الجواب الحقیق عن الإشکال
قد أشرنا : أنّ منشأ وقوع هذا البحث والنزاع هو ما یترائی من وقوع الشرط المتأخّر فی التکلیف والوضع والمأمور به فی الشریعة المقدّسة :
فالأوّل : کما إذا کان العبد قادراً فی الغـد فقط علی إتیان فعل ، فیأمـره مولاه الیوم بإتیانه فی الغد ؛ فإنّه لا إشکال فی صحّة التکلیف کذلک مـع تأخّر القدرة عـن زمان التکلیف .
وأمّا الثانی : فلصحّة البیع الفضولی مع تأخّر وقوع الإجازة من المالک .
وأمّا الثالث : کصوم المستحاضة المأمور به فعلاً بشرط فعل أغسال اللیلة الآتیة . فأوقعهم فیما أوقعوا فیه ، کما أشرنا .
ولکن التحقیق فی حلّ الإشکال أن یقال :
أمّا فی شرائط التکلیف ـ کالقدرة المتأخّرة بالنسبة إلی التکلیف المتقدّم ـ فنقول : إنّ القدرة المعتبرة فی تکلیف المولی لیست هی القدرة الواقعیة ـ من غیر فرق بین التکالیف الجزئیة والخطابات الشخصیة ، أو التکالیف الکلّیة والخطابات القانونیة ـ لإتمام الموضوع للحکم ، بل ولا جزءه ، حتّی یتوهّم عدم صحّة التکلیف فیما لم تکن حال التکلیف موجودة ، وإنّما تحدث فی ظرف العمل ، کما فی المثال .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 45
بل المعتبر والشرط فی صحّة الخطابات الشخصیة إحراز المولی وتشخیصه قدرة العبد علی الفعل حال التکلیف ، کما فی المثال .
ویشهد لذلک الوجدان ؛ فإنّه أصدق شاهدٍ علی أنّه إذا علم وأحرز أنّ عبده قادر علی إتیان المکلّف به غداً ـ ولو بالجهل المرکّب ـ یریده منه حقیقةً وینحدر البعث نحوه ، وإن لم یکن قادراً واقعاً . وإذا کان العبد قادراً واقعاً ولکن لم یعلمه المولی ولم یحرزه لا یکاد یصدر من المولی الحکیم بعث نحوه .
فالقدرة الواقعیة غیر دخیلة فی صحّة التکلیف ؛ لا بعنوان تمام الموضوع ، ولا جزئـه .
وبالجملة : القدرة الواقعیة لیست شرطاً لصحّة التکلیف فی التکالیف الشخصیة ، بل الذی یکون شرطاً لها هو تشخیص المولی قدرة العبد علی المتعلّق وعلمه بالصلاح ، وعند ذلک یصحّ له الأمر الجدّی ، ویبعث العبد حقیقة نحوه .
نعم ، تنجّزه علی العبد مرهونة بقدرته علی إتیانه فی وقتـه ، فإذا لم یکن قادراً فی نفس الأمر لم یکن التکلیف منجّزاً فی حقّـه ؛ لعـدم إمکان انبعاثه ، ویکون التکلیف لغواً غیر مؤثّر . ولکنّه غیر القول بعدم وجود الإرادة الجدّیـة مـن المولی عند أمره وبعثه .
وبالجملة : إذا تبیّن عجز العبد فی ظرف الإتیان لا یکشف ذلک عن عدم الأمر والبعث الحقیقی فی موطنه ، بل یکشف ذلک عن خطأ المولی فی التشخیص ، وأنّ بعثه الحقیقی کان لغواً غیر مؤثّر .
فظهر : أنّ قدرة العبد واقعاً لم تکن شرطاً فی صحّة التکلیف ، بل المعتبر هو علم المولی واستحضاره قدرة العبد فی موطنه عند تکلیفه ؛ فلم یتأخّر الشرط عن مشروطه . هذا فی التکالیف الجزئیة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 46
وکذا الحال فی التکالیف الکلّیة القانونیة المتوجّهة إلی العناوین الکلّیة ، مثل : «أیّها الناس» و«أیّها المؤمنون» ؛ فإنّ تمشّی الإرادة والبعث الحقیقی من المقنّن هو تشخیصه کون خطابه صالحاً لانبعاث طائفة من المکلّفین کلّ فی موطنه ، من غیر لزوم تقییده بالقدرة وسائر الشرائط العقلیة . بل ربّما یوجب ذلک إخلالاً فی بعض الموارد . فشرط التکلیف حاصل حین تعلّق الأمر فی الخطابات القانونیة أیضاً .
وبالجملة : لم تکن قدرة آحاد المکلّفین معتبرة فی الخطابات القانونیة ، بل ولا تشخیص قدرتهم أیضاً ، بل المعتبر فی عدم لغویة الخطاب القانونی تشخیص المقنّن وعلمه بتأثیر القانون لأکثر الناس . وملاحظة وضع القوانین المدنیة والاجتماعیة أصدق شاهدٍ علی ما ذکرنا .
ولو لزم إحراز انبعاث جمیعهم فی جعل القوانین الکلّیة فربّما یلزم الإخلال والاغتشاش فی حکومته ؛ لأنّه کثیراً ما یری المقنّن أنّ أفراد حکومته لا یعملون بالقوانین ، ومع ذلک یضع القانون ، ولکنّه یقارنه بالتحدیدات والتعزیرات .
هذا إجمال المقال فی وضع القوانین الکلّیة ، وتفصیله یطلب من مبحث الترتّب .
وکیف کان : المعتبر فی وضع القوانین الکلّیة إحراز المقنّن إنبعاثهم أو انبعاث عدّة منهم وکون القانون صلاحاً لأکثرهم ؛ فشرط التکلیف حاصل حین تعلّق الأمر .
فظهر : أنّ شرط التکلیف فی التکالیف الجزئیة والتکالیف الکلّیة ـ وهو لحاظ قدرة العبد أو قدرة کثیر منهم ـ حاصل عند التکلیف ، من دون لزوم تأخّر الشرط عن مشروطه ، فتدبّر واغتنم .
هذا کلّه فی شرائط التکلیف .
وأمّا فی شرائط الوضع ، کإشکال اشتراط صحّة بیع الفضولی بالإجازة المتأخّرة عنه ـ علی القول بالکشف الحقیقی ـ بأنّه کیف یکون البیع حال وقوعه
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 47
صحیحاً ومؤثّراً ، مع أنّ شرطه ـ وهو إجازة المالک ـ متأخّرة عنه ؟
وکذا فی شرائط المأمور به ، کإشکال إشتراط صحّة صوم المستحاضة بأغسال اللیلة الآتیة ؛ بأنّه کیف یکون صومها صحیحاً ، مع اشتراطها بأمر متأخّر ؟
فالجواب الحقیقی عنهما بأحد وجهین : أحدهما من ناحیة حکم العقل ، والثانی من ناحیة الفهم العرفی :
الوجه الأوّل ـ وهو الجواب عن الإشکال ـ من ناحیة حکم العقل ـ ولیعلم أوّلاً : أنّا لا نرید تصحیح الشرط المتأخّر ، بل هو باقٍ علی محالیته ، وغایة همّنا هو رفع الإشکال العقلی عن حریم الأدلّة الموهمة لاعتبار الشرط المتأخّر حتّی یصحّ الأخذ بها . ولا یجوز طرحها بزعم مخالفتها لحکم العقل ، وإن کان ما نذکره فی هذا الوجه مخالفاً لظواهر الأدلّة .
إذا تمهّد لک هذا فنقول : فرق بین صدق عنوان المتقدّم علی شیء ، وبین کونه متقدّماً بحسب الواقع ؛ لأنّ عنوان التقدّم والتأخّر من المفاهیم ذات الإضافة ، تنتزعان فی عرض واحد ، ولا یعقل انتزاع عنوان التقدّم بدون انتزاع عنوان التأخّر . ولکن لا یلزم من ذلک کون شیء متقدّماً بحسب الواقع .
ألا تری أنّ العلّة متقدّمة علی معلولها ، ولکن مع ذلک لا ینتزع عنوان العلّیة والمعلولیة إلاّ بعد وجود المعلول وترشّحه من العلّة ؟ ! ومع وجود المعلول ینتزع عنوانی العلّیة والمعلولیة فی رتبة واحدة .
وبالجملة : إذا کان بین العنوانین نسبة التضائف لا یلزم من ذلک أن یکون مصداق المعنی الإضافی أیضاً إضافیاً ؛ ضرورة أنّ عنوانی العلّیة والمعلولیة متضائفان تنتزعان فی رتبة واحدة ، ومع ذلک لا یکون ما ینطبق علیه العنوانان إضافیاً ، بل من مقولة الجوهر ، بل ربّما یکون أعلی منه ، کذات الباری تعالی بالنسبة إلی سائر
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 48
الموجودات . وإن کان مع ذلک فی خواطرک ریب وشبهة ، فلاحظ الضدّین ؛ فإنّ النسبة بین ذاتی الأسود والأبیض نسبة التضادّ ، مع أنّ عنوان التضادّ من الاُمور المتضائفة .
وبعبارة اُخری : السواد والبیاض ضدّان مقابل المتضائفین ، لکن عنوان الضدّیة من التضائف وذاتهما ضدّان ، فتدبّر .
فإذن نقول : إنّ الزمان بهویته الذاتیة لها تصرّم وتدرّج ، بحیث لا یتمتع زمانان ، بل لبعضها تقدّم علی بعض ، بحیث یکون کلّ من التقدّم والتأخّر عین ذاته ـ ویعبّر عنه فی الاصطلاح بواقع التقدّم ـ کان فی الخارج عناوین إضافیة ، أم لا .
وبالجملة : أنّ الزمان مع قطع النظر عن لحاظ اللاحظ له نحو تصرّم وتجدّدٍ وتقدّم وتأخّر بواقع التقدّم ، لا مفهوم التقدّم والتأخّر .
فزمان نوح ـ علی نبینا وآله وعلیه السلام ـ مقدّم علی زماننا هذا بواقع التقدّم ، ومع ذلک لا یصدق علیه مفهوم التقدّم ؛ لما أشرنا أنّ عنوانی التقدّم والتأخّر إضافیان ، لا یصحّ انتزاع أحدهما إلاّ فی رتبة انتزاع الآخر . فانتزاع عنوان القبلیة لزمان نوح علیه السلام لا یصحّ حقیقة ؛ لأنّ منشأ الانتزاع ـ وهو تلک القطعة الموهومة ـ قد تصرّمت وانعدمت ، نعم یصحّ اتّصافه بها عرفاً .
والحاصل : أنّ للزمان سعة طولیة ، کما أنّ للمکان سعةً عرضیـة ، بحیث یتصرّم ویتدرّج أجزاؤه وهماً ، فیکون لبعضها تقدّم علی بعض وتأخّر ، بواقع التقدّم والتأخّر ، لا بمفهوم التقدّم والتأخّر ؛ لأنّه إذا لم یکن طرف الشیء موجوداً کیف یصحّ انتزاع العنوان ؟ !
نعم ، یمکن تخیّلاً تصوّر المتقدّم والمتأخّر ، ولکن ذلک لا یکون حقیقیاً ، بل تخیّلیاً ، ومحلّ الکلام فی الاتّصاف الحقیقی الخارجی . هذا حال الزمان .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 49
وأمّا الزمانیّات : فحیث إنّ وقوعها فی الزمان لیس مثل المظروف والظرف المنحازین ، بل لها نحو اتّحاد مع الزمان ـ کما تقرّر فی محلّه ـ فعلی هذا : لبعض الحوادث الموجودة فی الزمان ـ بتبع الزمان ـ تقدّم علی بعض الحوادث الاُخر بواقع التقدّم ، ولکنّه عرضاً وبتبع الزمان . فنوح ـ علی نبینا وآله وعلیه السلام ـ مقدّم علینا بواقع التقدّم عرضاً ، کما أنّه یتقدّم شخص علی آخر بواقع التقدّم بتبع المکان .
ولا یخفی : أنّ هذا إنّما یتحقّق إذا لم تنحصر الحادثة ، بل وقعت حادثة اُخری ، وإلاّ لو انحصرت الحادثة به لا تکون لها تقدّم بواقع التقدّم .
وبالجملة : الغَزوة ـ مثلاً ـ إنّما تکون أوّلیاً إذا وقعت بعدها غَزوة اُخری ، وإلاّ لا تکون أوّلیاً . فوجود الشیء متأخّراً دخیل فی کون شیء متقدّماً بواقع التقدّم علیه .
وإن شئت مزید توضیح فنقول : إنّ یوم الجمعة مقدّم علی یوم السبت بواقع التقدّم إذا وجد یوم السبت بعده ، وإلاّ لم یکن لیوم الجمعة تقدّم علی یوم السبت . وتقدّم الحوادث الواقعة فی الزمان بعضها علی بعض أیضاً کذلک ، فتدبّر .
إذا تمهّد لک مـا ذکرنا فنقول : یمکن التخلّص عـن الإشکال بجعل موضوع الحکم الوضعی أو المکلّف به ، هو ما یکون متقدّماً بحسب الواقع علی حادث خاصّ . فالعقد الفضولی الذی هو متقدّم بتبع الزمان علی الإجازة تقدّماً واقعیاً موضوع للنقل والانتقال ، ولا یکون مقدّماً علیها بواقع التقدّم التبعی إلاّ أن تکون الإجازة متحقّقة فـی ظرفها .
کما أنّ تقدّم الحوادث الیومیة علی الحوادث الآتیة إنّما تکون بواقع التقدّم التبعی ، لا علی ما لم یحدث بعدُ من غیر أن تکون بینها إضافة ، کما عرفت .
وکذا موضوع الصحّة فی صوم المستحاضة ما یکون متقدّماً تقدّماً واقعیاً تبعاً للزمان ، علی أغسال اللیلة الآتیة . والتقدّم الواقعی علیها لا یمکن إلاّ مع وقوع
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 50
الأغسال فی ظرفها ، ومع عدم الوقوع یکون الصوم متقدّماً علی سائر الحوادث فیها ، لا علی هذا الذی لم یحدث ، والموضوع هو المتقدّم علی الحادث الخاصّ .
وبما ذکرنا یندفع جمیع الإشکالات ، والغرض من إتعاب النفس ـ کما أشرنا ـ هو تصحیح الأدلّة التی دلّت علی اشتراط أمر استقبالی فی شیء سابق والفرار عن الإشکال العقلی بوجه معقول ، لا تصحیح الشرط المتأخّر ، بل هو باقٍ علی محالیته ، ولا استظهار الحکم من الأدلّة .
الوجه الثانی : وهو الجواب عن الإشکال من ناحیة الفهم العرفی، وحاصله : أنّ هـذه التدقیقات العقلیـة ممّا لا تنالها الأفهام العرفیـة التی تـدور علیها الفقـه والفقاهـة ، ولابدّ مـن حمل الأخبار الواردة علی المتفاهم العرفی ، وإن کان مخالفاً للتدقیقات العقلیة .
ولذا لو وقعت قطرة دم ـ مثلاً ـ علی ثوب ، فاغتسل الثوب ، فبقی أثر الدم علی الثوب ، لا یری العرف أنّ الأثر الباقی علی الثوب دم ، بل أثر الدم ، مع أنّ الفیلسوف یری أنّ الدم باقٍ بعد ؛ لأنّه اُقیم البرهان فی محلّه علی أنّ العرض لا یوجد بدون الموضوع ؛ فالأثر الباقی بعد الغسل عنده إنّما هو ببقاء الأجزاء الدمیة . ولذا تراهم یحکمون بطهارة الثوب عند ذلک ؛ لعدم بقاء الدم عندهم ، مع بقائه عند الفیلسوف .
وبالجملة : الخطابات الشرعیة لا تنزّل علی التدقیقات الفلسفیة ، وإنّما تنزّل علی المتفاهمات العرفیة ، فلابدّ وأن تحمل علیها .
وحیث إنّ العرف فیما نحـن فیه کما یری صحّـة إضافـة الشیء إلی المقارن ، کـذلک یری صحّـة إضافته إلی المتقدّم والمتأخّـر ، کما یری تقدّم الـزمان الماضی علـی الـزمان الحال والاستقبال بعنوانـه ، وتأخّـر زمـان الاستقبال عـن الحـال والماضی کذلک .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 51
وبالجملة : لا یری العرف فی صحّة صدق العنوان لزوم وجود طرف الإضافة ، والخطابات الشرعیة منزّلة علی المتفاهم العرفی .
فیکون موضوع النقل والانتقال العقد المتعقّب بنظره والصوم المتعقّب کذلک ، ولو کان العقل لا یساعد علیه والبرهان یضادّه ، کما هو الحال فی سائر الموضوعات الشرعیة . فیصحّ البیع الفضولی المتعقّب بالإجازة المتأخّرة . وکذا یصحّ صوم المستحاضة المتعقّب بأغسال اللیلة الآتیة .
فعلیه : یکون الشرط فی صحّة البیع الفضولی المتعقّب بالإجازة وفی صحّة صوم المستحاضة المتعقّب بأغسال اللیلة الآتیة شرطاً مقارناً ، وهذا الوجه یرجع إلی ما ذهب القوم ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 52