کلام المحقّق العراقی لدفع الإشکال فی الشرط المتأخّر
وممّن تصدّی لذلک : المحقّق العراقی قدس سره ؛ فإنّه قال :
قد وقع الخلاف بین أهل النظر فی جواز عدم مقارنة الشرط للمشروط به ؛ فذهب جمهور الفلاسفة إلی لزوم مقارنة الشرط للمشروط به وامتناع تقدّمه علیه أو تأخّره عنه . وفصّل بعضهم بین الشروط التکوینیة والشروط التشریعیة ؛ فوافق الفلاسفة فی الأوّل وخالفهم فی الثانی .
واحتجّ المانع بأنّ الشرط من أجزاء العلّة التامّة ، ومن الضروری عدم جواز انفکاک العلّة التامّة عن معلولها أو انفکاکه عنها ـ سواء کان ذلک بتقدّم العلّة علیه أم بتقدّمه علیها ـ وجواز تقدّم الشرط علی المشروط وتأخّره عنه یستلزم ذلک ، ومستلزم الممتنع ممتنع ، کما لا یخفی .
إلی أن قال ما حاصله : الحقّ إمکان تقدّم الشرط علی المشروط به وتأخّره عنه مطلقاً ؛ سواء کان الشرط تکوینیاً أو تشریعیاً .
وذلک لأنّه لا ریب فی امتناع انفکاک ما یترشّح عن العلّة عنها ؛ لأنّ جواز ذلک یستلزم جواز تأثیر المعدوم فی الموجود ، وهو مساوق لجواز وجود الممکن لا عن علّة ، هذا .
وحیث إنّ المقتضـی للتأثیر فـی المعلول لیس نـوع المقتضی وطبیعتـه ، بل حصّـة خاصّـة منه ، مثلاً لـم یکن نوع النار مؤثّراً ومقتضیاً فی الإحـراق الخارجی ، بل المؤثّـر منها هـی حصّـة خاصّـة منها ؛ وهـی النار التـی تماسّ الجسم المستعـدّ بالیبوسـة لقبول الاحتراق .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 41
فالمؤثّر إنّما هی الحصّة المتحصّصة بالخصوصیة ، وواضح : أنّ الحصّة الکذائیة لابدّ لها من محصّل فی الخارج ، فما به تحصّل خصوصیة الحصّة المقتضیة یسمّیٰ شرطاً ، والخصوصیة المزبورة عبارة عن نسبة قائمة بتلک الحصّة المقتضیة حاصلة من إضافة الحصّة المزبورة إلی شیء ما ، وذلک الشیء المضاف إلیه هو الشرط . فالمؤثّر فی المعلول هو نفس الحصّة الخاصّة ، والشرط محصّل لخصوصیتها ، وهو طرف الإضافة المزبورة .
وما یکون شأنه کذلک جاز أن یتقدّم علی ما یضاف إلیه أو یقترن به أو یتأخّر عنه ، هذا فی الشرط التکوینی .
وکذلک الکلام فی شرط الـمکلّف به أو شرط التکلیف ، بل هـو أولی ؛ فنقول : إنّ ذات الصوم ـ مثلاً ـ لم تکن مؤثّرة تأثیراً شرعیاً ، بل المؤثّر منها حصّة خاصّة منـه ؛ وهی الحصّة الـمضافة إلی غسل اللیلة الآتیة ، وکذا فی شرط التکلیف ، انتهی ملخّصاً .
وفیه مواقع للنظر :
منها : أنّه لا مجال لإسراء أمر المقام إلی التکوین ؛ لأنّ المقتضی والمؤثّر التکوینی هو نحو وجود للشیء بحیث یکون تقیّده وتشخّصه بعلل وجوده ومبادئه الحقیقیة ، ولا یکون تشخّصه بالإضافات والاعتبارات المتأخّرة عنه ؛ فما هو المؤثّر فی التکوین لیست الحصّة الحاصلة بالإضافة إلی المقارن ولا إلی غیره ، بل المؤثّر نحو وجوده المتشخّص من ناحیة علله الفاعلی ، أو هو مع ضمّ القابل إذا کان مادّیاً .
فالنار ـ مثلاً ـ بوجودها مؤثّرة لإحراق ما وقعت فیه بما هو قابل للاحتراق ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 42
من غیر أن یکون الوقوع والتماسّ وقابلیه التأثّر ونحوها محصّلات للحصّة المتأثّرة . نعم بعد وجودها تکون لها إضافة إلی هذا الشیء أو ذاک الشیء ، إلی غیر ذلک .
وبالجملة : المؤثّر فی العلل التکوینیة هو نحو وجود الشیء المتشخّص بمبادئ حقیقیة ، لا بالإضافات والاعتبارات المتأخّرة عنه .
وما ذکرنا وإن کان واضحاً لا یحتاج إلی مزید بیان ، ولکن مع ذلک : الحقیق بنا عدم مقایسة المقام بالتکوین وأن لا نَحُوم حول التکوینیات وإیکال أمرها إلی أهله ومحلّه .
ومنها : أنّ ما ذکره قدس سره وأیّده بالمثال لم یکن المؤثّر هی الحصّة ، بل الفرد ؛ فإنّ النار التی تماسّ الجسم المستعدّ للاحتراق هی الفرد منها ، لا الحصّة ، کما سبق مکرّراً ، فتدبّر .
ومنها : أنّ الإضافة والتضایف بین الشیئین لابدّ وأن یکونا موجودین فعلاً إن کان المتضایفان موجودین فعلاً ، أو قوّة إن کانا موجودین قوّة . وأمّا إذا لم یکن الطرفین أو أحدهما موجوداً فلا یمکن تحقّق الإضافة ، ألا تری أنّ الاُبوّة لا تحصل إلاّ بعد حصول الابن خارجاً ؟ !
فعلی هذا لا یمکن أن تکون الإضافة إلی أمر معدوم محصّل الحصّة .
وبالجملة : الإضافة الفعلیة تستلزم تحقّق الطرفین فعلاً ، کما تجد ذلک فی الاُبوّة والبنوّة الفعلیین ؛ فإنّهما یستلزمان وجود الأب والابن فعلاً .
ففیما نحن فیه حیث لم یکن المضاف إلیه موجوداً لا یعقل صدق الإضافة ؛ فلا معنی لأن یقال : إنّ صوم المستحاضة مضاف إلی الغسل الذی لم یوجد بعد ، وإنّ البیع الفضولی له إضافة إلی الإجازة التی لم تکن موجودة بعد .
إن قلت : نفرض وجود المضاف إلیه فی الذهن ؛ فتصحّ الإضافة إلیه .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 43
قلت : نعم یکفی ذلک فی تحقّق الإضافة الفرضیة والتخیّلیة ، لا الإضافة الواقعیة ، ومؤثّریة الشیء إنّما هی واقعیة لا فرضیة ، فتدبّر .
ومنها : أنّ ما ذکره أخیراً ـ من أنّ شرائط التکلیف کالقدرة دخیلة فی اتّصاف الشیء بکونه صلاحاً ـ خلط بین الشرط الشرعی والشرط العقلی ؛ ضرورة أنّ ما هو دخیل فی المصلحة وفی ملاک الحکم هی الشرائط الشرعیة ، وأمّا القدرة ـ التی هی شرط عقلی ـ فغیر دخیلة فی اتّصاف المتعلّق بالمصلحة وفی ملاک الحکم ؛ فإنّ فی إنقاذ المؤمن الموحِّد من الغرق والهلاک کلّ الصلاح ؛ قدر علیه المکلّف أم لا .
وقریب من مقالة هذا المحقّق قدس سره ما ذهب إلیه المحقّق الخراسانی قدس سره فی شرائط المأمور به ؛ فإنّه أراد تصحیح المطلب فی شرائط المأمور به من طریق الإضافة ، فقال : کون شیء شرطاً للمأمور به لیس إلاّ ما یحصل لذات المأمور به بالإضافة إلیه وجه وعنوان به یکون حسناً ، أو متعلّقاً للغرض ، بحیث لولاها لما کان کذلک .
فکما تکون إضافة شیء إلی مقارن له موجباً لکونه معنوناً بعنوان یکون بذلک العنوان حسناً ومتعلّقاً للغرض ، فکذلک إضافته إلی متقدّم ومتأخّر تکون حسناً ومتعلّقاً للغرض ، انتهی ملخّصاً .
یظهر ضعفه ممّا ذکرنا فی مقالة تلمیذه المحقّق العراقی قدس سره .
کما یظهر ضعف ما عن صاحب «الفصول» قدس سره فی الجواب عن الإشکال ؛ من أنّ الشرط إنّما هو العناوین الانتزاعیة ـ یعنی عنوانی التعقّب والتقدّم ـ وهی کانت حاصلة عند تحقّق الموضوع بعد العلم بوجود المتعقّب والمتأخّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 44
وکذا یظهر ضعف ما هو علی هذا المنوال ، کالقول بأنّ الشرط فی صحّة العقد الفضولی هو عنوان تعقّب العقد بالإجازة ، وهو حاصل عند تحقّق العقد .
والسرّ فی ذلک کلّه هو : أنّ العناوین وإن کانت انتزاعیة ، لا یمکن أن تکون حاصلة بالفعل عند تحقّق الصوم والعقد ـ مثلاً ـ فإنّ الإجازة أو غسل اللیلة الآتیة معدومة حین العقد والصوم .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 45