاشمی ـ لعدم قدرته علی إنقاذهما ـ فالمادّة غیر متقیّدة ، والقید راجع إلی الهیئة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 66
وبالجملة : فی بعض القیود وإن أمکن بتکلّف إرجاعه بوجهٍ إلی المادّة ـ کالاستطاعة ـ إلاّ أنّه لا یمکن ذلک فی بعض قیود اُخر ، کما أشرنا ، فتدبّر .
فتحصّل ممّا ذکرنا : عدم استقامة مقال الشیخ قدس سره .
إشکالات وأجوبة
ولکن ذُکر إشکالات لامتناع رجوع القید إلی الهیئة ، فلو تمّت تلک الإشکالات فلابدّ من التمحّل والتجشّم بإرجاع القید إلی الهیئة لبّاً ، وإلاّ فلابدّ من إبقاء القید علی ظاهره :
من الإشکالات : أنّ الهیئة معناها حرفی ، فتکون ملحوظة تبعاً ، فلا یمکن فیها التقیید والاشتراط ؛ لأنّهما إنّما یکونان فیما إذا لوحظتا مستقلّتین .
وبعبارة اُخری : معنی الهیئة بما أنّها من المعانی الحرفیة مندکّة فی متعلّقها غیر ملتفت إلیها مستقلّة ، والتقیید والاشتراط متوقّفان علی اللحاظ الاستقلالی للمقیّد والمشروط .
وفیه أوّلاً : أنّ التقیید أو الاشتراط فی المعانی الحرفیة إنّما هو بلحاظ ثانوی استقلالی ، بل وکذلک الحال فی جمیع القیود حتّی الاسمی منها ؛ وذلک لأنّ قولک : «أکرم زیداً» حینما لم تقیّده بکونه عالماً لم یکن هناک وصف ولا اتّصاف ، ثمّ تلاحظه ثانیاً وتوصفه بأنّه عالم ، هذا فی المعانی الاسمیة .
وکذلک فی المعانی الحرفیة ؛ فإنّ الهیئة استعملت فی معناها الحرفی عند الإلقاء ، ثمّ تلاحظ بالمعنی الاسمی ، فیرد علیه القید .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 67
وبعبارة اُخری : أنّ التقیید أو الاشتراط ـ حتّی فی المعانی الإسمیة ـ إنّما هو بلحاظٍ ثانٍ استقلالی ؛ إذ اللفظ لا تستعمل إلاّ فی معناه ولا یحکی إلاّ عن نفس معناه ، فإذا وصف بوصف ـ کالعدالة فی قولک : «رأیت العالم العادل» ـ فإنّما هو بلحاظ ثان ، هذا فی المعنی الاسمی .
وقس علیه التقیید فی المعنی الحرفی ، مثلاً الهیئة لا تستعمل إلاّ فی معناها المطلق ، لا فی المعنی المشروط ، والتقیید یرد علیها فی لحاظ آخر ؛ تقدّم أو تأخّر ، وعند ذاک تصیر حال التقیید معنی اسمیاً ؛ فلا منع من تقییده ، فتدبّر .
وثانیاً : أنّه لا دلیل علی احتیاج التقیید إلی اللحاظ الاستقلالی ، وإن کان لحاظه کذلک بمکان من الإمکان . وغایة ما یقتضیه الاعتبار هو أن یکون ملحوظاً ولو فی ضمن الکلام الخبری فی الجُمل الخبریة أو الکلام الإنشائی فی الجمل الإنشائیة . فعلی هذا یمکن تقیید المعنی الحرفی ـ الذی هو معنی الهیئة ـ عند الإلقاء .
وإیّاک أن تتوهّم من جواز تقیید المعنی الحرفی صحّة وقوع المعنی الحرفی مسنداً أو مسنداً إلیه ؛ لوجود الفرق بینهما کما لا یخفی ، فتدبّر .
وبعبارة اُخری : الوجدان أصدق شاهدٍ علی تقیید المعانی الحرفیة فی نوع المحاورات والتفهیمات ، بل قلّما یتعلّق الغرض بإفهام المعنی الاسمی بدون تفهیم المعانی الحرفیة ، بل المطلوب الأوّلی فی نوع المحاورات تفهیم المعانی الحرفیة .
مثلاً : إذا أراد الإخبار عن کون زید علی السطح ـ مثلاً ـ وقال : «زید علی السطح» فهو کما یحکی عن زید والسطح ، یحکی عن الکون الرابط ـ أی کون زید علی السطح ـ فهو یحکی عن المقیّد والقید والتقیّد فی عرض واحد ، من دون احتیاج إلی لحاظ مستأنف ، بل حکایته عن زید والسطح بلحاظ حکایته عن المعنی الحرفی والکون الرابط .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 68
ولا فرق فی ذلک بین کون المعنی الحرفی حکائیاً ـ کالمثال المذکور ـ وبین کونها معنی إیجادیاً . فالمتکلّم قبل استعمالها یقدّر المعانی والألفاظ فی ذهنه ویری أنّ مطلوبه لا یکون مطلوباً إلاّ علی تقدیر ، فیوجده کذلک .
وثالثاً : أنّ الذی یقتضیه التحقیق ویعاضده الوجدان : أنّ التقیید لا یحتاج إلی لحاظ مستأنف ـ ولو تبعاً ـ بل إذا لوحظ الشیء أوّلاً ، ثمّ عُقّب بذکر قید أو قیود ، یحصل التقیید وإن لم تلحظ ثانیاً . مثلاً قولک : «ضربت زیداً ، یوم الجمعة ، عند الزوال ، ضرباً شدیداً» لم یلحظ فی کلّ من التقییدات الجملة من الصدر بأن یلاحظ «ضربت زیداً» عند تقییده بیوم الجمعة ، ثمّ ملاحظة ذلک مقیّداً بکونه یوم الجمعة عند تقییده بعند الزوال ، وهکذا . وغایة ما هناک : لحاظ «ضربت زیداً» أوّلاً ، ویکفی ذلک فی تقییده لو قارنه بالقیود .
ومنها : أنّ هیئة الأمر والنهی بما أنّها إیجادی یمتنع علیها طروّ التقیید والتعلیق ؛ لامتناع التعلیق فی الاُمور التکوینیة ؛ لأنّ أمرها دائر بین الوجود والعدم ؛ فکما أنّ تعلیق الوجود فی الاُمور التکوینیة مساوق للعدم ، فکذلک التعلیق فی الإیجاد ؛ لأنّه مساوق لعدم الإیجاد .
وفیه : أنّه خلط باب التکوین بباب التشریع وإسراء حکم الاُمور التکوینیة إلی الاُمور الاعتباریـة ، مع وجـود الفرق بینهما . والتعلیق إنّما یمتنع فی الاُمـور الحقیقیة التکوینیة ، وأمّا الاُمور الاعتباریة التی لم تشمّ رائحة الوجود فلا یجری علیه أحکام الوجود .
وبالجملة : معنی التعلیق فی الإیجادی الاعتباری هو کون البعث والإلزام من
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 69
المولی إنّما هو علی تحقّق شرط وقید ؛ فالبعث والوجوب لم یکن خارجیاً ، بل أمراً اعتباریاً ؛ فیمکن طروّ التقیید والتعلیق علیه ، فتدبّر .
ومنها : أنّ الحروف ـ ومنها الهیئة ـ موضوعة بالوضع العامّ والموضوع له الخاصّ ؛ فمعنی الهیئة جزئی حقیقی ، وهو غیر قابل للتقیید .
وفیه أوّلاً : أنّه قد عرفت فیما سبق : أنّ الموضوع له فی الحروف ـ ومنها الهیئة ـ کالوضع عامّ ، فلاحظ .
وثانیاً : لو سلّم کون الموضوع له فیها خاصّاً ، ولکن تعلیق الجزئی وتقییده بلحاظ حالاته وأطواره ممکن ، بل واقع ؛ ولذا تجری فی الجزئی الحقیقی مقدّمات الإطلاق إذا وقع موضوعاً للحکم .
فتحصّل ممّا ذکرنا کلّه : أنّ القیود الراجعة إلی المادّة تخالف القیود الراجعة إلی الهیئة لُبّاً وثبوتاً ، ولم یکن محذور فی تقیید الهیئة إثباتاً ؛ فلا محذور فی الأخذ بظواهر الکتاب والسنّة الظاهرین فی تقیید الهیئة ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 70