الفصل الرابع فی مقدّمة الواجب

الأمر الثانی فی کون البحث عقلیاً محضاً‏، لا لفظیاً ولا عقلیاً مشوباً

الأمر الثانی فی کون البحث عقلیاً محضاً ، لا لفظیاً ولا عقلیاً مشوباً

‏ ‏

‏قد عرفت‏‏ ‏‏: أنّ الذی یمکن أن یقع محطّ البحث فی مسألة مقدّمة الواجب هو‏‎ ‎‏البحث عن الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة مقدّمته ، أوالملازمة بین وجوب ذی‏‎ ‎‏المقدّمة ووجوب مقدّمته ، ومن الواضح : أنّ البحث علی هذا یکون عقلیاً محضاً .‏

‏وتوهّم لفظیة البحث بلحاظ أنّه فی الحقیقة فی الدلالة الالتزامیة ، وهی مع‏‎ ‎‏کونها عقلیة تعدّ من الدلالات اللفظیة .‏

‏مدفوع بأنّ غایة ما یُوجّه للفظیة البحث هی أنّه إذا تعلّق أمر بشیء فیدلّ‏‎ ‎‏الأمر علی أنّ ذلک الشیء مراد للمولی . ولازم ذلک المعنی هو کون مقدّمته مراداً له .‏

‏واستفادة هذا المعنی وإن لم تکن باللفظ ـ بل بالعقل ـ لکنّه نظیر الملازمة‏‎ ‎‏المدّعاة بین المعنی المطابقی والمعنی الالتزامی ؛ فکما أنّ دلالة لفظة الأربعة ـ مثلاًـ علی‏‎ ‎‏الزوجیة لم تکن لفظیة ؛ لعدم کون الزوجیة تمام معناها ، ولا جزءها ـ وإنّما تدلّ علیها‏‎ ‎‏بالملازمة ـ ومع ذلک یعدّ ذلک من الدلالات اللفظیة ، حیث قسّموا الدلالة اللفظیة إلی‏‎ ‎‏المطابقیة والتضمّنیة والالتزامیة ، فکذلک فی المقام حیث إنّ لفظ الأمر بشیء یدلّ علی‏‎ ‎‏أنّ مقدّمته مرادة له .‏

‏وأنت خبیر بما فیه أوّلاً : أنّ عدّ الدلالة الالتزامیة من دلالة الألفاظ خلاف‏‎ ‎‏التحقیق ؛ لأنّ الدلالة اللفظیة بعدما لم تکن ذاتیة ، تکون مرهونة بالوضع ، بحیث لو لم‏‎ ‎‏تکن هناک وضع لا تکون دلالة ، کلفظة «الشمس» ؛ فإنّها لو لم تکن موضوعة لتلک‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 13
‏الجرم النیّر لم ینتقل الذهن من سماع لفظة «الشمس» إلی الجرم النیّر .‏

‏وظاهر : أنّ اللازم لا یکون لازماً للفظ الموضوع ، بل لازم المعنی الموضوع له ؛‏‎ ‎‏ولذا ینتقل الذهن إلی اللازم إذا وجد المعنی الموضوع له فی الذهن ؛ بأیّ دالٍّ کان ، ولو‏‎ ‎‏بالإشارة . فاللازم لازم المعنی ومن قبیل دلالة المعنی علی المعنی ، لا دلالة اللفظ علی‏‎ ‎‏المعنی . والتعبیر عنه بالدلالة اللفظیة مسامحی ، لأجل أنّه یفهم من اللفظ غالباً .‏

‏وثانیاً : لو سلّم کون دلالة الالتزامیة من دلالة الألفاظ ، لکن لا یصحّ أن یقال‏‎ ‎‏ذلک فی محطّ البحث ؛ لأنّ البحث هنا فی تلازم إرادة المقدّمة مع إرادة ذیها ، ولو لم‏‎ ‎‏تکن مرادة من ناحیة اللفظ .‏

‏وبالجملة : البحث فی مقدّمة الواجب لا یختصّ بما إذا کان الشیء واجباً‏‎ ‎‏باللفظ ، بل بالأعمّ منه وممّا وجب بغیره ؛ فلو اُحرز إرادة المولی بإتیان أمر بأیّ نحو‏‎ ‎‏کان ، یلزم من ذلک إرادة مقدّمته ، فتدبّر .‏

‏وثالثاً : لو عُدّ محطّ البحث من دلالة الألفاظ ، فنقول بأنّ شرط الدلالة‏‎ ‎‏الالتزامیة هو کون اللازم لازماً بیّناً . ومعنی اللزوم البیّن هو أنّ مجرّد تصوّر الطرفین‏‎ ‎‏یکفی فی الجزم باللزوم .‏

‏وأنت خبیر بأنّ محطّ البحث لم یکن کذلک ؛ لتوقّف إثبات اللزوم بین إرادة‏‎ ‎‏المقدّمة وإرادة ذیها إلی البرهان ؛ ولذا وقع الخلاف فی ذلک ؛ فذهب بعض إلی وجوب‏‎ ‎‏المقدّمة مطلقاً أو فی الجملة ، وبعضهم إلی إنکار الوجوب مطلقاً .‏

‏ورابعاً : أنّ البحث فی مقدّمة الواجب فی الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة‏‎ ‎‏مقدّمته ، وواضح : أنّ لفظ الأمر لم یوضع للإرادة قطعاً ، بل وضع إمّا للإیجاب أو یکون‏‎ ‎‏آلة للبعث ، کما هو المختار . نعم ، یستکشف من بعث المولی وإیجابه أنّ المولی أراده .‏


کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 14
‏وبعبارة اُخری : یستکشف من بعث المولی بشیء : أنّ المتعلّق مراد ، وأنّی له‏‎ ‎‏وأن یکون مدلولاً للفظٍ ؟ ! فتدبّر . هذا کلّه فیما یتعلّق بتوهّم کون البحث لفظیاً .‏

‏ ‏

ذکر وتعقیب

‏ ‏

‏وربّما یظهر من بعضهم : أنّ البحث فی مقدّمة الواجب وإن لم یکن لفظیاً ، إلاّ أنّه‏‎ ‎‏لیس بعقلی محض :‏

‏قال المحقّق النائینی قدس سره : إنّ هذه المسألة لیست من المسائل اللفظیة ، کما یظهر‏‎ ‎‏من «المعالم» ، بل هی من المسائل العقلیة ، ولکن لیست من المستقلاّت العقلیة الراجعة‏‎ ‎‏إلی باب التحسین والتقبیح ومناطات الأحکام ، بل هی من الملازمات العقلیة ، حیث‏‎ ‎‏إنّ حکم العقل فی المقام یتوقّف علی ثبوت وجوب ذی المقدّمة ؛ فیحکم العقل‏‎ ‎‏بالملازمة بینه وبین وجوب مقدّماته . ولیس من قبیل حکم العقل بقبح العقاب من‏‎ ‎‏غیر بیان ، الذی لا یحتاج إلی توسیط حکم شرعی ، بل البحث فی المقام نظیر البحث‏‎ ‎‏عن مسألة الضدّ ، ومسألة اجتماع الأمر والنهی یتوقّف علی ثبوت أمر أو نهی شرعی‏‎ ‎‏حتّی تصل النوبة إلی حکم العقل بالملازمة کما فی مسألتنا ، أو اقتضاء النهی عن الضدّ‏‎ ‎‏کما فی مسألة الضدّ ، أو جواز الاجتماع وعدمه کما فی مسألة جواز اجتماع الأمر‏‎ ‎‏والنهی . . . إلی آخره‏‎[1]‎‏ .‏

‏وفیه : أنّه لا ینقضی تعجّبی کیف قال بأنّ مسألتنا هذه کمسألة اجتماع الأمر‏‎ ‎‏والنهی ومسألة الضدّ لم تکن من المستقلاّت العقلیة المحضة ، بل تحتاج إلی توسیط‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15
‏حکم شرعی ، مع أنّ البحث فیها عن الأحکام العقلیة المحضة ؟ !‏

‏وذلک لأنّ البحث فی مقدّمة الواجب فی ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذیها ،‏‎ ‎‏واللاثبوت ، وهـو لا یقتضی وجـود الطرفین ، وهـذا کما یقال : إنّ قضیة الشرطیـة‏‎ ‎‏لا تستلزم صدق الطرفین ، ولا کذبهما . وبالجملة : البحث فی مقدّمة الواجب عن‏‎ ‎‏ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذیها وعدمه ؛ کان فی العالم أمر أم لا‏‎[2]‎‏ .‏

‏نعم ، النتیجة لا تحصل إلاّ باستثناء التالی أو إثباته ، مثلاً فی قولک : «إن کانت‏‎ ‎‏الشمس طالعة ، کان النهار موجوداً» حکمت بالملازمة بین طلوع الشمس وطلوع‏‎ ‎‏النهار ؛ وجدت الشمس فی الخارج أم لا .‏

‏نعم النتیجة تتوقّف علی استثناء التالی أو إثباته ، فنقول : «لکن النهار غیر‏‎ ‎‏موجود» ؛ فینتج : «أنّ الشمس غیر طالعة» ، أو «أنّ النهار موجود» ؛ فینتج : «أنّ‏‎ ‎‏الشمس طالعة» .‏

‏وکذا البحث فی مسألة الضدّ ؛ فإنّه یبحث فیها عن أنّه لو کان هنا أمر هل‏‎ ‎‏یقتضی النهی عن ضدّه أم لا ؟ کان فی العالم أمر أم لا .‏

‏وهکذا البحث فی مسألة اجتمـاع الأمـر والنهی ؛ فإنّـه یبحث فیها فی أنّه‏‎ ‎‏هـل یمکن اجتماع أمـر ونهی علی موضوع واحـد بجهتین مختلفتین أم لا ؟ کان فی العالم‏‎ ‎‏أمـر أو نهی أم لا .‏

‏نعم ـ کما أشرنا ـ إنّ البحث فی تلک المسائل إنّما هو لأجل ورود أوامر ونواهی‏

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 16
‏فی الشریعة المقدّسة ، وإلاّ یکون البحث فیها لغواً ، ولکن مع ذلک لا یوجب ذلک‏‎ ‎‏إخراج تلک المسائل عن کونها عقلیة محضة .‏

‏ولیت شعری أیّ فرق بین تلک المسائل ومسألة قبح العقاب بلا بیان ؟ ! وهل‏‎ ‎‏لا تحتاج تلک المسألة إلی بیان من الشرع وعدمه ، وإلاّ فلا یصحّ الحکم بالقبح ؟‏‎ ‎‏ولو عُدّ مسألة قبح العقاب بلا بیان من العقلیات غیر المحضة لکان أولی ، وإن کان غیر‏‎ ‎‏وجیه ؛ لأنّ جریانها منوطة بعدم تکلیف وأمر من الشارع ، بخلاف الحکم بالملازمة‏‎ ‎‏فی مقدّمة الواجب ، واقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه فی مسألة الضدّ . واجتماع‏‎ ‎‏الأمر والنهی فی موضوع واحد إنّما هو فی الموضوع ذی جهتین ، وإن کان مجرّد ذلک‏‎ ‎‏لا یوجب أن لا تکون مسألة قبح العقاب بلا بیان مسألة عقلیة محضة .‏

‏فتحصّل : أنّ جمیع المسائل المعنونة فی کلامه قدس سره من المستقلاّت العقلیة ، من‏‎ ‎‏غیر فرق بینها ، فتدبّر .‏

‎ ‎

کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 17

  • )) فوائد الاُصول 1 : 261 ـ 262 .
  • )) قلت : وإن کان فی خواطرک ریب فیما ذکرنا فلاحظ قوله تعالی : «لَوْ کَانَ فِیهمَا آلِهَةٌ إلاّ الله ُ لَفَسَدَتا» ، فإنّه قضیة شرطیة تفید الملازمة بین تعدّد الآلهة وفساد العالم ، مع أنّه لم یتعدّد ولن یتعدّد آلهة فی العالم ، فتدبّر ،[ المقرّر حفظه الله ]