مقال المحقّق النائینی فی تحریر محطّ النزاع ودفعه
ثمّ إنّ المحقّق النائینی قدس سره ذکر اُموراً ، فیها خروج البحث العلل العقلیة ، والعلل الغائیة ، والإضافات والعناوین الانتزاعیة ، وشرائط متعلّق التکلیف عن البحث فی الشرط المتأخّر . ثمّ ذکر تحقیقاً وأراد بذلک تغییر محلّ النزاع عمّا هو المعروف فی محطّ البحث ، فجعل محطّ البحث فی شرائط موضوعات الأحکام .
وحاصل ما ذکره هو : أنّه لا إشکال فی خروج العلل العقلیة ـ من المقتضی والشرط وعدم المانع والمعدّ وغیر ذلک ـ عن حریم النزاع ؛ لأنّ امتناع تأخّر بعض أجزاء العلّة التامّة عن المعلول من القضایا التی قیاساتها معها ، ولا یحتاج إلی مؤونة البرهان ؛ لأنّ أجزاء العلّة التامّة بجمیع أقسامها تکون ممّا لها دخل فی وجود المعلول ، علی اختلاف مراتب الدخل ، ویشترک الکلّ فی إعطاء الوجود للمعلول .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 52
کما لا إشکال فی خروج العلل الغائیة وعلل التشریع عن حریم النزاع أیضاً ؛ لأنّ العلل الغائیة وکذا علل التشریع وإن کانت مؤخّرة فی الوجود غالباً ، لکنّها متقدّمة تصوّراً ، ولیست هی بوجودها العینی علّة حتّی یلزم تأثیر المعدوم فی الموجود وتقدّم المعلول علی علّته ، بل العلّة والمحرّک هو وجودها العلمی .
ولیست الإضافات والعناوین الانتزاعیة ـ کالتقدّم والتأخّر ، والسبق واللحوق ، والتعقّب وغیرها ـ ممّا یقع النزاع فیها ؛ وذلک لأنّ عنوان التقدّم إذا کان شرطاً لتکلیفٍ أو وضعٍ ینتزع من ذات المتقدّم عند تأخّر شیء عنه ، ولا یتوقّف انتزاعه عن شیء علی وجود المتأخّر فی موطن الانتزاع ، بل فی بعض المقامات ممّا لا یمکن ذلک ، کتقدّم بعض أجزاء الزمان علی بعض ؛ لأنّه لا یصحّ انتزاع عنوان التقدّم للیوم الحاضر علی الغد ؛ لتصرّم الیوم الحاضر عند مجیء الغد ، ولا معنی لاتّصافه بالتقدّم حال تصرّمه وانعدامه . وکذا حال الزمانیات .
کما أنّه ینبغی خروج شروط متعلّق التکلیف عن حریم النزاع ؛ لأنّ وزان الشرط وزان الجزء فی ترتّب الامتثال علیه ؛ فکما لا إشکال فی تأخّر بعض أجزاء المرکّب عن الآخر فی الوجود ومنفصلاً عنه فی الزمان ـ بأن یؤمر بمرکّب یکون بعض أجزائه فی أوّل النهار ، وبعضها فی آخرها ـ کذلک لا ینبغی الإشکال فی کون شرط الواجب متأخّراً عنه فی الوجود ومنفصلاً عنه فی الزمان .
وبالجملة : لا یلزم من تأخّر شرط متعلّق التکلیف شیء من المحذورات التی تجری فی الشرط المتأخّر ؛ من لزوم الخلف والمناقضة ، وتقدّم المعلول علی علّته ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 53
وتأثیر المعدوم فی الموجود ؛ لأنّه بعدما کان الملاک والامتثال والخروج عن عهدة التکلیف موقوفاً علی حصول التقیّد ـ الحاصل بحصول ذات القید ـ فأیّ خلف یلزم ؟ ! وأیّ معلول یتقدّم علی علّته ؟ ! وأیّ معدوم یؤثّر فی الموجود ؟ ! فلا یلزم محذور أصلاً إذا کان غسل اللیل المستقبل شرطاً فی صحّة صوم المستحاضة ؛ لأنّ حقیقة الاشتراط یرجع إلی أنّ الإضافة الحاصلة بین الصوم والغسل شرط فی صحّة الصوم ، بحیث لا یکون الصوم صحیحاً إلاّ بحصول الإضافة الحاصلة بالغسل .
فإذا عرفت ما ذکر یظهر لک : أنّ محلّ النزاع فی الشرط المتأخّر إنّما هو فی الشرعیات فی خصوص شروط الوضع والتکلیف .
وبعبارة اُخری : محلّ الکلام فی موضوعات الأحکام ؛ وضعیة کانت أو تکلیفیة .
وتوضیح امتناع شرط المتأخّر فی موضوعات الأحکام یتوقّف علی بیان المراد من الموضوع ، وهو یتوقّف علی بیان الفرق بین القضایا الحقیقیة والخارجیة .
ومجمل الفرق بینهما هو : أنّ الموضوع فی القضیة الحقیقیة ـ حملیة کانت أو شرطیة ، خبریة کانت أو إنشائیة ـ هو العنوان الکلّی الجامع بین ما ینطبق علیه من الأفراد ، وفی القضیة الخارجیة یکون الموضوع هو الشخص الخارجی الجزئی .
ویتفرّع علی هذا الفرق اُمور تقدّمت الإشارة إلیها :
منها : أنّ العلم إنّما یکون له دخل فی الخارجیة دون الحقیقیة ؛ لأنّ المدار فی القضیة الخارجیة ـ حملیة کانت أو إنشائیة ـ هو العلم بوجود ما یعتبر فی ثبوت المحمول ، لا الثبوت الواقعی . مثلاً إذا کان لفضل زید دخل فی إکرامه فمتی علم الشخص بفضله یُقدم علی إکرامه مباشرة أو بتسبّب الأمر ؛ سواء کان زید فی الواقع فاضلاً أم لا . وإذا لم یکن الشخص عالماً بفضله لا یباشر إکرامه ولا یأمر به ، وإن کان
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 54
فی الواقع فاضلاً . فدخالة العلم بوجود ما یعتبر فی ثبوت المحمول یلحق بالعلل الغائیة التی عرفت أنّها إنّما تؤثّر بوجودها العلمی ، لا بوجودها الواقعی .
وبالجملة : الحکم فی الخارجیة دائر مدار علم الحاکم والفاعل ـ سواء کان المعلوم مقارناً ، أم مؤخّراً ـ فهو خارج عن محـلّ النزاع . ففی الحقیقة الدواعی والاُمـور الدخیلة فی جعل الحکم تکون کالعلل الغائیة التی قد عرفت أنّها خارجة عن حریم النزاع .
وأمّا ما یکون موضوعاً للحکم ـ وهو عنوان کلّی جامع لما یعتبر فیه من القیود والشرائط ، وقد اُخذ مفروض الوجود ـ فالشرائط دخیلة فی الموضوع ومن قیوده .
ومحلّ البحث فی الشرط المتأخّر هو هذا القسم من الشرائط ؛ فوقع الخلاف فی أنّه إذا جعل المولی حکماً وضعیاً أو تکلیفیاً بنحو القضیة الحقیقیة علی العنوان المتقیّد ، فهل یصیر الحکم فعلیاً قبل حصول القید ، أم لا ؟ فحقیقة النزاع فی الشرط المتأخّر ترجع إلی تأخّر بعض ما فرض دخیلاً فی الموضوع علی جهة الجزئیة أو الشرطیة عن الحکم التکلیفی أو الوضعی ؛ بأن یتقدّم الحکم علی بعض أجزاء موضوعه .
أضف إلی ذلک : أنّ الأحکام الشرعیة مجعولة علی نهج القضایا الحقیقیة .
فإذا أمعنت النظر فیما ذکرنا یظهر لک : أنّ امتناع الشرط المتأخّر من القضایا التی قیاساتها معها ، ولا یحتاج إلی برهان ، بل یکفی فی امتناعه نفس تصوّره .
من غیر فرق فی ذلک بین القول بکون المجعول هی السببیة ، أو نفس الحکم الشرعی مرتّباً علی موضوعه .
لأنّه بناءً علی جعل السببیة یکون حال الشرعیات حال العقلیات التی تقدّم امتناع تأخّر العلّة فیها ، أو جزئها ، أو شرطها ، أو غیر ذلک ممّا لـه أدنی دخـل فی تحقّق المعلول .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 55
وأمّا بناءً علی جعل الحکم عند وجود السبب ـ کما هو المختار عندنا ـ فللزوم الخلف ؛ لأنّ الموضوع وإن لم یکن علّة للحکم ؛ إلاّ أنّه ملحق بالعلّة من حیث ترتّب الحکم علیه . فلو تقدّم الحکم علیه بعد فرض أخذه موضوعاً یلزم الخلف ، وأنّ ما فرض موضوعاً لم یکن موضوعاً ، انتهی ملخّصاً ومحرّراً .
ولا یخفی : أنّ بعض المقدّمات التی أوردها وإن کان مورداً للتصدیق وتماماً ، إلاّ أنّ بعضها الآخر غیر تمام ولا یمکن تصدیقه ؛ وذلک لأنّ إخراج العلل العقلیة والعلل الغائیة والعلل التشریعیة عن محطّ البحث وإن کان أمراً لا سترة فیه ، إلاّ أنّ إخراج شرائط متعلّق التکلیف عنه لا وجه له ، بل هو محطّ البحث بینهم ، لا شرائط موضوع التکلیف .
وذلک لما أشرنا : أنّ منشأ البحث عن الشرط المتأخّر هو ما رأوا موارد فی الفقه توهّم فیها کون الشرط متأخّراً ، کالإجازة فی البیع الفضولی ـ علی القول بکونها کاشفاً حقیقیاً ـ وغسل اللیلة المستقبلة فی صحّة صوم المستحاضة ، والقدرة وقت العمل لصحّة التکلیف حال العجز ، إلی غیر ذلک من الأمثلة .
وظاهر : أنّ الشرط المتأخّر فی هذه المسائل ـ التی وقعت محطّ البحث عندهم وصارت معرکة الآراء ـ من شرائط متعلّق التکلیف ، لا شرائط موضوع التکلیف ؛ فإخراج البحث عمّا هو البحث والنزاع وعقد البحث فی أمر بدیهی یکون قیاسه معه ممّا یعجب المُلتفت المتدرّب ، کیف یصحّ أن یقال : إنّ الأعاظم والأکابر تنازعوا فی أمر بدیهی یکون قیاسه معه ؟ ! حاشاهم !
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 56
وبعبارة اُخری : الإشکال العقلی فی المقام ـ الذی أوقع الأعاظم فی حیص وبیص ـ إنّما هو فی تأخّر شرائط متعلّق التکلیف ، والتکلیف ، والوضع علیه ، ولا یکون الإشکال مخصوصاً بالشرط ، بل یجری فی الجزء أیضاً .
وحاصله : عدم معقولیة تأثیر الشیء المعدوم فی الأمر الموجود ؛ لأنّ صوم المستحاضة ـ مثلاً ـ قبل غسل اللیلة الآتیة إمّا أن یکون صحیحاً ، أو لا یکون صحیحاً إلاّ عند الغسل ؛ فعلی الأوّل فلأیّ شیء یقیّد بأمـر معـدوم ؟ وعلی الثانی یلزم تأثیر الغسل المعدوم فیه وإضافته إلیه واتّصافه بالصحّة بأمر معدوم ، مـع أنّه یکون لیساً .
وبالجملة : لا وجه لعقده قدس سره البحث فی أمر لم یکن محطّاً للنزاع بین الأعلام ویکون بدیهیاً قیاسه معه .
ثمّ إنّ ما ذکره فی الإضافات والعناوین الانتزاعیة فقد فرغنا عن أنّها لا یمکن انتزاعها عقلاً إذا کان طرف الإضافة معدوماً . نعم إن أراد انتزاعها عرفاً فهو کلام آخر خارج عمّا هم بصدده ؛ لأنّ ظاهر مقالاتهم یدلّ علی أنّهم بصدد تتمیم الأمر من ناحیة العقل ، کیف وقد عرفت منّا أیضاً جوازه بالنظر العرفی ؟ ! فلاحظ .
مضافاً إلی أنّه لم یدّع أحد کون الإضافات والعناوین الانتزاعیة محطّاً للبحث ، ولعلّه یظهر منه قدس سره أنّها کانت محطّاً للبحث ، ولم یتشبّث أحدٌ بها إلاّ للتخلّص عن الإشکال ، فتدبّر .
ثمّ إنّ ما ذکره فی الفرق بین القضیة الحقیقیة والخارجیة غیر صحیح ؛ لما عرفت منّا : أنّ القضیة الخارجیة لم تکن جزئیة ، بل من القضایا الکلّیة التی تقع کبری القیاس ، والحکم فی کلتا القضیتین تعلّق بالعنوان ، غایة الأمر فی القضیة الخارجیة
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 57
تعلّق الحکم بعنوان لا ینطبق إلاّ علی الموجودین فی الخارج ، بخلاف القضیة الحقیقیة ؛ فإنّه تعلّق الحکم فیها بعنوان ینطبق علی الموجودین فعلاً وما یوجد بعد أو وجد قبلاً . فحینئذٍ : لو تمّ ما ذکره فی الحقیقیة یجری أیضاً فی الخارجیة ؛ لوحدة الملاک ، فتدبّر .
ثمّ إنّ قوله : «إنّ المدار فی الخارجیة إنّما هو العلم بوجود ما یعتبر فی ثبوت المحمول ، لا الثبوت الواقعی» لیس بصحیح علی إطلاقه ؛ لأنّ کلاًّ من الحقیقة والخارجیة یتوقّف علی کلّ من الشرائط العلمیة والعینیة .
ومنشأ ما ذکره ملاحظة الأمثلة الجزئیة ، وإلاّ فلو قال الشارع ـ مثلاًـ : یعتبر فی صحّة صوم المرأة المستحاضة الخاصّة غسل اللیلة الآتیة ، تکون قضیة خارجیة ویتوجّه علیه الإشکال ، ولو أحرز المقنّن فی القضیة الحقیقیة : أنّ إکرام العالم ـ مثلاًـ حسن فیریده وینحدر البعث إلی من یکون تحت نفوذه وسیطرته ، وإن لم یکن فی الواقع حسناً ، فتدبّر .
هذا بعض ما یتوجّه علی مقالة هذا المحقّق قدس سره .
بقی بعض اعتراضات اُخر لا یهمّ التعرّض له ، فطوینا عنه کشحاً .
فظهر بما ذکرنا بطوله : أنّ محطّ البحث عند الأعلام والأساطین فی متعلّقات الأحکام ، وفی الأحکام الوضعیة والتکلیفیة ، وفی شرائط التکلیف . فإخراج متعلّقات الأحکام عن محطّ البحث وعقد البحث فی شرائط موضوع التکلیف ممّا لا وجه له ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 58