أقسام الماهیة
قد تداول من القوم فی الباب ذکر انقسام الماهیة إلی أقسامها الثلاثة : الماهیة اللابشرط ، والماهیة بشرط شیء ، والماهیة بشرط لا ؛ بلحاظ أنّه إذا لوحظت الماهیة مع أمر خارج عنها ، فإمّا أن تلاحظ مع وجودها ، أو مع عدمها ، أو لا مع وجودها ، ولا مع عدمها .
وقد تشتّت آراؤهم فی بیان امتیاز المقسم عن أقسامه ، وبیان امتیاز الأقسام بعضها عن بعض ، فقال بعضهم : «إنّ المقسم لها نفس الماهیة ، والاعتبارات واردة علیها ، فیکون الفرق بین المقسم والأقسام بالاعتبار ، کما أنّ الفرق بین الأقسام أیضاً بالاعتبار» .
وظاهر کلمات أکابر فنّ المعقول أیضاً أنّها بالاعتبار واللحاظ ، یرشدک إلی هذا قول الحکیم السبزواری :
مخلوطة مطلقة مجرّدة
عند اعتبارات علیها واردة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 523
فعلی هذا إن لوحظت الماهیة مجرّدة عمّا یلحق بها وغیر مقترنة ولا مقرونة بشیء ، تکون لا بشرط المقسمی ، وإن لوحظت مجرّدة عمّا یلحق بها تکون بشرط لا، وإن لوحظت مقترنة بشیء تکون بشرط شیء ، فیکون الفرق بین اللابشرط المقسمی واللابشرط القسمی ، هو الفرق بین مطلق المفعول والمفعول المطلق .
وقد قالوا قریباً من هذا فی مسألة الجنس والمادّة ، والنوع والصورة ؛ بلحاظ أنّ شیئاً واحداً ـ کالحیوان مثلاً ـ باعتبار لحاظه لا بشرط یکون جنساً ، وبلحاظ اعتباره بشرط شیء یکون نوعاً ، وبلحاظ اعتباره بشرط لا یکون مادّة .
وأمّا المحقّق النائینی قدس سره فقد أطنب وفصّل فی المقال وقال : «إنّه فرق بین الماهیة اللابشرط المقسمی واللابشرط القسمی ، ولابدّ وأن لا یخلط بینهما ، وإنّ الفرق بینهما واقعی لا اعتباری» ومع ذلک لم یأت بما یفرّق بینهما ، وعند ما وصل إلی تفسیر اللابشرط المقسمی قال : «إنّه نفس الماهیة وذات المرسل الساری فی جمیع الأفراد ، والمحفوظ مع کلّ خصوصیة ، والموجود مع کلّ طور» .
وبالجملة : لم یذکر الجامع بین المقسم والقسم وما یمتاز به القسم عن المقسم ، مع أنّه المهمّ فی الباب .
ویظهر من بعضهم إرجاع الاعتبارات والتقسیمات إلی لحاظ الماهیة ، لا الماهیة الملحوظة . . . إلی غیر ذلک من المطالب التی لا تسمن ولا تغنی من جوع .
وبالجملة : ظاهر کلمات أکابر فنّ المعقول کما أشرنا ، یشعر بأنّ تقسیم الماهیة
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 524
إلی الأقسام الثلاثة ـ وکذا تقسیم الماهیة إلی الجنس والمادّة والنوع ـ إنّما یکون بالاعتبار واللحاظ ، وقد اغترّ بظاهر کلماتهم فحول علماء الاُصول ، ووقعوا فی حیص وبیص فی أقسام الماهیة والفرق بین اللابشرط المقسمی والقسمی حتّی قال بعض الأکابر : «إنّ التقسیم إنّما هو بلحاظ الماهیة ، لا نفسها» .
ولا أظنّ أن یکون مراد المحقّقین من الفلاسفة ، ما هو الظاهر من کلماتهم ؛ لا فی تقسیم الماهیة إلی الجنس ، والفصل ، والمادّة ، والصورة ، ولا فی تقسیم الماهیة إلی اللواحق ؛ من غیر نظر إلی نفس الأمر ونظام التکوین ، بل اقترحوا هذه التقسیمات لِصرف التلاعب بالمفاهیم ومحض اعتبارات ذهنیة ؛ من غیر أن یکون لهذه الاعتبارات محکیات فی الخارج ، ولا ینقضی تعجّبی من أنّ صِرف اعتبار شیء لا بشرط ، کیف یؤثّر فی الواقع ویجعل الشیء قابلاً للاتحاد والحمل ، کما أنّ أخذه بشرط لا لا یوجب انقلاب الواقع عمّا هوعلیه؟! ولو کانت هذه التقسیمات بصرف الاعتبار ، لجاز أن یعتبرها أشخاص مختلفون ، فیصیر الواقع مختلفاً بحسب اعتبارهم ، فتکون ماهیة واحدة متحدة مع شیء ، وغیر متحدة معه بعینه ، وهو کما تری .
وبالجملة : ملاک صحّة الحمل وعدم صحّته عندهم ، هوکون الشیء المحمول لا بشرط ، أو بشرط لا ، ولو کان هذا الملاک أمراً اعتباریاً ، للزم کون اعتبار شیء لا بشرط مؤثّراً فی الواقع ، فیجعل الشیء أمراً قابلاً للاتحاد والحمل ، وللزم من اعتباره دفعة اُخری بشرط لا ، انقلاب الواقع عمّا هوعلیه .
وبعبارة أوضح : لوکان ذلک بالاعتبار ، یلزم من اعتبار شخص واحد شیئاً واحداً علی نحوین ، اختلاف نفس الواقع ، کما یلزم من اعتبار أشخاص مختلفة ،
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 525
صیرورة الواقع مختلفاً بحسب اختلافهم ، فتکون ماهیة واحدة متحدة مع شیء وغیر متحدة معه بعینه ، وهو کما تری .
والذی یقتضیه دقیق النظر : ـ ولعلّه مراد أساطین الفنّ وإن لم أرَ من صرّح به ، والبحث عنه وإن کان خارجاً عن موضوع البحث ، إلاّ أنّه لا یخلو من فائدة ـ أنّ کافّة التقسیمات التی فی باب الماهیة والأجناس والفصول ، إنّما تکون بلحاظ نفس الأمر ومرآة للواقع ؛ وأنّ الماهیة بحسب واقعها لها حالات ثلاثة : بشرط لا ، ولا بشرط ، وبشرط شیء ، فلا تتخلّف عن واقعها ، ولا یرجع قسم منها إلی قسم آخر ؛ وإن لوحظ علی خلاف واقعه ألف مرّة ، حتّی أنّ الاختلاف الواقع بین المادّة والجنس والنوع ، أمر واقعی لا اعتباری :
أمّا تقسیم الماهیة إلی الجنس والفصل والمادّة والصورة ، فتکون للمادّة الخارجیة ـ بلحاظ حرکتها الجوهریة وتبدّلاتها العرضیة ـ صور تتوارد علیها واحدة بعد واحدة ، ولا یکون بین الصورة التی تتبدّل إلیها المادّة والمادّة ، اثنینیة فی الخارج ، بل هی متحدة معها ، ویکون الترکیب بینهما اتحادیاً ، وتکون المادّة المتّحدة بالصورة والصورة المتّحدة معها ، نوعاً من الأنواع .
مثلاً : مادّة النواة بحرکتها الجوهریة ، تصیر مستعدّة لإفاضة الله تعالی الصورة النواتیة علیها ، فتتبدّل بتلک الصورة ، وتتحد معها ، وتصیر النواة نوعاً من الأنواع ، وللمادّة النواتیة قوّة واستعداد إذا زرعت فی الأرض ، تتبدّل إلی الصورة الشجریة ، وتلک القوّة غیر متحدة مع الصورة الترابیة ، ویکون الترکیب بینهما انضمامیاً ، وعلیه ففی النواة مادّتان : مادّة متحدة مع الصورة النواتیة ، ومادّة منضمّة معها مستعدّة لقبول الصورة الشجریة .
وبعبارة اُخری : المادّة الساذجة ـ لأجل سیلانها وتبدّلها الجوهری ـ لها صور
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 526
متبدّلة تکون متحدة مع کلّ واحدة منها خارجاً ، ولاریب فی إباء الصورة المتحدة معها عن الاجتماع مع صورة اُخری لإباء الفعلیتین عن الاجتماع ، وحیث إنّه لم یکن الترکیب بین المادّة والصورة المتّحدة معها انضمامیاً ، بل اتحادیاً ، فینسحب حکم إحدی المتحدتین إلی الاُخری ، فلا قابلیة لهذه المادّة المتبدّلة إلی هذه الصورة مع حفظها لتلبّس صورة اُخری ، نعم هی ـ باعتبار سیلانها وحرکتها الجوهریة وتدرّجها ـ قابلة لتوارد أیّة صورة علیها ، فیکون فی الخارج والواقع ثلاث حقائق وواقعیات اعتبرت أم لم تعتبر :
الاُولی : المادّة المتبدّلة إلی الصورة النواتیة المتّحدة معها خارجاً ، وهی الحقیقة المعبّر عنها بالماهیة بشرط شیء المسمّاة نوعاً .
الثانیة : کون المادّة المتصوّرة بصورة النواتیة ـ مع حفظ تلک الصورة ـ آبیة عن قبول صورة اُخری ؛ لما أشرنا من إباء الصورة المتحدة معها خارجاً عن الاجتماع مع صورة اُخری ، وهی الحقیقة المعبّر عنها بشرط لا .
الثالثة : کون مادّة النواة ـ بلحاظ سیلانها الجوهری وتدرّجها الوجودی ـ مستعدّة لقبول الصورة الشجریة ، وتتحد معها لو لم یعقها فی البین عائق ، لکنّه بحیثیة وجهة اُخری غیر الحیثیة والجهة التی للصورة النواتیة المتبدّلة فعلاً بها المتحدة معها ؛ لامتناع اتحاد حیثیتی الفعل والقبول ، وهی الحقیقة المعبّر عنها بلا بشرط ، وهی مأخذ الجنس .
فتحصّل وتحقّق : أنّ لکلّ من بشرط شیء وبشرط لا ولا بشرط ، واقعیةً حقیقیةً ، لا اعتباریة حتّی یکون زمام أمرها بید المعتبِر ، فیتغیّر شیء واحد بحسب الواقع باختلاف الاعتبار ، وتکون ماهیة واحدة متّحدة مع شیء ، وغیر متحدة معه
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 527
بعینه ، مع أنّ الغرض من هذه التقسیمات حکایة الواقع ونفس الأمر ، لا التلاعب بالمفاهیم واختراع اُمور ذهنیة صرفة ، فتدبّر .
وأمّا تقسیم الماهیة إلی اللواحق ـ وهو محطّ البحث ـ فلا یکون أیضاً بمجرّد الاعتبار ، بل بلحاظ أنّ کلّ شیء خارج عن حریم ذات الماهیة ووجودها ـ إذا لوحظ ـ فلا یخلو من ثلاث حالات : إمّا لازم اللحوق لها بحسب ذاتها أو وجودها ، أو ممتنع اللحوق لها کذلک ، أو ممکن اللحوق لها کذلک :
الاُولی : فی الأوصاف اللازمة للماهیة ، کالزوجیة لماهیة الأربعة ، والتحیّز بالنسبة إلی الجسم ، وقابلیة الصنعة والکتابة لماهیة الإنسان ، وهی المعبّر عنها بالماهیة بشرط شیء .
الثانیة : فی الأوصاف الممتنعة المضادّة لها ، کالفردیة لماهیة الأربعة ، والزوجیة لماهیة الثلاثة ، وکالتجرّد عن المکان والزمان بالنسبة إلی الجسم ، وهی المعبّر عنها بالماهیة بشرط لا .
الثالثة : فی الأوصاف التی لا وجوب لموصوفها ، ولا امتناع ؛ أی تکون ممکنة اللحوق ، کالسواد أو البیاض لماهیة الجسم الخارجی ، وکالوجود بالنسبة إلی الماهیة ، وهی المعبّر عنها بالماهیة لا بشرط .
فالماهیة بحسب نفس الأمر ، لا تخلو من إحدی هذه الحالات ، ولا تتخلّف عمّا هی علیه بورود الاعتبار علی خلافه ، وبهذا تخرج الأقسام عن التداخل ؛ إذ لکلّ واحد حدّ معیّن لا ینقلب عنه إلی الآخر ، کما یتضح الفرق بین اللابشرط المقسمی
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 528
والقسمی ؛ لأنّ المقسم نفس ذات الماهیة ، وهی موجودة فی جمیع الأقسام ، واللابشرط القسمی مقابل للقسمین بحسب نفس الأمر ، ومضادّ لهما .
فظهر : أنّ مناط صحّة التقسیم هو الواقع ، لا اعتبار المعتبر ، فالماهیة إن امتنع تخلّفها عمّا یقارنها فی واحد من مراتب الواقع ، فهی بالنسبة إلیه بشرط شیء ، وإن امتنع اتصافها به فهی بالنسبة إلیه بشرط لا ، وإن کان لها قابلیة الاتصاف من غیر لزوم ولا امتناع فهی بالنسبة إلیه لا بشرط ، کالأمثلة المتقدّمة .
ثمّ إنّ هذا التقسیم وإن کان للماهیة بلحاظ نفسها ، ولکن یمکن أن یجری فی کلّ شیء بالقیاس إلی أمر آخر؛ فیمکن جریانه فی الماهیة الموجودة ، کالتحیّز للجسم ، فإنّه لازم لوجود الجسم الخارجی ، وکالتجرّد عن المکان للموجود المجرّد . بل یمکن إجراؤه فی نفس الوجود أیضاً ، کما فعله بعض أهل الذوق فی حقیقة الوجود ، فإنّ النوریة واجبة اللحوق له ، کما أنّ العدم ممتنع اللحوق له .
إذا تمهّد لک ما ذکرنا ، سهل علیک معرفة الفرق الواضح بین اللابشرط المقسمی واللابشرط القسمی ؛ فإنّ اللابشرط المقسمی عبارة عن نفس الماهیة الموجودة فی جمیع الأقسام ، واللابشرط القسمی مقابل للقسمین ، ویکون التقابل بینهما واقعیاً وحقیقیاً ، کما یکون بین بشرط لا وبشرط شیء أیضاً واقعیاً ، فافهم واغتنم ، وکن من الشاکرین .
وقد أشرنا إلی أنّا لم نجد تصریحاً بما ذکرناه من أحد ، بل ربما یخالف ظاهر بعض کلماتهم ، إلاّ أنّ المظنون عندی أنّ ما ذکرناه مراد مهرة الفنّ ومحقّقیهم ، والله الهادی إلی سواء السبیل .
کتابجواهر الاصول (ج. ۴): تقریر ابحاث روح الله موسوی الامام الخمینی (س)صفحه 529