منها : تقسیمها إلی الداخلیة والخارجیة
تنقسم المقدّمة إلی المقدّمة الداخلیة والخارجیة ، والمراد بالمقدّمات الداخلیة هی الاُمور التی یترکّب منها المأمور به ، ولها دخل فی ماهیته وحقیقته ، وهی لیست إلاّ الأجزاء . کما أنّ المراد بالمقدّمات الخارجیة هی الاُمور الخارجة عن حقیقة المأمور به . ولکن لا یکاد یتحقّق المأمور به بدون واحد منها .
اختلفوا فی وقوع المقدّمات الداخلیة فی محطّ البحث ، بعد اتّفاقهم علی کون المقدّمات الخارجیة داخلة فیه .
والحقّ : أنّ کلاًّ من المقدّمات الخارجیة والداخلیة داخلة فی محطّ البحث ، ویکون فیهما ملاک البحث .
ولکن ربّما قیل باختصاص البحث بالمقدّمات الخارجیة وخروج المقدّمات الداخلیة عن محطّ البحث ؛ لأنّ المقدّمة عبارة عمّا یتوقّف علیه ذو المقدّمة ؛ فلابدّ وأن تکون متقدّمة علیه . والمقدّمات الداخلیة التی هی أجزاء المرکّب لیست کذلک ؛ لأنّ المرکّب لیس إلاّ نفس الأجزاء بالأسر ، فیلزم تقدّم الشیء علی نفسه ، مع أنّه یستلزم اجتماع المثلین ، وهو محال .
تصدّی المحقّق الخراسانی قدس سره فی «الکفایة» لدفع الإشکال بأنّ المقدّمة هی نفس الأجزاء بالأسر وذا المقدّمة هی الأجزاء بشرط الانضمام . وبالجملة : المقدّمة هی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 20
الأجزاء لا بشرط وذو المقدّمة هی الأجزاء بشرط الاجتماع ؛ فتحصل المغایرة الاعتباریة بین المقدّمة وذیها ، وهذا المقدار من المغایرة یکفی فی ذلک ، نظیر المغایرة الاعتباریة بین المادّة والصورة ، وبین الجنس والفصل .
ولکن ربّما نوقش فیما أفاده قدس سره : بأنّ مقتضی ذلک کون مقدّمیة المقدّمة اعتباریة لا حقیقیة ، مع أنّه لا ینبغی الإشکال فی أنّ مقدّمیة المقدّمة وتقدّمها علی ذی المقدّمة حقیقی لا اعتباری .
مع أنّه لم یندفع بما أفاده مشکلة اجتماع المثلین ؛ لتعلّق إرادتین علی شیء واحد حقیقی ، وهو إمّا مستحیل أو یکون إحدی الإرادتین لغواً ، وهی من المولی الحکیم مستحیل .
ولیعلم : أنّ منشأ هذه المطالب والتکلّفات هو تخیّل کون المقدّمة نفس الأجزاء . ولکن الذی یقتضیه الذوق السلیم ویحکم به الوجدان ویعاضده البرهان هو عدم کون الأجزاء بالأسر مقدّمة حتّی یشکل فی عینیتها لذی المقدّمة ؛ فیتکلّف فی دفعه بالمغایرة الاعتباریة ، بل کلّ جزءٍ جزءٍ من أجزاء المرکّب مستقلاًّ مقدّمة ، بحیث إذا کان للواجب عشرة أجزاء ـ مثلاً ـ یکون له عشر مقدّمات .
وبعبارة أوضح : لیس للواجب المرکّب من أجزاء مقدّمة واحدة ـ وهی الأجزاء بالأسر ـ بل هناک مقدّمات بعدد الأجزاء ، بحیث یکون کلّ جزء منه مقدّمة برأسه ، وفی کلّ واحد منها ملاک الغیریة . وواضح : أنّ الجزء یغایر الکلّ الاعتباری والمرکّب فی وعاء الاعتبار .
ولتوضیح هذا الأمر لابدّ من ملاحظة الإرادة الفاعلی والتکوینی فی المرکّبات
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 21
الاعتباریة والصناعیة لیتّضح حال الإرادة الآمری والتشریعی .
ولا یخفی : أنّ المرکّبات وإن کانت علی أقسام ، إلاّ أنّ محطّ البحث منها فی مقدّمة الواجب إنّما هو المرکّب الاعتباری ـ الذی یعبّر عنه بأنّه شیء مع شیءـ ویمکن جریان البحث فی المرکّب الصناعی أیضاً ـ الذی یعبّر عنه بأنّه شیء لشیء مع شیء ـ وأمّا المرکّب الحقیقی فخارج عن محطّ البحث .
فینبغی أوّلاً الإشارة الإجمالیة إلی المراد من أقسام المرکّب ، ثمّ الورود فیما هو محطّ البحث :
فنقول : المرکّب علی قسمین : حقیقی أو غیر حقیقی .
والـمراد بالـمرکّب الحقیقی هو الـمرکّب من الجنس والفصل ، والمادّة والصورة . والمرکّب الحقیقی بأقسامه خارج عن محطّ البحث بالاتّفاق ؛ لأنّ الجنس والفصل من الأجزاء التحلیلیة العقلیة ، ولا وجود لها فی الخارج . والمادّة والصورة فإن کانتا موجودتین فی الخارج ، إلاّ أنّه لا امتیاز بینهما وبین المرکّب منهما لیتوقّف علیهما ، وهو واضح .
والمراد بالمرکّب غیر الحقیقی هو الملتئم من أشیاء متخالفة واُمور متباینة ، وهو علی قسمین :
الأوّل : المرکّب الصناعی ؛ وهو المؤلّف من اُمور متعدّدة ملتئمة ومجتمعة علی نحو مخصوص ، بحیث یکون للمرکّب نحو وحدة وعنوان واحد واسم مخصوص مع قطع النظر عن اعتبار المعتبر ، کالمسجد والبیت ، ومنه المعاجین والأدویة المرکّبة بالصناعة .
الثانی : المرکّب الاعتباری ؛ وهو المؤلَّف من اُمور متعدّدة ملحوظة بنظر الوحدة بلحاظ مدخلیتها بتمامها فی حصول غرض واحد ومصلحة واحدة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 22
وبعبارة اُخری : المرکّب الاعتباری هو ما یکون ترکّبه ووحدته بحسب الاعتبار ، کالفوج من العَسکر والعشرة ، ومنه الماهیات الاختراعیة ، کالصلاة والصوم والحجّ ونحوها ؛ فإنّها مرکّبات اعتباریة جعلیة .
وذلک لأنّ الفوج من العسکر ألفاً أو عشرة آلاف ـ مثلاً ـ إنّما هو بحسب الجعل والاعتبار . والعشرة مع قطع النظر عن اعتبار الوحدة لیست إلاّ الوحدات المستقلاّت . وهکذا الأمر فی الصلاة والصوم والحجّ وغیرها من الماهیات المخترعة ؛ فإنّ الوحدة فیها لیست إلاّ بحسب الجعل والاعتبار ، ومع قطع النظر عن الاعتبار فهی وحدات عدیدة مستقلّة .
ثمّ إنّ الغرض قد یکون قائماً بوجود کلّ واحد من أشخاص أو أشیاء مستقلّة ، من غیر ارتباط بین الوحدات ، کمن کان له عدّة أصدقاء یشتاق لقاء کلّ واحد منهم مستقلاًّ ، من غیر ارتباط بعضهم ببعضٍ ، فعند تصوّر کلّ واحد یرید لقاءه بإرادة مستقلّة . فقد لا یکون اجتماعهم مورداً لعلاقته وإرادته ، بل ربّما یکون اجتماعهم مبغوضاً عنده .
وقد یکون قائماً بالمجموع لا بالأفراد ، کمن یرید فتح بلد لا یمکن فتحه إلاّ بفوج من العسکر ، فعند ذلک لا یکون کلّ واحد منه مراداً له ولا متعلّقاً لغرضه ، بل الغرض إنّما یکون قائماً بالفوج ، فیتصوّره ویشتاقه ویرید إحضاره . ففی هذا اللحاظ تکون الآحاد مندکّة فانیة فی الفوج ، ولا یکون کلّ واحد مشتاقاً إلیه ، ولا تتعلّق به إرادة نفسیة ؛ لفرض عدم حصول الغرض به .
نعم ، لو تصوّر کلّ واحدٍ واحدٍ من العسکر ورأی توقّف الفوج علی وجود کلّ واحد منهم ، أراده لأجل غیره لا لنفسه ؛ ففی کلّ واحد منهم ملاک الغیریة لا النفسیة ، کما أنّ فی الفوج ملاک النفسیة لا الغیریة .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 23
فکلّ واحد منهم مقدّمة ، ویتوقّف علیه عنوان الفوج بالاستقلال ، ولا یکون الاثنان منهم أو الثلاثة وهکذا مقدّمة ، ولا فیها ملاک الإرادة الغیریة . فهناک إرادة نفسیة واحدة متعلّقة بفوج من العسکر ، وإرادات غیریة متعلّقات بعدد الأفراد .
وبالجملة : هاهنا أمران :
أحدهما : الفوج من العسکر الذی یراه والی الأمر فاتحاً للبلد ، ففیه ملاک الإرادة النفسیة لا غیر .
ثانیهما : کلّ واحدٍ واحدٍ من الفوج وفی کلّ واحد منهم ـ لتوقّف الفوج علیه ـ ملاک الإرادة الغیریة .
وأمّا فی الاثنین منهم أو الثلاثة منهم وهکذا سائر الترکیبات الاعتباریة فلیس فیها ملاک الإرادة ؛ لا النفسی منها ، وهو واضح ، ولا الغیری ؛ لعدم توقّف الفوج علیها زائداً علی توقّفه علی کلّ واحد منهم .
ولا یخفی : أنّ الغرض فی المرکّبات الاعتباریة قائم بالمجموع الخارجی ـ کالفوج من العسکر فی المثال المذکور ـ لا بالاعتبار الذهنی ، ولا بکلّ فردٍ فردٍ من أفراد العسکر فی المثال ؛ فیکون متعلّق الغرض مقدّماً علی لحاظ الوحدة ، وعلی الأمر المتعلّق به . هذا فی المرکّبات الاعتباریة .
وأوضح من ذلک المرکّبات الصناعیة التی لها وحدة عرفیة وترکّب صناعی ، کالمسجد والبیت ونحوهما . فإذا کان الغرض قائماً بمرکّب صناعی ، کالمسجد بلحاظ ما ورد مثلاً : «أنّ من بنی مسجداً کمفحص قطاة بنی الله له بیتاً فی الجنّة» ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 24
فیلاحظ أوّلاً عنوان المسجد ، وفی ذلک اللحاظ لا تکون أجزاء المسجد ـ من الأخشاب والأحجار واللبنات وغیرها ـ ملحوظة ، بل مُندکّة فیه . فالمسجد متعلّق لإرادته النفسیة ، ولیس فیه ملاک الإرادة الغیریة .
نعم إذا رأی توقّف تحقّق المسجد فی الخارج علی کلّ من الأحجار واللبنات والأخشاب وغیرها ، یریدها لأجل بناء المسجد ، ویکون فیها ملاک الغیریة لا النفسیة .
وبالجملة : فی المسجد ـ مثلاً ـ ملاک النفسیة ، فیریده مستقلاًّ وفی کلّ واحد من أجزائه ملاک الغیریة ، فیریدها لأجل تحصیل المسجد . فعند إرادة بناء المسجد تحصل له إرادات کثیرة بعدد الأحجار واللبنات والأخشاب وغیرها .
نعم ، لم تکن تلک الإرادات أصلیة مستقلّة بنفسها ، بل غیریة بلحاظ توقّف بناء المسجد علی وضع کلّ واحد من الأحجار واللبنات والأخشاب وغیرها علی وضع مخصوص وکیفیة خاصّة .
فقد ظهر لک : عدم اجتماع المثلین فی المرکّبات الاعتباریة والصناعیة ؛ لأنّ الواجب نفساً وما تعلّق به الإرادة النفسیة هو المجموع المرکّب ، والواجب مقدّمةً ، وما تعلّق به الإرادة الغیریة هو کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء .
هذا ما یقتضیه الوجدان فی المرکّبات الاعتباریة والصناعیة ، وهو أصدق شاهدٍ ودلیل فی أمثال هذه المباحث .
إذا عرفت کیفیة تعلّق الإرادة الفاعلیة فی المرکّبات الاعتباریة والصناعیة ، یظهر لک حال الإرادة الآمریة ؛ لأنّ الکلام فیها هو الکلام فیها ؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بما له وحدة اعتباریة فی المرکّب الاعتباری ـ کالصلاة مثلاً ـ أو وحدة صناعیة فی المرکّب الصناعی ـ کالمسجد ـ ملازمة لإرادة ما یراه مقدّمة ، وهی کلّ واحدٍ واحدٍ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 25
من الأجزاء ؛ لتوقّف المرکّب علیها ، من غیر فرق فی ذلک بین المقدّمات الخارجیة والداخلیة ؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه .
ولیس الأجزاء بالأسر واجباً فی قبال کلّ واحد من الأجزاء ، کما توهّمه المحقّقون ، کالشیخ والخراسانی والنائینی والعراقی وغیرهم ـ قدّس الله أسرارهم ـ فوقعـوا فی حیص وبیص فی ذلک ؛ فقد أنکر بعضهم ـ من أجل ذلک ـ کون المقدّمات الداخلیة داخلة فی محطّ البحث ، وتشبّث بعضهم فی دخولها فیه ، بلحاظ اختلاف الأجزاء بالأسر مع المرکّب اعتباراً ، مع أنّه لم یمکنهم دفع مشکلة اجتماع المثلین .
مع أنّک قد عرفت بما لا مزید علیه : أنّه لم یکن للأجزاء ملاک المقدّمیة ، ولا تحقّق لها فی الخارج مضافاً إلی کلّ جزءٍ جزءٍ ، بل کلّ واحـد من الأجزاء مقدّمـة ، وهو غیر المرکّب حقیقـة ، لا اعتباراً ؛ لأنّ المجموع المرکّب مـن حیث المجموع شیء غیر کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء وجوداً واعتباراً ولحاظاً ؛ فالموقوف غیر الموقوف علیه .
فظهر وتحقّق ممّا ذکرنا : أنّ کلاًّ من المقدّمات الخارجیة والداخلیة حیث یکون فیها ملاک البحث یکون محطّ البحث .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 26
ذکر وتعقیب
ثمّ إنّ المحقّق العراقی قدس سره تصدّی لخروج المقدّمات الداخلیة عن محطّ البحث بذکر إشکالات علی دخولـها فیه ، ثمّ ذکر تحقیقاً فی المسألة . ولکن لا یخلو ما أفاده من النظر ، وبعض ما ذکره لا یخلو عن تناقض :
فبعد أن قال قدس سره : إنّ الحقّ أنّ أجزاء الماهیة بجمیع أقسامها خارجة عن حریم البحث ، وبعد أن ذهب إلی أنّ الجزئیة والکلّیة لا یصحّ انتزاعهما من المرکّب الاعتباری المؤتلف من عدّة اُمور متباینة إلاّ بالإضافة إلی الوحدة الاعتباریة التی صارت تلک الاُمور المتباینة شیئاً واحداً بالاعتبار .
قال : إنّ مطابق ـ بالفتح ـ هذا الواحد الاعتباری ربّما تکون له هیئة فی الخارج تجعله واحداً حسّیاً یشار إلیه بإشارة واحدة ، کالسریر والدار ، وربّما لا تکون له هیئة کذلک ، کالحجّ وشبهه من المرکّبات الجعلیة .
إلی أن قال : إنّ الوحدة الاعتباریة علی نحوین :
فقد یکون فی الرتبة السابقة علی الأمر وفی ناحیة متعلّقه ؛ بأن یعتبر عدّة اُمور متباینة شیئاً واحداً بلحاظ تحصیلها لغرض واحد ، فیوجّه أمره إلیه .
وقد یکون فی الرتبة اللاحقة ، بحیث تنتزع من نفس الأمر بلحاظ تعلّقه بعدّة اُمور ؛ فیکون تعلّقه بها منشأ لانتزاع الوحدة الملازمة لاتّصافها بعنوانی الکلّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 27
والأجزاء ، کما کانت الوحدة فی الرتبة السابقة مستلزمة لاتّصاف المتعلّق بالعنوانین المزبورین .
ثمّ قال : إنّ ما یکون محلّ النزاع هو ما إذا کانت الوحدة الاعتباریة فی الرتبة السابقة علی الأمر . وأمّا الوحدة الطارئة فی الرتبة المتأخّرة عن الأمر فلا یکون محلاًّ للبحث ؛ لعدم تعقّل ترشّح الوجوب من الکلّ إلی الأجزاء بملاک المقدّمیة ؛ لأنّ الجزئیة والکلّیة الملزومتین لهذه الوحدة ناشئة من الأمر حسب الفرض ؛ فتکون المقدّمة فی الرتبة المتأخّرة عن تعلّق الأمر بالکلّ ، ومعه لا یعقل ترشّحه علی الأجزاء ؛ لأنّ الأمر الغیری إنّما یتعلّق بما یکون مقدّمة مع الغضّ عن تحقّق الأمر ، ولا یمکن تعلّقه بما لا تکون مقدّمة فی الرتبة السابقة علی الأمر .
ثمّ إنّه قدس سره بعد أن ذهب إلی أنّ محطّ البحث فی تعلّق الوجوب الغیری بالأجزاء ، ما إذا کانت الوحدة الاعتباریة فی الرتبة السابقة علی تحقّق الأمر ، قال : الحقّ أنّ الأمر الغیری لا یترشّح من الکلّ علی الأجزاء ؛ لمنع الصغری ـ أعنی المقدّمیة ـ أوّلاً ، ومنع الکبری ثانیاً :
أمّا منع الصغری : فلأنّ الأجزاء وإن تغایر الکلّ اعتباراً من حیث اللابشرطیة وبشرط الانضمامیة ـ حیث إنّه باعتبار الأوّل تکون أجزاءً ، وباعتبار الثانی تکون کلاًّ ـ بل یمکن القول بتقدّم الأجزاء علی الکلّ بالتجوهر ، ولکن المغایرة الاعتباریة والتقدّم والتأخّر بالتجوهر لا یقتضیان صحّة انتزاع المقدّمیة من الأجزاء ؛ إذ مقدّمیة شیء لشیء آخر تستلزم ترتّب وجود الثانی علی وجود الأوّل ، ومن الواضح : أنّ الکلّ فی الخارج عین الأجزاء بلا اثنینیة بینهما فی الوجود ، والمغایرة الاعتباریة لا توجب المغایرة الوجودیة .
هذا ، مضافاً إلی أنّ عنوانی الجزئیة والکلّیة ـ کما عرفت ـ لا ینتزعان إلاّ بعد
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 28
اعتبار الوحدة ؛ فیکون کلّ من عنوانی الجزء والکلّ طارئاً علی الذات ، بلا تقدّم لعنوان الجزء علی عنوان الکلّ .
وأمّا منع الکبری ـ وهی کون الأجزاء واجبة بالوجوب الغیری ؛ لکونها مقدّمة للکلّ ـ فلأنّ الأجزاء لا تکون واجبة بالوجوب الغیری لأجل کونها مقدّمة للکلّ ؛ لأنّ الأجزاء وإن کانت مقدّمة علی الکلّ المرکّب منها بالتجوهر ، إلاّ أنّ ذلک لا یجدی فی إمکان تعلّق الوجوب الغیری بها ؛ ضرورة أنّها نفس الکلّ المرکّب منها وجوداً فی الخارج ، والبعث إلی الکلّ بعث إلیها ؛ فأیّ فائدة فی البعث إلیها ثانیاً ؟ ! وإذا کان الغیری لغواً استحال صدوره من الحکیم .
ولأنّ مجرّد المغایرة الاعتباریة بین الجزء والکلّ لا تفی بصحّة تعلّق الوجوب بکلّ منهما ؛ لأنّ تعدّده إنّما ینشأ عن تعدّد ملاکه مع تعدّد موضوعه وجوداً وخارجاً ، وواضح : أنّ التعدّد الاعتباری لا یوجب ذلک .
مضافاً إلی استلزام ذلک اجتماع المثلین فی موضوع واحد .
وتوهّم أنّ کثیراً ما یجتمع ملاک الوجوب الغیری مع ملاک الوجوب النفسی فی الواجبات النفسیة ، أو ملاک الوجوب النفسی مع آخر مثله ، ویکون اجتماعهما سبباً لتأکّد البعث إلی ذلک الواجب ، ولا یلزم اجتماع المثلین ؛ فلیکن مورد النزاع کذلک .
مدفوع بوجود الفرق ؛ لأنّ فی بعض الواجبات النفسیة إذا اجتمع ملاک وجوب الغیری مع النفسی یکون فی عرضه لا محالة ؛ فیکون أثره ـ وهو الوجوب الغیری ـ أیضاً کذلک ؛ فیحدث منهما وجوب قوی .
وأمّا فیما نحن فیه فلیس کذلک ؛ لأنّ ملاک الوجوب الغیری فی الأجزاء فی طول ملاک الوجوب النفسی فی الکلّ ، ومع الاختلاف فی الرتبة یستحیل اتّحاد المتماثلین بالنوع .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 29
ثمّ قال : إنّ هذا کلّه لو کان متعلّق الأمر هو الکلّ ـ أعنی به الأجزاء مع قید الوحدة اعتباراً ـ أو مصلحة ، کما علیه المشهور .
ولکن التحقیق یقتضی کون متعلّق الأمر نفس ذوات الأجزاء التی تطرأ علیها الوحدة الاعتباریة ؛ إمّا بلحاظ قیام مصلحة واحدة بها ، أو بلحاظ أمر آخر تطرء علیها الوحدة الاعتباریة .
فکما تطرأ علیها الوحدة الاعتباریة یتعلّق بها الأمر ، فیکون تعلّق الأمر بها فی عرض طروّ الوحدة علیها ، لا لأنّه یتعلّق الأمر بالأجزاء المتّصفة بالوحدة الاعتباریة ؛ لتکون تلک الوحدة مقوّمة لتعلّق الأمر ومتقدّمة بالطبع علیه . بل لا یعقل أن تکون الاُمور المتعدّدة الملحوظة بنحو الوحدة الاعتباریة ـ المعبّر عنها بالکلّ فی هذا اللحاظ ـ هی متعلّق الأمر ؛ لأنّ المصلحة دعت إلی الأمر ، وهی تقوم بذوات تلک الاُمور المتعدّدة ، المعبّر عنها بالأجزاء .
ولا دخل للوحدة الاعتباریة فی المصلحة بالضرورة ؛ لأنّ تلک الوحدة اعتباریة قائمة بنفس المعتبر ، والمصلحة أمر حقیقی خارجی ، ولا یعقل تقوّم الأمر الحقیقی فی وجوده الخارجی بالأمر الاعتباری القائم فی نفس معتبره .
وأیضاً لو کانت الوحدة الاعتباریة مقوّمة للمصلحة الداعیة إلی الأمر بذیها ، فلا محالة تکون الوحدة متأخّرة بالطبع عن المصلحة المزبورة ؛ فلا یعقل أخذها قیداً مقوّماً فیها ، وإلاّ یلزم تقدّم المتأخّر وتأخّر المتقدّم ، کما لا یخفی ، انتهی کلام المحقّق العراقی قدس سره بطوله مع اختصارٍ منّا .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 30
وفی کلامه مواقع للنظر :
منها : قوله قدس سره بأنّ الوحدة الاعتباریة قد تکون فی الرتبة السابقة علی الأمر ، وقد تکون فی الرتبة المتأخّرة .
ففیه : أنّ الوحدة فی جمیع الموارد تکون فی الرتبة السابقة ، ولا تکون لنا مورد تعرض الوحدة بعد تعلّق الأمر ؛ وذلک لأنّ المولی منّا لا یأمر إلاّ لغرض یراه فی متعلَّق أمره .
فإن لاحظ المولی عدّة أشیاء فإن کان کلّ واحد منها محصّلاً لغرضه فلا یکاد یتعلّق أمره بالمجموع ، بل لابدّ له من أوامر متعدّدة ، وإن عبّر عنها بعبارة واحدة ؛ بأن یقول : «أکرم کلّ عالم» .
وأمّا إن لم یکن کلّ منها محصّلاً لغرضه ، بل ربّما تکون فیه المفسدة ، بل المصلحة قائمة بالمجموع ـ کالفوج من العسکر لفتح البلد ـ فیلاحظ المجموع أمراً واحداً ، وعند ذلک یتحقّق عنوان الکلّ والأجزاء .
نعم ، لم تکن الأجزاء والأفراد ، أجزاء المأمور به وأفراده بما أنّه مأمور به ؛ بداهة أنّه لا تکون کذلک إلاّ بعد تعلّق الأمر به .
والحاصل : أنّ المولی قبل تعلّق الأمر یتصوّر الموضوع ـ وهو المجموع الذی قام به المصلحة ـ وفی ذلک اللحاظ تکون الأفراد والأجزاء مغفولة عنها ، فتحقّقت الوحدة الاعتباریة فی الرتبة السابقة علی الأمر .
وقد عرفت : أنّ المراد بلحاظ الوحدة لحاظ المجموع وتصوّره ، لا اعتبار المجموع شیئاً مستقلاًّ ؛ بأن یلاحظ مفهوم الوحدة مضافاً إلی ملاحظة المجموع .
وإن شئت مزید توضیح لما ذکرنا فاختبر نفسک فی قولک : «إنّ مسجد الجامع ـ مثلاً ـ خیر مـن مسجد السوق» و«إنّ الصلاة ـ مثلاً ـ معراج المؤمـن» ؛ فإنّ
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 31
المحکوم بالخیریة أو المعراجیة هو عنوان المسجدیة أو الصلاتیـة ، لا الأحجار واللبنات والأخشاب وغیرهـا فـی المثال الأوّل ، والتکبیر والحمد والسورة وغیرها فـی المثال الثانی .
وبالجملة : عند قیام المصلحة بالمجموع فتعلّق الأمر بالاُمور المتعدّدة ، یتوقّف علی تصوّر اجتماع کلّ منها مع الآخر . فالاجتماع قبل الأمر ملحوظة لا محالة ، ولا نعنی بلحاظ الوحدة قبل تعلّق الأمر إلاّ هذا ، لا مفهوم الوحدة کما لا یخفی .
فتحصّل : أنّه لا فرق بین القسمین فی أنّ الوحدة ملحوظة فی کلیهما قبل تعلّق الأمر ، فتدبّر .
ومنها : أنّه لو سلّم أنّ الوحدة أحیاناً متأخّرة عن الأمر وتنتزع الکلّیة والجزئیة فی الرتبة المتأخّرة عن الأمر ، ولکن لا یوجب ذلک خروجه عن محطّ البحث ؛ لأنّ البحث لم یکن فی عنوان الجزئیة والکلّیة ؛ لأنّه لم یکن فی الجزئیة ملاک المقدّمیة ، بل لیس لها تأخّر عن عنوان الکلّیة ـ لأنّهما متضایفان ینتزعان فی رتبة واحدة ، والمتضایفان متکافئان فعلاً وقوّة ـ بل البحث فی الجزء والکلّ ؛ لأنّ البحث فی توقّف شیء علی شیء آخر ، ولا إشکال فی أنّ الکلّ والمجموع ـ الذی قام به المصلحة ـ یتوقّف علی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء ، وهو غیر الکلّ .
ولعلّ منشأ الاشتباه هو توهّم ترشّح الوجوب من ذی المقدّمة إلی المقدّمة ، وأنّ إرادة المقدّمة مترشّحة من إرادة ذی المقدّمة ؛ فتوهّم : أنّه إذا کانت الوحدة متأخّـرة عن الأمـر فلا یعقل ترشّحـه إلی ما لا یکون مقدّمـة فی الرتبـة السابقـة علی الأمر .
وقد عرفت : أنّه بمکان من الفساد ؛ لأنّ الإرادة المتعلّقة بذی المقدّمة لم تکن مبدأ للإرادة المتعلّقة بالمقدّمة بنحو النشوء والرَشح والإیجاد ، فإذا کان حال الإرادات
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 32
کذلک ـ کما تقدّم ـ فالوجوب أسوأ حالاً ؛ لأنّه ینتزع من تعلّق البعث بالشیء ، ولا یعقل أن یترشّح بعث من بعث آخر ، کما هو واضح إلی النهایة .
ومنها : قوله بمنع الصغری ـ وهی المقدّمیة ـ لعدم ترشّح الوجوب الغیری من الکلّ إلی الأجزاء ؛ لأنّ منشأ ذلک هو توهّم کون الأجزاء بالأسر مقدّمة ، فلا فرق بین المقدّمة وذیها إلاّ بالاعتبار .
وقد عرفت : أنّ الأجزاء بالأسر لم تکن مقدّمة ، بل المقدّمة إنّما هی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء ؛ فتحصّل المغایرة الوجودیة بین المقدّمة وذیها ، فإذن : لا وجه لمنع الصغری ، کما لا یخفی .
وبهذا یظهر النظر فیما رتّبه علی ذلک ؛ من ممنوعیة الکبری من ناحیة لغویة البعث ، فلاحظ .
ومنها : تعلیله لعدم تعلّق الوجوب الغیری علی الأجزاء بلزوم اللغویة ، یناقض ما سیأتی منه عند ذکر الأقوال فی مقدّمة الواجب ؛ فإنّه قدس سره بعد أن اختار وجوب المقدّمة أورد علی نفسه بأنّه : ما ثمرة الإرادة التبعیة المتعلّقة بإیجاد المقدّمات ، بعد حکم العقل بلابدّیة الإتیان بالمقدّمات ؟ وهل هو إلاّ من اللغو الواضح ؟ !
فأجاب : بأنّ هذه الإرادة لیست إلاّ إرادة قهریة ترشّحیة معلولة لإرادة الواجب ـ کما تقدّم فی البرهان ـ ومثلها لا یتوقّف علی وجود غایة وثمرة .
وحاصل ما أجابه هو : أنّ إرادة المقدّمة لم تکن من الأفعال الاختیاریة حتّی تحتاج إلی غایة ، بل هی قهریة تحصل من تعلّق الإرادة بذی المقدّمة .
وهذا المقال وإن لم نسلّمه ، بل عرفت آنفاً : أنّ إرادة المقدّمة معلولة لمبادئها ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 33
ولا تکون معلولة ومقهورة لإرادة ذیها ، ولکن نقول : إنّ إرادة إتیان المقدّمات الخارجیة إذا کانت قهریة لا تحتاج إلی غایة ، فلیکن إرادة إتیان المقدّمات الداخلیة أیضاً قهریة غیر محتاجة إلی غایة ، فتدبّر .
ومنها : أنّ حدیث اللغویة إنّما یکون برهاناً ودلیلاً علی عدم کون المقدّمات الداخلیة واجبة ، ولکن ذلک لا یکون دلیلاً وبرهاناً علی عدم وجود ملاک البحث فیها ، فکم من موضوع یجعل محطّاً للبحث والنظر ، لکن یثبته شخص وینفیه آخر!
ومنها : أنّ إشکال اجتماع المثلین ـ الذی أشار إلیه هذا المحقّق ، وفاقاً لبعض الأعلام ، کالمحقّق الخراسانی والمحقّق النائینی وغیرهما قدّس الله أسرارهم ـ قد عرفت حاله ، وحاصله : أنّه إنّما یلزم إذا کانت المقدّمة عبارة عن الأجزاء بالأمر ، وأمّا إذا کانت هی کلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء فیکون المجموع واجباً نفسیاً ، وکلّ واحدٍ واحدٍ من الأجزاء واجباً غیریاً ، فأنّی اجتماع المثلین فی موضوع واحد ؟ !
ومنها ـ وهو فی الحقیقة تقریب آخر للإشکال السابق ـ وهو : أنّ منشأ الإشکال هو خلط محیط تعلّق الأمر بمحیط الخارج ، ولا یخفی : أنّ اتّحاد المقدّمات الداخلیة مع ذیها خارجاً لا ینافی اختلافهما عنواناً فی محیط تعلّق الحکم ، ألا تری أنّ عنوان الصلاة غیر عنوان الغصبیة ومع ذلک قد یتّحدان خارجاً ؟ ! فلیکن عنوان الأجزاء غیر عنوان الکلّ ومع ذلک یتّحدان خارجاً .
فعلی هذا : یمکن تعلّق الوجوب الغیری بعنوان الأجزاء ، وتعلّق الوجوب النفسی بالکلّ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 34
فلو سلّم أنّ ذوات الأجزاء مقدّمة ، لا یلزم منه اجتماع المثلین ؛ لاختلاف ذوات الأجزاء مع ذیها بحسب العنوان ؛ بداهة أنّه قد تلاحظ عنوان الکلّ ویکون الأجزاء عند ذلک مغفولة عنها فی ذلک اللحاظ ، وقد یعکس وتکون الأجزاء ملحوظة ویکون عنوان الکلّ مغفولاً عنه .
والشاهد علی التعدّد : ما أشرنا إلیه فی بناء المسجد أو الدار ثمّ إرادة وضع الأحجار واللبنات والأخشاب ونحوها ، فلاحظ .
ومنها : أنّه لو سلّمنا أنّ المقدّمة هی الأجزاء بالأسر ، ولکن مع ذلک لا یتوجّه الإشکال ؛ لما سنشیر إلیه فی محلّه : أنّ ذوات الأجزاء علی فرض وجوب المقدّمة لم تکن واجبة ، بل هی بعنوان الموصلیة ، وواضح : أنّ عنوان الموصلیة غیر عنوان الکلّ ویختلفان عنواناً . ومجرّد اتّحاد عنوان الموصلیة مع عنوان الکلّ خارجاً لا یوجب اجتماع المثلین ، کما لا یخفی .
فتحصّل ممّا ذکرنا : أنّه لا ینبغی الإشکال فی کون الأجزاء مقدّمة ، فلا وجه لمنع الصغری والکبری ، فتدبّر .
ومنها : أنّه لا دلیل علی اعتبار الوحدة وکون المجموع واحداً وغیر محتاج إلیه ، بعد ملاحظة أنّ المصلحة حاصلة بإتیان الأجزاء .
وبالجملة : مجرّد لحاظ کون المصلحة قائمة بالمجموع یکفی فی أخذه موضوعاً للحکم ، وبدون ذلک اللحاظ لا معنی لتعلّق الأمر به ؛ فهو لا محالة تکون فی الرتبة السابقة علی الأمر ، لا فی رتبته ، فضلاً عن کونها متأخّرة عنه .
ومنها : أنّ الوحدة وإن کانت أمراً اعتباریاً ، ولکنّه یکون منشأ للأثر عند العرف والعقلاء ، ولا یکون من قبیل لحاظ أنیاب الأغوال واعتبارها ، التی لا تتجاوز
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 35
حریم اللحاظ والاعتبار ، بل لحاظ الوحدة واعتبارها نظیر سائر الاُمور الاعتباریة الدارجة عند العقلاء ، التی تدور بها رحی معاشهم ومعادهم ، وتستقیم اُمور دنیاهم وآخرتهم . فتحصّل ممّا ذکرنا بطوله : أنّ جمیع المقدّمات الداخلیة داخلة فی محطّ البحث ، ویکون فیها ملاک البحث .
هذا کلّه فی المقدّمات الداخلیة .
وأمّا المقدّمات الخارجیة : فهل محطّ البحث جمیع المقدّمات الخارجیة ؛ سواء کانت مقتضیة ، أو معدّة ، أو شرطاً ، أو عدم المانع ؛ حتّی إذا کانت علّة تامّة ، بل إذا کانت سبباً تامّاً تولیدیاً أو خصوص ما لم تکن علّة تامّة ، أو لم یکن تولیدیاً . وربّما یظهر من بعضهم خروج العلّة التامّة من محطّ البحث ، کما یظهر من بعض آخر خروج ما یکون سبباً تولیدیاً بحیث لم یکن له وجود منحاز عن وجود المعلول .
والحقّ : کون جمیع المقدّمات الخارجیة داخلة فی محطّ البحث ، من غیر فرق بین العلّة التامّة وغیرها ، والأسباب التولیدیة وغیرها .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 36
والسرّ فی ذلک : وجود ملاک البحث فی جمیع ذلک ، یظهر ذلک من ملاحظة الإرادة الفاعلی بالنسبة إلی أفعاله .
وقـد ظهر لک لعلّـه بما لا مـزید علیه آنفاً : أنّ وزان الإرادة الآمـری وزان الإرادة الفاعلی .
فإذا تمهّد لک ذلک : یظهر لک ضعف ما عن المحقّق النائینی قدس سره ، حیث فصّل فی العلّة التامّة بین ما إذا کان لکلّ من العلّة والمعلول وجود مستقلٌّ وکان ما بحذاء أحدهما غیر ما بحذاء الآخر ، کطلوع الشمس بالنسبة إلی ضوء النهار ؛ لأنّ لکلّ من الشمس والضوء وجوداً یخصّه .
وبین ما إذا لم یکن کذلک ، بل کان هناک وجود واحد معنون بعنوانین طولیین : عنوان أوّلی وعنوان ثانوی ، کالإلقاء والإحراق فی الاُمور التکوینیة ، والغسل والطهارة فی الاُمور الشرعیة ؛ فإنّه لم یکن هناک إلاّ فعل واحد ، ویکون هو بعنوانه الأوّلی إلقاءً أو غسلاً ، وبعنوانه الثانوی إحراقاً أو تطهیراً ، ولیس ما بحذاء الإلقاء أو الغسل غیر ما بحذاء الإحراق أو الطهارة ، بل هو هو ؛ ولذا یحمل أحدهما علی الآخـر ؛ فیقال : الإلقاء إحراق وبالعکس ، والغسل طهارة وبالعکس ؛ لما بین العنوانین من الاتّحاد فی الوجود . . . إلی أن قال قدس سره : الحقّ أنّ العلّة التامّة علی الأوّل داخلة فی محطّ النزاع وتکون واجبة بالوجوب المقدّمی ، والذی یکون واجباً بالوجوب النفسی هو المعلول .
وأمّا علی الوجه الثانی فالحقّ : أنّها لیست محطّاً للنزاع ؛ لأنّه لیس هناک إلاّ فعل واحد معنون بعنوانین : عنوان أوّلی وعنوان ثانوی .
بل لیس ذلک فی الحقیقة من باب العلّة والمعلول ؛ إذ العلّة والمعلول یستدعیان وجودین ، ولیس هنا إلاّ وجود واحد وفعل واحد ؛ فلیس الإحراق معلولاً للإلقاء ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 37
بل المعلول والمسبّب التولیدی هو الاحتراق ، لا الإحراق الذی هو فعل المکلّف .
وکذا الکلام فی الغسل والتطهیر ، حیث إنّ التطهیر لیس معلولاً للغسل ، بل المعلول هو الطهارة ؛ فإذن الإلقاء أو الغسل لیس واجباً بالوجوب المقدّمی ، بل هو واجب بالوجوب النفسی ، غایته لا بعنوانه الأوّلی ـ أی بما أنّه إلقاء أو صبّ الماء ـ بل بعنوانه الثانوی ؛ أی بما أنّه إحراق وإفراغ للمحلّ عن النجاسة .
وهکذا الکلام فی الانحناء والتعظیم وغیر ذلک من العناوین التولیدیة .
وبالجملة : فی تلک الموارد لم یصدر من المکلّف فعلان ، بل فعل واحد معنون بعنوانین : عنوان أوّلی ، وعنوان ثانوی ، إلی آخر ما أفاده ، فلاحظ .
وفیه أوّلاً : أنّ ما ذکره لیس تفصیلاً فی بعض المقدّمات ؛ لأنّه لو تمّ ما ذکره قدس سره تخرج العلّة التامّة ـ التی لا تختلف وجوداً مع معلولها ـ عن کونها علّة ؛ وذلک لأنّ العلّة دائماً تکون وجودها غیر وجود المعلول ، ولا معنی لأن توجد العلّة ومعلولها بوجود واحد ، کما هو ثابت فی محلّه .
وثانیاً : أنّ الأمثلة التی ذکرها للعناوین التولیدیة لا تخلو عن المناقشة . فالمناقشة فی المثال وإن لم یکن من دأب المحصّلین ، لکنّها حیث تکون کثیرة ارتباط بتصدیق المطلب أو تکذیبه ، فنشیر إلیها :
فنقول : أمّا قضیة الإلقاء والإحراق : فلأنّ الإلقاء فی الحقیقة فعل الملقی ـ بالکسر ـ والإحراق فعل النار ، وانتساب الإحراق إلی الملقی انتساب إلی غیر ما هو له ، کقولک : «بنی الأمیر المدینة» ، فإذا کان کذلک فکیف یحمل أحدهما علی الآخر ؟ ! وإلاّ یصحّ أن یقال : «ألقی النار» ، وهو کما تریٰ .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 38
وکذا قضیة الغسل والتطهیر ؛ فإنّ الغاسل هو الشخص والتطهیر هو فعل الماء ، والشخص وسیلة للتطهیر ، وانتساب التطهیر إلی الشخص انتساب إلی غیر ما هو له ، وإلاّ یلزم أن یکون الشخص الغاسل من المطهّرات ، وهو کما تریٰ .
وکذا فَری الأوداج لم یکن قتلاً ، بل هو سبب لزهوق الروح الذی هو القتل ، وهذا مثل الشمس والإشراق الذی مثله .
فتحصّل : أنّ شیئاً من الأمثلة التی ذکرها لا یکون من أمثلة تلک العنوان . نعم ، لو وجد شیء یکون کذلک یتمّ ذلک ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 39