الأمر الثانی فی کون البحث عقلیاً محضاً ، لا لفظیاً ولا عقلیاً مشوباً
قد عرفت : أنّ الذی یمکن أن یقع محطّ البحث فی مسألة مقدّمة الواجب هو البحث عن الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة مقدّمته ، أوالملازمة بین وجوب ذی المقدّمة ووجوب مقدّمته ، ومن الواضح : أنّ البحث علی هذا یکون عقلیاً محضاً .
وتوهّم لفظیة البحث بلحاظ أنّه فی الحقیقة فی الدلالة الالتزامیة ، وهی مع کونها عقلیة تعدّ من الدلالات اللفظیة .
مدفوع بأنّ غایة ما یُوجّه للفظیة البحث هی أنّه إذا تعلّق أمر بشیء فیدلّ الأمر علی أنّ ذلک الشیء مراد للمولی . ولازم ذلک المعنی هو کون مقدّمته مراداً له .
واستفادة هذا المعنی وإن لم تکن باللفظ ـ بل بالعقل ـ لکنّه نظیر الملازمة المدّعاة بین المعنی المطابقی والمعنی الالتزامی ؛ فکما أنّ دلالة لفظة الأربعة ـ مثلاًـ علی الزوجیة لم تکن لفظیة ؛ لعدم کون الزوجیة تمام معناها ، ولا جزءها ـ وإنّما تدلّ علیها بالملازمة ـ ومع ذلک یعدّ ذلک من الدلالات اللفظیة ، حیث قسّموا الدلالة اللفظیة إلی المطابقیة والتضمّنیة والالتزامیة ، فکذلک فی المقام حیث إنّ لفظ الأمر بشیء یدلّ علی أنّ مقدّمته مرادة له .
وأنت خبیر بما فیه أوّلاً : أنّ عدّ الدلالة الالتزامیة من دلالة الألفاظ خلاف التحقیق ؛ لأنّ الدلالة اللفظیة بعدما لم تکن ذاتیة ، تکون مرهونة بالوضع ، بحیث لو لم تکن هناک وضع لا تکون دلالة ، کلفظة «الشمس» ؛ فإنّها لو لم تکن موضوعة لتلک
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 13
الجرم النیّر لم ینتقل الذهن من سماع لفظة «الشمس» إلی الجرم النیّر .
وظاهر : أنّ اللازم لا یکون لازماً للفظ الموضوع ، بل لازم المعنی الموضوع له ؛ ولذا ینتقل الذهن إلی اللازم إذا وجد المعنی الموضوع له فی الذهن ؛ بأیّ دالٍّ کان ، ولو بالإشارة . فاللازم لازم المعنی ومن قبیل دلالة المعنی علی المعنی ، لا دلالة اللفظ علی المعنی . والتعبیر عنه بالدلالة اللفظیة مسامحی ، لأجل أنّه یفهم من اللفظ غالباً .
وثانیاً : لو سلّم کون دلالة الالتزامیة من دلالة الألفاظ ، لکن لا یصحّ أن یقال ذلک فی محطّ البحث ؛ لأنّ البحث هنا فی تلازم إرادة المقدّمة مع إرادة ذیها ، ولو لم تکن مرادة من ناحیة اللفظ .
وبالجملة : البحث فی مقدّمة الواجب لا یختصّ بما إذا کان الشیء واجباً باللفظ ، بل بالأعمّ منه وممّا وجب بغیره ؛ فلو اُحرز إرادة المولی بإتیان أمر بأیّ نحو کان ، یلزم من ذلک إرادة مقدّمته ، فتدبّر .
وثالثاً : لو عُدّ محطّ البحث من دلالة الألفاظ ، فنقول بأنّ شرط الدلالة الالتزامیة هو کون اللازم لازماً بیّناً . ومعنی اللزوم البیّن هو أنّ مجرّد تصوّر الطرفین یکفی فی الجزم باللزوم .
وأنت خبیر بأنّ محطّ البحث لم یکن کذلک ؛ لتوقّف إثبات اللزوم بین إرادة المقدّمة وإرادة ذیها إلی البرهان ؛ ولذا وقع الخلاف فی ذلک ؛ فذهب بعض إلی وجوب المقدّمة مطلقاً أو فی الجملة ، وبعضهم إلی إنکار الوجوب مطلقاً .
ورابعاً : أنّ البحث فی مقدّمة الواجب فی الملازمة بین إرادة ذی المقدّمة وإرادة مقدّمته ، وواضح : أنّ لفظ الأمر لم یوضع للإرادة قطعاً ، بل وضع إمّا للإیجاب أو یکون آلة للبعث ، کما هو المختار . نعم ، یستکشف من بعث المولی وإیجابه أنّ المولی أراده .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 14
وبعبارة اُخری : یستکشف من بعث المولی بشیء : أنّ المتعلّق مراد ، وأنّی له وأن یکون مدلولاً للفظٍ ؟ ! فتدبّر . هذا کلّه فیما یتعلّق بتوهّم کون البحث لفظیاً .
ذکر وتعقیب
وربّما یظهر من بعضهم : أنّ البحث فی مقدّمة الواجب وإن لم یکن لفظیاً ، إلاّ أنّه لیس بعقلی محض :
قال المحقّق النائینی قدس سره : إنّ هذه المسألة لیست من المسائل اللفظیة ، کما یظهر من «المعالم» ، بل هی من المسائل العقلیة ، ولکن لیست من المستقلاّت العقلیة الراجعة إلی باب التحسین والتقبیح ومناطات الأحکام ، بل هی من الملازمات العقلیة ، حیث إنّ حکم العقل فی المقام یتوقّف علی ثبوت وجوب ذی المقدّمة ؛ فیحکم العقل بالملازمة بینه وبین وجوب مقدّماته . ولیس من قبیل حکم العقل بقبح العقاب من غیر بیان ، الذی لا یحتاج إلی توسیط حکم شرعی ، بل البحث فی المقام نظیر البحث عن مسألة الضدّ ، ومسألة اجتماع الأمر والنهی یتوقّف علی ثبوت أمر أو نهی شرعی حتّی تصل النوبة إلی حکم العقل بالملازمة کما فی مسألتنا ، أو اقتضاء النهی عن الضدّ کما فی مسألة الضدّ ، أو جواز الاجتماع وعدمه کما فی مسألة جواز اجتماع الأمر والنهی . . . إلی آخره .
وفیه : أنّه لا ینقضی تعجّبی کیف قال بأنّ مسألتنا هذه کمسألة اجتماع الأمر والنهی ومسألة الضدّ لم تکن من المستقلاّت العقلیة المحضة ، بل تحتاج إلی توسیط
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 15
حکم شرعی ، مع أنّ البحث فیها عن الأحکام العقلیة المحضة ؟ !
وذلک لأنّ البحث فی مقدّمة الواجب فی ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذیها ، واللاثبوت ، وهـو لا یقتضی وجـود الطرفین ، وهـذا کما یقال : إنّ قضیة الشرطیـة لا تستلزم صدق الطرفین ، ولا کذبهما . وبالجملة : البحث فی مقدّمة الواجب عن ثبوت الملازمة بین المقدّمة وذیها وعدمه ؛ کان فی العالم أمر أم لا .
نعم ، النتیجة لا تحصل إلاّ باستثناء التالی أو إثباته ، مثلاً فی قولک : «إن کانت الشمس طالعة ، کان النهار موجوداً» حکمت بالملازمة بین طلوع الشمس وطلوع النهار ؛ وجدت الشمس فی الخارج أم لا .
نعم النتیجة تتوقّف علی استثناء التالی أو إثباته ، فنقول : «لکن النهار غیر موجود» ؛ فینتج : «أنّ الشمس غیر طالعة» ، أو «أنّ النهار موجود» ؛ فینتج : «أنّ الشمس طالعة» .
وکذا البحث فی مسألة الضدّ ؛ فإنّه یبحث فیها عن أنّه لو کان هنا أمر هل یقتضی النهی عن ضدّه أم لا ؟ کان فی العالم أمر أم لا .
وهکذا البحث فی مسألة اجتمـاع الأمـر والنهی ؛ فإنّـه یبحث فیها فی أنّه هـل یمکن اجتماع أمـر ونهی علی موضوع واحـد بجهتین مختلفتین أم لا ؟ کان فی العالم أمـر أو نهی أم لا .
نعم ـ کما أشرنا ـ إنّ البحث فی تلک المسائل إنّما هو لأجل ورود أوامر ونواهی
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 16
فی الشریعة المقدّسة ، وإلاّ یکون البحث فیها لغواً ، ولکن مع ذلک لا یوجب ذلک إخراج تلک المسائل عن کونها عقلیة محضة .
ولیت شعری أیّ فرق بین تلک المسائل ومسألة قبح العقاب بلا بیان ؟ ! وهل لا تحتاج تلک المسألة إلی بیان من الشرع وعدمه ، وإلاّ فلا یصحّ الحکم بالقبح ؟ ولو عُدّ مسألة قبح العقاب بلا بیان من العقلیات غیر المحضة لکان أولی ، وإن کان غیر وجیه ؛ لأنّ جریانها منوطة بعدم تکلیف وأمر من الشارع ، بخلاف الحکم بالملازمة فی مقدّمة الواجب ، واقتضاء الأمر بالشیء النهی عن ضدّه فی مسألة الضدّ . واجتماع الأمر والنهی فی موضوع واحد إنّما هو فی الموضوع ذی جهتین ، وإن کان مجرّد ذلک لا یوجب أن لا تکون مسألة قبح العقاب بلا بیان مسألة عقلیة محضة .
فتحصّل : أنّ جمیع المسائل المعنونة فی کلامه قدس سره من المستقلاّت العقلیة ، من غیر فرق بینها ، فتدبّر .
کتابجواهر الاصول (ج. ۳): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 17